منذ بداية الاشتباكات بين الجيش الوطني السوداني وميليشيا الدعم السريع في الخامس عشر من أبريل المنصرم، لم يتوقف دور الدولة المصرية عند حماية أرواح مواطنيها في السودان وإجلائهم في أسرع وقت ممكن خارج مناطق الصراع، ولكنه كان أكثر شمولاً بعد التنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة لإجلاء رعاياهم وتقديم الدعم اللازم لهم؛ وقد بدا البعد الإنساني لتعامل الدولة المصرية مع الأزمة السودانية جلياً في تدشين مركز إغاثة متكامل على الحدود لدعم كل من تم إجلاؤهم دون تمييز واستقبال السودانيين الفارين من الصراع دون قيود، إضافةً إلى الدور الدبلوماسي المتزن للمؤسسات المصرية على المستويين الإقليمي والدولي للوصول إلى تهدئة مستدامة بين طرفي النزاع.
أفضلية مصرية في إجلاء الرعايا
بالتزامن مع اندلاع الاشتباكات وفي الوقت الذي ركزت فيه دولٌ أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة على إجلاء البعثات الدبلوماسية وأسرهم وإغلاق سفاراتهم في الخرطوم تاركين خلفهم مواطنيهم في حالة عدم يقين بشأن إمكانية إجلائهم، ظلّت البعثة الدبلوماسية المصرية تعمل بكامل طاقتها في بورتسودان ووادي حلفا وأعادت تمركز أفرادها في الخرطوم بعد تزايد التهديدات الأمنية واستشهاد أحد أعضائها هناك من أجل تنفيذ ومتابعة عمليات الخطة الوطنية لإجلاء المواطنين المصريين، وهو ما منح مصر أفضلية على باقي الدول في إجلاء مواطنيها الذين يقدر عددهم وفق التصريحات الرسمية بعشرة آلاف مواطن، حيث تمكنت من إعادة ما يناهز 7 آلاف مصري من مختلف أنحاء السودان.
الأمر لا يقتصر على إجلاء المصريين وتأمينهم فحسب، بل امتد ليشمل رعايا الدول الأخرى وموظفي الهيئات والمنظمات الدولية، بالإضافة إلى استقبال السودانيين الفارين من الصراع؛ فوفقاً للخارجية المصرية، استقبلت مصر حتى 30 أبريل ما يزيد عن 16 ألف وافد غير مصري بينهم 14 ألف سوداني وألفان ينتمون لخمسين جنسية مختلفة و6 منظمات دولية، ما يعني أن الحدود المصرية استقبلت خلال أسبوع واحد ما يزيد عن 23 ألف شخص فروا من السودان، الأمر الذي يمنحها أفضلية إذا ما قورنت بدول الجوار السوداني أو الدول صاحبة النفوذ في أفريقيا كما هو موضح بالجدول أدناه.

أعداد من تم إجلاؤهم من السودان
المصدر: رويترز – آخر تحديث 1 مايو 2023.
قد يُرجع البعض تلك الأفضلية المصرية في إجلاء الرعايا سواء المصريين أو أصحاب الجنسيات الأخرى إلى القرب الجغرافي الذي تتمتع به مصر مع السودان، ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب؛ ذلك أن السودان يتمتع بحدود كبيرة مع ست دول أخرى (ليبيا – جنوب السودان – تشاد – أفريقيا الوسطى – إثيوبيا – إريتريا)، ولكن هذه الدول لم تستقبل بأي حال من الأحوال نفس الأعداد التي استقبلتها مصر جراء النزاع في السودان، وهو ما يتضح من الجدول أدناه.
عدد الفارين من السودان إلى دول الجوار

* الأعداد تقديرية وفقاً لمفوضية اللاجئين، ولا توجد بيانات حول الفارين إلى ليبيا وإريتريا.
من الجدول السابق، يتضح أن تقديرات مفوضية اللاجئين تشير إلى عبور ما بين 10 إلى 20 ألف سوداني حدود تشاد، وهو ما يساوي أو يتجاوز عدد السودانيين الذي عبروا إلى داخل الحدود المصرية (14 ألف سوداني حتى 30 أبريل)، ولكن الأعداد المسجلة رسمياً في تشاد هي خمسة آلاف سوداني فقط، ما يجعل التقديرات محل شك. أيضاً، الأمر لا يتعلق بعبور الحدود فقط، وإنما بالطريقة التي تتعامل بها الدول مع من عبروا الحدود وتهيئة الظروف المعيشية الإنسانية لهم؛ فعلى جانب، يتمتع السودانيون في مصر بمعاملة لا تختلف عن تلك التي يعامل بها المواطنون المصريون، حيث يتمتعون بحرية الإقامة والتنقل والعمل والتنقل وفقاً لاتفاق التكامل المصري السوداني منذ 2004؛ وعلى جانب آخر، يعيش معظم السودانيين المقدر عددهم بحوالي 400 ألف سوداني في تشاد -كما هو الحال في دول الجوار الأخرى- في مخيمات للاجئين في المنطقة الحدودية، ولا تتوفر لديهم أبسط سبل العيش أو خدمات التعليم والصحة، الأمر الذي دفع الهيئات الدولية الداعمة لهم للبحث عن موارد مادية أكبر تساعدهم للوفاء بالحد الأدنى من احتياجاتهم.
مركز الإغاثة في أرقين .. الجميع آمنون
لم تمر أيام قليلة على اندلاع الاشتباكات في العاصمة السودانية حتى أقام الهلال الأحمر المصري مركزاً للإغاثة الإنسانية على الحدود المصرية السودانية عبر “منفذ أرقين البري” لتقديم كافة أوجه الدعم الممكنة لجميع الفارين من الصراع والذين تمكنت الدولة المصرية من إجلائهم إلى أراضيها على اختلاف جنسياتهم. ومنذ بدء فرق الإغاثة المصرية في ممارسة مهامهم، بدا واضحاً أن ما تقدمه هذه الفرق، رغم ضعف إمكاناتهم المادية مقارنةً بفرق الإغاثة التابعة للأمم المتحدة على اختلاف هيئاتها، يمثل نجاحاً مشابهاً لما قامت به الهيئات الإغاثية الدولية أثناء الحرب الروسية الأوكرانية لإدارة الأزمة الإنسانية وحماية المدنيين على الحدود وتأمينهم.
كذلك، أكدت فرق الإغاثة المصرية -التي تتعاون بشكل وثيق مع الجهات والهيئات والمعنية لتخفيف المعاناة عن المتضررين من النزاع السوداني- على كفاءتها بتقديم أكثر من 20 ألف خدمة خلال 10 أيام فقط، حيث قدمت خدمات الإسعافات الأولية بالإضافة إلى الأدوية والوجبات الغذائية الخفيفة لكل من يحتاجها ممن تمكنوا من الوصول إلى المنفذ الحدودي، وتميزت جهود هذه الفرق عن الجهود التقليدية أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، كونها وضعت الدعم النفسي لكبار السن والأطفال ضمن أولوياتها عند استقبالهم، ووفرت وسائل الاتصالات والإنترنت للجميع للاتصال بذويهم، كما ساهمت في جمع شمل الأسر التي فرّق طريق السفر الطويل (حوالي ألف كيلومتر) بين أفرادها.
الأمر لم يقتصر على تقديم دعم لحظي للعابرين يتمثل في الغذاء والدواء فقط، حيث واصلت جميع المؤسسات والمنظمات المصرية المعنية بإدارة الأزمة التنسيق فيما بينها لتسهيل انتقال جميع من تم إجلاؤهم من السودان إلى الأماكن التي يرغبون في الانتقال إليها؛ ففي الوقت الذي استغل فيه أصحاب الحافلات الوضع المتأزم ورفعوا سعر نقل الفرد برياً من السودان إلى مصر من 50 إلى 550 دولار، قامت وزارة النقل المصرية بالتنسيق مع سائقي الحافلات المصريين في الخرطوم ودنقلة لنقل الطلاب والأسر إلى ارقين، كما بدأت في تسيير قطارات إضافية يومياً من أسوان إلى القاهرة بالإضافة إلى الحافلات التي لا يتوقف عملها على مدار الساعة مقابل 350 جنيهاً للفرد (11 دولار فقط) دون تمييز بين المصريين وغيرهم لاحتواء أعداد النازحين والعائدين المتزايدة في أسوان.
خطوات متدرجة للتهدئة بين طرفي النزاع
إذا كان تقديم الإسعافات الأولية والأغذية والدعم النفسي وتسهيل الانتقالات والاتصالات يمثل جزءاً من إدارة الأزمة واحتواء الموقف الراهن، فإن الأهم من ذلك هو وقف القتال بشكل مستدام لمنع موجات النزوح القسري من المدن السودانية التي تستعر فيها الاشتباكات إلى مناطق أكثر أماناً، وهو الأمر الذي سعت الدولة المصرية إلى تحقيقه منذ اليوم الأول للنزاع، حيث بدأت مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية في اتخاذ خطوات متدرجة على الصعيدين الإقليمي والدولي لوقف النزاع وحقن دماء الأبرياء على أرض السودان الشقيق.
وتمثل موقف مصر منذ اللحظة الأولى في دعوة طرفي النزاع إلى الوقف الفوري لإطلاق النار غير المشروط وبما لا يقتصر على الأغراض الإنسانية والعودة إلى طاولة التفاوض حفاظاً على أرواح ومقدرات الشعب السوداني، وأكد موقف مصر الثابت على أن ما يحدث في السودان هو شأن داخلي لا يجوز لأي طرف خارجي التدخل فيه بأي شكل يسمح بتأجيج الصراع ويهدد السلم والأمن ليس في السودان فقط، بل في الإقليم ككل؛ علاوةً على ذلك، فقد لفتت الدولة المصرية الانتباه في أكثر من مناسبة منذ اندلاع الاشتباكات إلى ضرورة الحفاظ على تماسك مؤسسات السودان وعدم تعريضها لخطر التفكك والانهيار، كما ركز الموقف المصري على أن استمرار النزاع الحالي من شأنه أن يسهم في تدهور الأوضاع الاقتصادية في السودان بشكل متسارع ويضاعف الأعباء على السودانيين بما يستوجب التدخل بشكل عاجل لمنع تفاقم الأزمة الاقتصادية هناك.
وانطلاقاً من ذلك الموقف، فقد أكدت الخارجية المصرية على فتح قنوات اتصال مباشرة مع طرفي النزاع في السودان باستمرار لتشجيعهما على وقف الأعمال العدائية؛ ولعل أبرز الخطوات التي اتخذتها مصر مع بداية الأزمة هي التواصل مع جنوب السودان وعرض الوساطة لإنهاء هذا الصراع، إلا أن هذا العرض –شأنه شأن باقي دعوات التهدئة من أطراف دولية مختلفة- لم يلقَ الاستجابة المأمولة من طرفي النزاع. ولم يتوقف الأمر عند التنسيق مع جنوب السودان وعرض الوساطة، حيث استمرت مصر في التواصل مع الإمارات العربية المتحدة لما تتمتع به الأخيرة من علاقات جيدة مع قائد ميليشيا الدعم السريع لبحث سبل التهدئة في السودان.
وامتدت الجهود المصرية لإيجاد سبل تسمح بتهدئة مستدامة في السودان من خلال التواصل الفعال مع حكومات الدول العربية الشقيقة ودول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والصين بشكل فردي لمناقشة تطورات الأوضاع وتأثيراته المستقبلية على المنطقة ككل وبحث سبل التهدئة، لتنتقل بملف الأزمة بعد ذلك إلى مستوى الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية المتمثلة في:
- جامعة الدول العربية التي انعقدت في دروة غير عادية بدعوة مصرية سعودية لمناقشة الأزمة في السودان، وأكدت الجامعة العربية في بيانها الختامي على نفس نقاط الموقف المصري المذكورة عاليه.
- الاتحاد الأفريقي الذي عقد اجتماعاً وزارياً خاصاً بمشاركة وزراء خارجية دول جوار السودان، والدول الأفريقية الأعضاء بمجلس الأمن والدول دائمة العضوية بالمجلس وسكرتير عام الأمم المتحدة وأمين عام جامعة الدول العربية وممثل الاتحاد الأوروبي وممثل منظمة الإيجاد بهدف توحيد الجهود والتحرك الجماعي لإنهاء النزاع العسكري في السودان.
- مجلس الأمن الذي عقد جلسة خاصة لمناقشة الوضع في السودان أكدت خلالها مصر على نفس موقفها واستعدادها لتقديم الدعم اللازم للعودة بالسودان إلى مسار التهدئة والحوار السلمي.
من كل ما سبق، يتضح أن الدولة المصرية تعد الأكثر تأثراً بالوضع الراهن في السودان من بين دول الجوار السوداني، حيث استقبلت ومازالت تستقبل أعداداً كبيرة من النازحين السودانيين وغير السودانيين؛ وعلى الرغم من أن تأثير الأزمة الراهنة في السودان قد يتفاوت في درجة سلبيته على مصر في المستقبل القريب، إلا إن خطوات الدولة المصرية منذ بداية الأزمة وحتى الآن تؤكد تمسكها بتحمل المسؤولية تجاه السودان الشقيق ومواطنيه وتركيزها على البعد الإنساني في التعامل مع النازحين إلى حدودها، واستمرار جهودها للوصول إلى تهدئة شاملة ومستدامة مع الحفاظ على تماسك مؤسسات الدولة، وهو ما يتطلب دعماً دولياً لا يقتصر على دعوة شفهية لأطراف النزاع إلى ضبط النفس.
رئيس وحدة دراسات القضايا الاجتماعية