كان الخبراء العسكريون على دراية بأن مقومات نجاح سريع وواضح للهجوم المضاد الأوكراني غير متوافرة، فلم يتم إلى الآن تزويد أوكرانيا بالطائرات ولا بعددٍ كافٍ من الدبابات والمدرعات والمدفعية، وكان بعضهم يعرف فيما يبدو أن الجيش الأوكراني يفتقر إلى بعض المهارات والقدرات، مثل التنسيق بين مختلف الأسلحة، واحتدم النقاش في أوساط جماعة السياسات الخارجية وفي أروقة الدولة وفي الأوساط العسكرية الغربية حول سؤال: “ماذا بعد”.
لا نزعم الإحاطة بكل ما يُقال وبتطور تصورات كل الفاعلين والمستشارين ومراكز الفكر، ولكننا نعتقد أنه من الممكن استعراض بعض الأسئلة التي يفرضها الواقع والردود عليها.
تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على موازين القوة الدولية
تراجع روسيا
يبدو واضحًا أن الحرب أيًا كانت نتيجتها، إلا لو تخلى الغرب عن أوكرانيا وقبل إعادة إدماج روسيا في الاقتصاد العالمي وهذا يبدو مستبعدًا تمامًا حاليًا، ستضعف روسيا وتسرع من أفولها وتعرض مواقعها ونفوذها في شرق آسيا والقوقاز وآسيا الوسطى للخطر، إذ سيكون لاستنزاف الموارد وللخسائر البشرية الكبيرة ولتأثير العقوبات ولإعادة الوحدة في صفوف الناتو ولضم الحلف لأعضاء جدد تأثير سيظهر حتمًا. هذه الحرب ضاعفت التهديدات التي تواجهها روسيا ولم تضعفها، ودفعت الغرب إلى إعادة تسليح نفسه، وأطالت خطوط المواجهة معه بضم فنلندا، وفقدت روسيا بحر البلطيق الذي أصبح بحرًا غربيًا، إلى جانب احتدام الصراع حول البحر الأسود.
أضعفت الحرب موقف من كان ينادي في الغرب بضرورة التماس الأعذار لروسيا وبتفهم دوافعها ومعالجة أسباب قلقها، ومن كان يقلل من شأن تهديدها ومن يرى أن الحلف الأطلسي “في حالة موت سريري”، أو أن عليه التركيز على تهديدات أخرى (آتية من الجنوب). كما أن الحرب قوت حجج القائلين بأن التفاوض مع الرئيس الروسي الحالي لا طائل منه ولا يجدي ولن يؤدي على أحسن الفروض إلا إلى هدنة تسمح لهذا النظام بالتقاط الأنفاس ومعاودة العدوان، وأن اللجوء الغربي إلى المفاوضات إن اتضحت ضرورته سيكون المقصود منه كسب الوقت للتعامل مع التهديد الروسي، أي إن أيّ تفاوض غربي مع موسكو حاليًا لن يقلل من التهديدات التي تواجهها روسيا.
ونكتفي هنا بإشارات سريعة إلى التساؤلات حول الوضع الداخلي واستقرار النظام، أيًا كانت حقيقة موقف الرأي العام الروسي من الحرب ومن السلطة ومدى حقيقة وتأثير وجود انقسامات في نخبة الحكم وتوترات بين القوميات المختلفة للاتحاد الروسي فإنه من الواضح أن النظام لا يثق تمامًا في صلابة الجبهة الداخلية، فهو تفادى الإعلان عن التعبئة العامة، رغم حاجته الماسّة إليها، ويضطر إلى تقديم مكافآت سخية للغاية للحثّ على التطوع، ويبدو واضحًا أن الوضع الاقتصادي مصدر قلق للطبقات الوسطى الروسية، وأن قدرة السلطات على توفير الأمن ضعفت، وأن روسيا فقدت عشرات الآلاف من الكوادر التي هربت إلى جانب الخسائر في الأرواح.
الغرب بين الحرب الروسية والتعامل مع الصعود الصيني ومعضلات الصناعات الحربية
السؤال الذي يشغل الكثيرين هو تأثير هذه الحرب على المنافسة/الصراع الأمريكي الصيني، هناك من يرى أن المساعدات الضخمة لأوكرانيا تتم على حساب الاستعداد لمواجهة الصين وتقوية التواجد في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ويزيد من حدة المشكلة عجز الغرب عن زيادة إنتاجه الحربي زيادة كافية، فهناك نقص في العمالة المؤهلة، وتنافس بين الشركات حول المواد الأولية النادرة، وسؤال مشروع للقطاع الخاص. عليه أن يمد بسرعة كل الجيوش الغربية وغيرها من قوات الحلفاء بما يسمح لها بالتجديد والتحديث، وأن يفعلها بسرعة، أي عليه تكثيف الإنتاج حاليًا، وهذا صعب، لا سيما أنه قد يضطر إلى تسريح عدد كبير من العمالة في نهاية العقد الحالي أو قبله أو بعده بقليل إن عاد الطلب إلى الانخفاض، بمعنى آخر هناك تساؤلات حول القدرة على التعامل مع مستويات الطلب الحالي وحول استمرارية هذه المستويات.
إلى جانب هذا فإن التعامل مع ضرورات سد أوجه النقص المريعة وتكلفته قد يتم على حساب تمويل أسلحة المستقبل. هذا واضح مثلًا في أوجه الإنفاق العسكري الألماني منذ بداية الغزو. لا يمكن للجيوش الأوروبية انتظار تصميم واختبار وبدء تصنيع أسلحة المستقبل (المنتظر دخولها الخدمة في النصف الثاني من العقد المقبل)، عليها أن تسد بسرعة أوجه النقص الموجودة وكلفة هذا قد يعرض بعض مشروعات المستقبل للخطر.
وهناك تساؤلات حول السياسة الصناعية الأمثل، وفهم الغربيون مؤخرًا أخطار وأخطاء السياسات التي اتبعت في التسعينيات من القرن الماضي، القائمة على خلق كيانات كبيرة بإجبار بعض الشركات على الاندماج، وكان المقصود ضغط الإنفاق، فوجود عدة منافسين صغار أو متوسطين في مجال ما يتسبب في زيادة كبيرة في الإنفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، ولكن نتيجة هذه السياسة هي اختفاء المنافسة واختفاء الدافع إلى تقليل الثمن الذي يدفعه العميل لتمتع بعض الشركات بوضع مهيمن شبه احتكاري، وسؤال السياسة الصناعية يفرض نفسه في أوروبا التي تتساءل عن جدوى وجود عدد كبير من الشركات المتخصصة.
وفي المقابل، هناك من يرى أن مواجهة الصين والتصدي لمشروعها يقتضيان المزيد من الدعم لأوكرانيا، فالمزيد من الإضعاف لروسيا يسمح للغرب بعد ذلك بالتفرغ للصين، ويرسل رسالة طمأنة لحلفاء الغرب في آسيا، ورسالة تحذير للصين مفادها أن قيامها باسترداد تايوان بوسائل غير سلمية لن يمر مرور الكرام، واستمرار الدعم لأوكرانيا يفرض على أوروبا عدم العودة إلى استهتارها التقليدي بالتهديدات الأمنية والتخلي عن التصورات الساذجة التي ترى أن تكثيف العلاقات الاقتصادية مع الدول الساعية إلى إنهاء عصر الهيمنة الغربية من شأنه دفع هذه الدول إلى الاكتفاء بالوضع الراهن، والتي لا تنتبه إلى كون التكامل الاقتصادي سلاحًا ذا حدين.
من الواضح أن حجج الطرفين وجيهة، من ناحية فشل الغرب في إجبار روسيا على التراجع سيرسل رسالة بالغة الأهمية لكل الدول الساعية إلى إنهاء الهيمنة الغربية يشجعها على الاستمرار في سياساتها العدوانية مثلما قرأ الرئيس بوتين الانسحاب من أفغانستان على أنه دليل على ضعف الغرب، وشجّعه هذا على التوسع، ولكنه من الواضح أيضًا أن الدعم الكثيف لأوكرانيا يتم على حساب الاستعدادات لمواجهة الصين.
وبالتالي، فإن المفاضلة بين مواقف الفريقين تقتضي الرد على سؤال قدرة الغرب على زيادة الإنفاق العسكري ليعود إلى مستوياته أثناء الحرب الباردة على الأقل وعلى تقوية جيوشه وعلى رد اعتبار للاعتبارات الأمنية وعلى تغيير توجهات الرأي العام ولا سيما في أوروبا، وعلى مستقبل الثورات العلمية والتكنولوجية في عدد كبير من المجالات، وتقتضي أيضًا تحديد المستوى المطلوب الوصول إليه، وبالتالي تحديد مستقبل قوة الصين وقوة روسيا وقوة الدول المناوئة الأخرى.
المعلوم والمجهول في تطور موازين القوة وفي مستقبل أوروبا
وفيما يتعلق بهذه الأسئلة فإن الغموض والضبابية أسياد الموقف، وتلعب أيديولوجيا المحلل ومجالات تخصصه دورًا لا يُستهان به في صياغة ردوده، نعم واضح أن روسيا قوة في تراجع عاجزة عن مجاراة الدول الأخرى فيما يتعلق بالنهضة الاقتصادية، وهرمها السكاني مثير للقلق مع تراجع نسبة المواليد ومع التكلفة البشرية للحرب، واستقرارها السياسي معرض لخطر شديد، وفي المقابل فهي دولة ثرواتها الطبيعية كبيرة ولها جيش قوي وشعب يبدو قادرًا على تحمل ما لا يتحمله غيره، كل هذا قد يدفعها إلى مزيد من المغامرات الخارجية، وقد يدفعها إلى وقفة طويلة لمعالجة مشكلاتها الداخلية، أو على الأقل إلى تقليل طموحاتها الخارجية، ويبدو أن خيار المغامرات الخارجية هو المفضل لدى القيادة الحالية. وأيًا كان الأمر فإن الكثير سيتوقف على عاملين لا يمكن توقعهما، مستقبل العلاقة مع الصين وتركيا الطامعتين في وراثة نفوذ روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأقصى (وربما في سيبيريا)، ومستقبل نظام الرئيس بوتين.
فيما يتعلق بأوروبا نلاحظ أنه لا يمكن وضع كل الدول في نفس السلة، ولكن يبقى أنني شديد التشاؤم فيما يتعلق بمستقبل القارة، دعوني أقول إن دول القارة تواجه سلة من التحديات المرعبة تقتضي مراجعة شاملة. هذه حقيقة يتفق عليها الجميع. وأتصور وقد أكون مخطئًا أنها ستكون عاجزة عن مواجهتها كلها. في هذا البحث لا أتعرض لكلفة إعادة بناء أوكرانيا، وهي تحدٍ رهيب قائم بذاته، قام النموذج الألماني –الدولة التي تهندس سياسات القارة ولها وزن طاغٍ- على الاعتماد على طاقة رخيصة آتية من روسيا، وعلى تبادل تجاري كثيف مع الدول الصاعدة ولا سيما الصين، وعلى توطين مصانعها خارج ألمانيا، وعلى تفادي تكلفة الدفاع والأمن وترك آخرين يتحملونها وعلى عدم التعامل مع المشكلة الكبرى وهي ضعف معدلات الإنجاب، واتبعت سياسة اقتصادية ذكية خدمت مصالحها وسمحت بالنجاح في دمج ألمانيا الشرقية اقتصاديًا، ولكنها أضعفت عن قصد أو بدونه اقتصاديات فرنسا وإيطاليا، والإنصاف يقتضي الإشارة إلى دور سياسات تلك الدول الخاطئة في إضعاف قدراتها. والآن لم تعد هناك طاقة رخيصة بعد أن اتضح مدى توظيف الرئيس بوتين لهذا “السلاح”، وبات مستحيلًا إهمال الملفات الأمنية والدفاعية، ولا سيما مع الميل الأمريكي المتصاعد إلى التركيز على الصين أو إلى الانعزال، وأبرزت أزمات الجائحة وحرب أوكرانيا مخاطر التجارة مع دول مناوئة للغرب، وارتفعت وتيرة رفض الشعوب الأوروبية للهجرة التي تتصور نخبها أنها الحل لمشكلة الهرم السكاني. وبصفة عامة، ترتفع في عدة دول حدة التصدعات الداخلية بين أحزاب الحكم والأحزاب المتطرفة، وتلوح في الأفق مشكلة الديون الفرنسية والإيطالية التي ستؤثر سلبًا على اقتصاديات المنطقة، وهناك عجز الدول الأوروبية على مجاراة الولايات المتحدة والصين في اقتصاد المعلومات وهو العمود الفقري لاقتصاديات العصر. الشركات الكبرى في مجال المعلومات إما أمريكية أم صينية. نعم هناك في أوروبا قواعد هامة من العلميين ولكن عملهم لا يؤدي إلى تأسيس مشروعات اقتصادية كبرى في المجالات الجديدة، وهناك أخيرًا وليس آخرًا مشكلات الانتقال إلى اقتصاد أخضر، والتعامل مع آثار الاحتباس الحراري التي تزداد جسامة كل سنة.
وإلى جانب ارتفاع كلفة التعامل مع كل هذه التحديات والتغيير الشامل لعدد كبير من المنظومات الذي يفرضه هذا التعامل فإن الحالة الثقافية وتوجهات الرأي العام والنخب تشكل تحديًا كبيرًا. إلغاء الخدمة العسكرية أفقد الدول إحدى أهم مؤسسات الدمج الوطني، وأثر بالسلب على فهم الشعوب لقضايا الاستراتيجية والأمن والحرب، وفقدت المهن العسكرية الكثير من بريقها، ولا تجذب الشباب في أغلب الدول، قد تكون فرنسا وبولندا وفنلندا استثناءات هامة. وبصفة عامة فإن “المزاج العام” يميل إلى رفض أي قيد على الحرية الشخصية، وإلى تصور العلاقة مع الدولة على أنها أساسًا علاقة تبادلية، دفع ضرائب مقابل مزيد من الحقوق، أي إلى رفض فكرة “الموت دفاعًا عن الوطن”. قد يتسبب السلوك الروسي والتهديد الذي يمثله في تغيير جذري في هذه التصورات، ولكننا لا نرصد ما يدل على هذا.
قد تكون هذه النظرة بالغة القتامة ومتأثرة بما نعرفه عن عمق الأزمة الفرنسية وجسامتها، وقد نخطئ عندما نقلل من شأن قدرة الألمان على رسم وتنفيذ سياسات رشيدة متأثرين برأينا في خصائص نظامهم السياسي الذي يعقد بل يعرقل عملية اتخاذ القرار في أغلب الملفات الهامة، وقد لا نعير كفاءة الطبقات الوسطى الأوروبية الوزن الذي تستحقه، ولنجاح دول الاتحاد الأوروبي في تبني مواقف واحدة الأهمية اللازمة، ولذلك قد يكون من الأدق اعتبار الوضع خطيرًا للغاية مع عدم حسم قضية قدرة الأوروبيين على التعامل معه.
الصين والولايات المتحدة أهم الفرقاء – مدخل لا بد منه
الأسئلة الأكثر غموضًا متعلقة بمستقبل الصين والولايات المتحدة، الرد على سؤال الصيغة السياسية والاجتماعية الأكثر قدرة على النهوض الاقتصادي يتغير من خبير إلى آخر كل حسب توجهه وخياراته الأيديولوجية، وتوقعاته حول قدرة العملاقين على تصحيح مسارهما. من الواضح أن النهوض الصيني السريع لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ولا شك أن الولايات المتحدة نجحت في اعتلاء القمة رغم إدمان نخبها السياسية اختيار سياسات خاطئة وارتكاب حماقات مذهلة، والفضل كل الفضل يعود إلى كفاءة مؤسساتها الأخرى الجامعية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ولكن السؤال ليس حول تقييم الماضي بل تقييم الحاضر والمسارات الحالية وتبعاتها المستقبلية، وتحديدًا: هل الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة صحي أم لا؟ هل تشكل سياسات القيادة الصينية ردة عن خط الزعيم الراحل دنغ تفسد وتبطل مقومات النجاح التي قامت عليها نهضة الصين؟ أم تعميق لها؟ ما هي الدولة التي ستحسم لصالحها المنافسة العلمية والصراع على الموارد؟ كيف ستدير الصين مشكلتها السكانية؟ كيف نقارن كفاءة القوات المسلحة لكل من الدولتين؟ أي الدولتين الأقدر على عقد تحالفات خارجية تساعدها ولا تعرقلها؟ هل تستطيع الصين ضم تايوان صاحبة الصناعات الاستراتيجية الهامة في المستقبل المنظور؟ هل ستستغل الصين التراجع الروسي وكيف؟
هذه الأسئلة تتطلب بحثًا مستقلًا، وقبله علينا البحث في سيناريوهات مسارات الحرب الروسية الأوكرانية وفي إدارة الغرب والصين لها.