أمن الطاقة أصبح مكون رئيس وركن أساسي من مكونات الأمن القومي لأي دولة من دول العالم، وأصبح حماية أمن الطاقة لا يقل أهمية عن حماية أراضيها ضد أي عدوان خارجي. وهو الأمر الذي دفع الدول الكبرى إلي وضع استراتيجيات واضحة لتحقيق أمن الطاقة، وأيضًا دفع العديد من دول العالم إلي الصراع والتنافس من أجل السيطرة على الحصة الأكبر من موارد الطاقة والبترول والتحكم في منابعه والسيطرة على مراكز إمداداته.
مدخل:
صدمة قطع إمدادات النفط التي حدثت في أكتوبر 1973 كانت بمثابة تخلي واشنطن عن استقلالها في مجال الطاقة، وما تلا ذلك من عواقب خطيرة، التي لها ظروف مشابهة ومثيرة للقلق اليوم. في عام 1960، استوردت أمريكا 10% فقط من النفط الذي تستهلكه. ولكن مع ارتفاع الطلب وتكاليف الإنتاج المحلي، أصبحت الواردات أرخص، وبحلول عام 1973، عشية الأزمة، بلغ إجمالي واردات النفط 34% من الاستهلاك المحلي، وكان أغلبها من الشرق الأوسط الذي كان يشهد اضطرابًا متصاعدًا.
والآن وبعد حوالي 50 عامًا، هناك دعوات لقطع إمدادات النفط والغاز عن الدول الغربية لموقفها العدواني تجاه غزة، بخاصة أن هذه الأيام تصادف الذكرى رقم 50 للمقاطعة النفطية أثناء حرب أكتوبر 1973، حيث يتوافر الآن كم هائل من المعلومات والبيانات التي تمكننا من تقييم آثار المقاطعة النفطية وفوائدها وعيوبها، وهي معلومات وبيانات لم تكن تتوافر وقتها لصُناع القرار، ويصعب على الخبراء تخيلها وقتئذ. حيث أدى ارتفاع الأسعار إلى تطوير مكامن نفطية جديدة خارج الشرق الأوسط وشجع الطاقة البديلة, وأحجمت المملكة العربية السعودية عن استخدام النفط كسلاح مباشر منذ ذلك الحين. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل هناك إمكانية لتوظيف النفط العربي كسلاح سياسي في الأزمة الراهنة وذلك علي غرار ما حدث في عام 1973؟ وهل لدي الدول العربية المنتجة للنفط الحرية المطلقة في ذلك أم هناك قيودًا تحول دون ذلك؟ وما هي طبيعتها وهل استخدام هذا السلاح سيحدث الأثر المرجو منه؟ أم يؤدي إلي نتائج عكسية تُضر بالقضايا العربية أكثر مما تنفعها؟
في البداية، المقاطعة النفطية في أعقاب حرب أكتوبر 1973 تُعد المقاطعة الثالثة، وليست الأولى، كما يتصور البعض، حيث أن المقاطعة الأولى كانت خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والثانية كانت خلال حرب 1967. ولذلك أي قراءة نقدية للمقاطعة النفطية لا تعني بالضرورة نقد تلك السياسات أو التقليل من أهمية تلك القرارات وقتها، وإنما تعني بكل بساطة أن 50 عاماً كافية لتقييم آثار تلك القرارات، واستخلاص الدروس والعبر المستفادة منها، إذ إن تقييم اليوم ناتج مما تعلمناه خلال 50 عامًا، وليس بناء على المعلومات المتوافرة وقت إعلان المقاطعة فقط.
قدرات الدول العربية في صناعة النفط العالمية:
تأتي السعودية على رأس قائمة أكبر الدول العربية المنتجة للنفط، مع احتلال المملكة الترتيب الثاني بقائمة كبار منتجي النفط عالميًا. حيث يؤدي إنتاج النفط في المنطقة العربية -خصوصًا الدول الخليجية منها- دورًا محوريًا في سوق النفط العالمي.
وفي الوقت الذي يعتمد فيه اقتصاد أغلب الدول العربية المنتجة للنفط، على بيع براميل الخام، يؤدي الوقود العربي دورًا رئيسًا في أمن الطاقة العالمي، إذ تعتمد دول عديدة حول العالم على النفط القادم من المنطقة العربية. حيث تقود المملكة العربية السعودية إنتاج النفط في المنطقة العربية وتشغل مكانة متقدمة على الصعيد العالمي، إذ تُعد أكبر عضو منتج للخام في منظمة أوبك، وتحتل المرتبة الثانية على المستوى العالمي بعد الولايات المتحدة، كما تُصنَّف بأنها أكبر مصدّر للنفط عالميًا.
ومع تصدُرها قائمة أكبر الدول العربية المنتجة للنفط، تراجعَ إنتاج السعودية من الخام بنهاية العام الماضي -الذي كان شاهدًا على بدء اشتعال الأسعار- إلى 10.6 مليون برميل يوميًا، مقابل 10.71 مليون برميل يوميًا في 2020، وفي عام 2021، قفزت إيرادات السعودية من صادرات النفط الخام لنحو 205.97 مليار دولار، مقابل 119.3 مليار دولار في 2020، كما هو موضح في الشكل التالي.
جاء العراق في المرتبة الثانية بقائمة أكبر الدول العربية المنتجة للنفط بعد السعودية، بحجم إنتاج وصل إلى 4.02 مليون برميل يوميًا خلال العام الماضي، متراجعًا بشكل هامشي عن مستوى عام 2020، والذي سجل فيه 4.1 مليون برميل يوميًا. واستفاد العراق من ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير، لتقفز إيرادات العراق خلال 13 شهرًا -من بداية يناير عام 2021 حتى يناير عام 2022– إلى 83.9 مليار دولار، كما هو موضح في الشكل التالي.
نظرًا لاحتياطات النفط لعام 2020، بلغت احتياطيات النفط التقليدي في العالم حوالي 1267.4 مليار برميل، وبلغت احتياطيات الدول العربية منها مليار 719.6 مليار برميل فيما بلغت باقي دول العالم حوالي 547.8 مليار برميل، وفقا لتقرير صادر عن منظمة الدول العربية المصدرة للنفط أوابك. حيث تصدرت فنزويلا عالميًا المركز الأول لاحتياطات النفط، لتبلغ حصتها من إجمالي الاحتياطي العالمي نسبة بلغت %17.5، و303.8 مليار برميل مع حلول نهاية عام 2020، وتلتها السعودية بحصة من إجمالي العالمي بلغت 17.2%، بمقدار 297.5 مليار برميل. وجاءت في المركز الثالث كندا بحصة من إجمالي الاحتياط العالمي بلغت 9.7% بمقدار 168 مليار برميل.
واستكمالًا لما سبق، الدول العربية تتمتع بمكانة هامة في أسواق النفط والغاز العالمية حاضراً ومستقبلاً، فهي تمتلك نسبة حوالي 56% من الاحتياطات العالمية المؤكدة من النفط الخام، وتستحوذ على حوالي 23.6% (مقابل 70% عام 1973) من الإنتاج العالمي للنفط، كما تستأثر بحصة 30.2% من إجمالي الصادرات النفطية العالمية.
ومن ناحية أخري، تُعد منطقة الشرق الأوسط موطنًا لعدة ممرات نقل نفط مهمة، بما في ذلك مضيق هرمز وقناة السويس ومضيق باب المندب. تعمل هذه الممرات كروابط حيوية تربط الخليج والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. ولذلك نجد أن التركيز الرئيس لأسواق النفط سينصب في المرحلة المقبلة علي تلك الممرات الاستراتيجية حيث يمر من خلالها أكثر من حوالي 60% من حجم النفط العالمي، كما هو موضح في الشكل التالي.
الاحتياطي الاستراتيجي العالمي من النفط:
يُمثل احتياطي النفط الإستراتيجي، أو المخزون الإستراتيجي، كميات النفط والمشتقات النفطية التي تخزنها الحكومات لاستخدامها في حالات الطوارئ وانقطاع الإمدادات. وهناك الكثير من الدول التي تملك مخزونات إستراتيجية أغلبها عضو في وكالة الطاقة الدولية، بالإضافة إلى دول أخرى مثل السعودية والصين، كما بدأت الهند مؤخرًا بناء مخزون إستراتيجي خاص بها.
حيث فكرت الحكومة الأمريكية في إنشاء مخزون نفط إستراتيجي عام 1944، إلا أن بناءه لم يتحقق إلا عام 1977، إثر المقاطعة النفطية التي فرضتها بعض الدول العربية علي واشنطن في أكتوبر 1973، بعد ذلك قامت الإدارة الأمريكية باستيراد النفط وتخزينه في مغاور ملحية في تكساس ولويزيانا.
حيث يضمن احتياطي النفط الإستراتيجي، تحقيق أمن الطاقة للولايات المتحدة الأمريكية، كما يقلل من تداعيات اضطراب الإمدادات النفطية المحتملة في الدولة صاحبة أكبر اقتصاد عالميًا.
وبموجب برنامج وكالة الطاقة الدولية، فإنه يجب أن تحتفظ الدول الأعضاء باحتياطيات نفطية تعادل استهلاك 90 يومًا من صافي واردات النفط والخام والمشتقات النفطية، كما هو موضح في الشكل التالي.
قامت حكومة الولايات المتحدة بالسحب من المخزون الإستراتيجي عدة مرات، منها: عند بداية حرب الخليج الثانية في بداية عام 1991، كما جرى السحب منه عدة مرات في عهد الرؤساء كلينتون وبوش وأوباما وترمب وبايدن، بهدف تخفيض العجز في الموازنة.
وفي أبريل من العام الحالي، أظهرت بيانات من وزارة الطاقة الأمريكية أن النفط الخام المخزن في الاحتياطي البترولي الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية انخفض بحوالي 1.6 مليون برميل إلى أدنى مستوياته منذ نحو 40 عامًا بسبب بيع نفط من مخزون الطوارئ بموجب تفويض. وانخفضت المخزونات في الاحتياطي البترولي الاستراتيجي إلى 368 مليون برميل، وهو أدنى مستوى منذ أكتوبر 1983. وباعت إدارة جو بايدن 26 مليون برميل من الخام من الاحتياطي هذا العام وذلك بموجب تفويض بالسحب من الكونجرس في السنوات السابقة، كما هو موضح في الشكل التالي.
الظروف المحيطة بالحظر النفطي عام 1973:
عاني الاقتصاد الأمريكي معاناة شديدة في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، بسبب انخفاض القدرة التنافسية للصناعات الأمريكية مع بروز اليابان وأوروبا، ونتيجة تعويم الدولار وفصله عن الذهب، وكان نيكسون يهدف إلى أن يربح البيت الأبيض لفترة ثانية. فلجأ الرئيس الجمهوري المحافظ إلى تبني نظام شيوعي صرف: فرض سقف للأسعار على أمور كثيرة، وهذا شمل أسعار النفط والغاز والمنتجات النفطية، ولذلك كان تحديد الأسعار كان سبب رئيس لطوابير البنزين.
في حرب أكتوبر نجح سلاح النفط العربي في توفير دعم كبير لمصر في حربها ضد اسرائيل بعد ان اتفقت دول الخليج علي تخفيض انتاج النفط وصادراته بحوالي 5% وذلك خلال اجتماع وزراء النفط العرب في دولة الكويت ولمدة 6 أشهر وليس هذا فحسب بل قدمت علي خطوة مهمة اخري بفرض حظر النفط إلي واشنطن وذلك لانحيازها لاسرائيل بالإضافة إلي هولندا والتي كانت شديدة التأييد لإسرائيل بعدما إن ارتفعت نسبة الخفض إلي حوالي 25%. وهو الأمر الذي أصاب الاقتصاد الأمريكي واقتصادات الدول الصناعية بنكسة شديدة لاعتمادها علي النفط بصورة رئيسة كمصدر للطاقة فضلًا عن إحداث خسائر شديدة فى الميزانية وارتفاع معدلات التضخم ومن ثم تعميق الكساد الاقتصادي.
ووفقًا لما سبق، توافرت العديد من الظروف الموضوعية التي جعلت من استخدام سلاح النفط في 1973 فاعلًا وناجحًا فى مقدمتها تمتع الدول العربية وخصوصًا الخليجية باحتياطيات ضخمة ومؤكدة سهلة الاكتشاف ومنخفظة التكاليف مقارنة بأي منطقة أخري في العالم آنذاك. حيث قدُر حجم الاحتياطيات النفطية العربية بحوالي 645 مليار برميل أي ما يعادل حوالي 62.1% من الاحتياطي العالمي البالغ أكثر من تريليون برميل، حيث تكفي لمدة تزيد علي 85 عامًا اذا ما استمر الإنتاج علي مستوياته الراهنة مقارنة بحوالي 10 سنوات فقط في الولايات المتحدة الأمريكية أو حوالي 21 سنة في روسيا وهو معدل مرتفع.
الظروف الحالية في أسواق النفط العالمية:
كل الظروف السابقة هي التي جعلت من استخدام النفط سلاحًا سياسيًا فعالًا في دعم مصر في حرب أكتوبر من عام 1973، ولكن تلك الظروف تغيرت ولم تعد كما كانت فثمة مستجدات حدثت علي الخريطة العالمية للنفط سواء من حيث المنتجين أو المستهلكين فضلًا عن طبيعة تغير الظروف الدولية الراهنة والصراعات الجيوسياسية.
حيث بات استخدام النفط كورقة ضغط سياسية علي غرار ما حدث عام 1973 مسألة صعبة وغير مجدية اقتصاديًا وذلك لكون سلبياتها فى الوقت الراهن أكثر بكثير من ايجابياتها لاسيما في ضوء الظروف وتبادل المعطيات السياسية والاقتصادية والأمنية على الساحتين الإقليمية والدولية بين عامي 1973 و 2023 والتي مثلت قيودًا على فاعلية استخدام النفط فى المواجهة الحالية والتي من الممكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولًا القيود الاقتصادية:
النفط هو شريان الحياة الاقتصادية بالنسبة للدول العربية ومن ثم فإن فقدان العائدات النفطية نتيجة لحظر أو خفض في الصادارات قضية ترفضها معظ الدول، وقد تكررت نفس المسالة في عام 2006 حين تصاعدت الأزمة والحرب بين لبنان وإسرائيل. وحين سُئل وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في ذلك الوقت، عما إذا كان يجب استخدام سلاح النفط إذا تصاعدت الحرب (إن السعودية أكبر مصدر للنفط فى العالم تعتقد إنه يجب عدم استخدام النفط كسلاح لأنه الشريان الاقتصادي والرئيس للدول العربية) فقال إنه يجب عدم الخلط بين المسألتين لأن النفط يُمثل إحدي القدرات الاقتصادية التي تحتاج إليها الدول للوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها.
ولذلك تبدو دلالة ما سبق إذا ما تم الأخذ فى الاعتبار الأهمية المحورية للقطاع النفطي فى الاقتصادات العربية فهو يُعد بمثابة القطاع القائد والمحرك لبقية قطاعات الاقتصاد حيث تبلغ مساهمته حوالي أكثر من 83% من إجمالي قيمة الصادرات العربية ونحو أكثر من حوالي 75% من الإيرادات العامة للدول وحوالي من 45% من إجمالي الناتج العربي، علي سبيل المثال، حققت المملكة العربية السعودية خلال العام الماضي إيرادات نفطية حوالي 253.37 مليار دولار بزيادة حوالي 83.6% عن عام 2021، وذلك بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع أسعار النفط، كما هو موضح في الشكل التالي.
ومن ثم فإن أي تراجع تشهده تلك العائدات من شأنه إحداث زيادة في العجوزات المالية لهذه الدول ونقصًا في مواردها من النقد الاجنبي لاستيراد مستلزماتها من السلع والخدمات ما قد يدفعها فى فخ الاستدانة الخارجية أو تحمل عبء اكبر من المديونية ناهيك عن تضرر مشاريعها وانجازاتها فى مجال البنية الأساسية والتي حققتها خلال الحقبة النفطية وهي الأمور التي لم تكن ذات أهمية قبل عام 1973. حيث لم يكن النفط قد تشعب في شتي مناحي الحياة ولم تكن اسعاره تتجاوز 4 دولارات آنذاك كما أنها لا تستقيم إطلاقًا مع توجهات الدول العربية نحو التنميو والإصلاح الاقتصادي للحاق بركب الدول المتقدمة. كما ان هذه الدول استثمرت خلال 50 عامًا اموالا ضخمة فى إقامة معامل تكرير فى الولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوروبية، وبالتالي فإن أي قطع للامدادات النفطية يعني إغلاق هذه المعامل وتحمل الدول العربية خسائر ضخمة قد تؤثر علي خطط التنمية.
ثانيًا القيود السياسية:
حظر النفط عن الأسواق الأمريكية والدولية لن تقابله الإدارة الأمريكية بالرضوخ والاستجداء لاسيما في انهيار التوازنات الدولية، واتباع واشنطن سياسة أكثر تطرفًا وعدائية وبالتحديد منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فقد تعمل علي حشد المجتمع الدولي كله وتدفعه إلي معاداة الدول العربية بدعوي الأخيرة تتحكم وتحتكر السوق النفطي وتضر بالأداء الاقتصادي العالمي وتسعي علي إدخاله في دوامة الركود ما قد يخولها بالحرية المطلقة لمواجهة هذا التصرف الذي يمكن إن تعتبره نوعًا من الأرهاب الاقتصادي تستدعي محاربته خاصة بعد اختلاط المفاهيم في العالم مؤخرًا بالإضافة إلي التغييرات الراهنة وقد يعطي ذلك الدول الغربية مبررًا لتجميد الأموال لديها بالخارج بحجة محاربة الأرهاب الاقتصادي. كما يمكن لواشنطن إن تفرض عقوبات اقتصادية علي الدول التي تتخذ قرار الحظر النفطي فقد سبق أن استصدرت تشريعًا من الكونجرس في مارس 2002 بأغلبية 372 صوتًا يقُضي بفرض عقوبات علي دول أوبك التي ترفض زيادة الإنتاج.
ثالثًا القيود النابعة من أوبك:
تتبني منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) رأيًا مفادة ضرورة تحييد النفط وعزله عن الصراعات السياسية وهو ما أكدت عليه خلال تاريخها وهو أن أوبك لا تؤيد ولا تريد استخدام النفط سلاحًا سياسيًا في أي صراع دائر ويعُكس هذا موقف المنظمة الهادف إلي ضمان استقرار العرض النفطي والحفاظ على أسعار النفط في السوق العالمي.
فضلًا عن إن أوبك، هي منظمة اقتصادية فى الأساس تعمل علي تنسيق السياسات الإنتاجية بين الدول المصدرة للنفط بما يحقق الاستقرار فى السوق وهي ليست منظمة سياسية وليس من حقها تبنى وجهات نظر سياسية معينة تؤثر في السلعة الأهم بالنسبة للاقتصاد العالمي. كما إانها تضم فى عضويتها دولًا غير عربية، وهي تعتمد علي النفط بصورة رئيسية فى مواجهة تحدياتها الاقتصادية مما يعني إن توافر الإجماع على حظر أو خفض بصورة شديدة سيكون مسالة غير مضمونة.
ولذلك أفادت مصادر عدة من منظمة أوبك، بأنها لا تخطط لعقد اجتماع استثنائي أو اتخاذ أي إجراء فوري بعد دعوة إيران أعضاء منظمة التعاون الإسلامي إلي فرض حظر نفطي على إسرائيل. مؤكدين أن المنظمة التي تنتج ثلث النفط العالمي وتضم عدة دول إسلامية من بينها إيران ليست سياسية، وأوضح جاسم البديوي الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، أن مجلس التعاون الخليجي يعمل كشريك واضح وصادق كمصدر للنفط مع المجتمع الدولي ولا يمكن أن يستخدم ذلك كسلاح بأي شكل من الأشكال.
رابعًا القيود التي تمارسها الوكالة الدولية للطاقة:
تعبر الوكالة الدولية للطاقة عن مصالح المستهلكين فى مواجهة أوبك ونجحت الوكالة التي تضم 28 دولة صناعية إلي حد كبير فى تحقيق جانب من أهدافها وهو التخلي التدريجي عن النفط الخليجي حتي لا يتكرر ما حدث فى عام 1973 من خلال عملها علي إيجاد بدائل جغرافية ونوعية لمصادر الطاقة بتطوير الإنتاج النفطي واستيراد النفط من مناطق أخري خارج منطقة الشرق الأوسط، فضلًا عن تغذية مخزوناتها الاستيراتيجية بشكل أصبحت مع مسألة قطع الإمدادات النفطية العربية عن الاقتصادات الغربية والتي لا تُشكل خطورة شديدة عليها كما كان عليه الوضع عام 1973 (سوق النفط اصبحت سوق مشترين لا بائعين).
خامسًا ظهور مناطق إنتاج جديدة:
اكتشاف النفط في مناطق كثيرة في العالم تنافس النفط العربي، فلم تُعد الدول العربية هي اللاعب الوحيد فى السوق النفطي العالمي حيث تراجعت حصتها من السوق الدولية من حوالي 70 إلي 23% وذلك نتيجة بروز منتجين جدد للنفط خارج منطقة الشرق الأوسط يمكنهم تعويض جانب من النقص بل وزيادة حصتهم فى السوق هذا ييعني إنه قد تحل دول أخري محل الدول العربية.
وربما كان الأكثر أهمية هو إدراك الولايات المتحدة الأمريكية لحاجتها المستمرة والمتصاعدة لنفط منطقة الخليج العربي. فقد حاولت الولايات المتحدة (وخاصة بعد تجربة حظر النفط العربي عام 1973 تخفيف اعتمادها على نفط المنطقة بحيث بلغت وارداتها منه نحو 502 ألف برميل يومياً فقط في عام 1985 (نحو 11.7% من صافي الواردات). وقد حدث ذلك بمحاولة التنويع في مصادر إمدادات الولايات المتحدة الأمريكية من النفط طوال الوقت وبعيدًا عن منطقة الشرق الأوسط. قد ترتب على ذلك زيادة الاعتماد أكثر على المصادر النفطية المتوافرة في نصف الكرة الغربي (كندا-المكسيك-فنزويلا- كولومبيا)، إلي جانب نيجيريا في أفريقيا.
واستكمالًا لما سبق، أن الدول التي دفعت بدول الخليج إلى المقاطعة لم تشترك فيها، منها العراق وليبيا، بل إن كلا البلدين زادا إنتاجهما وساعدا الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في الوقت الذي خفضت فيه دول الخليج الإنتاج في العديد من المناسبات.
بالإضافة إلي رفض الكونجرس الأمريكي الموافقة على أنبوب نفط ألاسكا مرات عدة، ولكن بمجرد إعلان المقاطعة، تمت الموافقة عليه، الذي جلب 2.5 مليون برميل يوميًا، وزيادة إنتاج النفط في بريطانيا والنرويج من بحر الشمال ليصل إلي 3 ملايين برميل يوميًا، وهو ما كان ليحدث لولا ارتفاع الأسعار في السبيعينات. حيث أن شركات النفط لم تتمكن من استخراجه من بحر الشمال بسبب ارتفاع التكاليف، ولكن مع ارتفاع الأسعار، قامت باستثمارات كبيرة نتج من هذا زيادة الإنتاج العالمي مع بداية الثمانينيات بأكثر من 5 ملايين برميل يوميًا، أسهمت في انهيار الأسواق ومعاناة دول الخليج في منتصف الثمانينيات.
وهنا تجب الإشارة إلي إن هذه الزيادات كانت في الدول الغربية، وبالقرب من الأسواق الرئيسة للنفط، كما تم تطوير منابع النفط في أكثر من 15 دولة لم تكن نفطية قبل المقاطعة، وما ساعد ثورة الصخري وتحول الولايات المتحدة الأمريكية من أكبر مستورد للنفط في العالم إلى أكبر منتج للنفط في العالم هو ارتفاع أسعار النفط في عامي 2007 و2008، ثم ارتفاعها مرة أخرى بين عامي 2012 و2014، وهذا أسهم في انهيار أسواق النفط في 2015.
في الثمانينيات انهارت أسعار النفط على الرغم من خسارة جزء كبير من إنتاج النفط العراقي والإيراني بسبب الحرب الدائرة بينهما في ذلك الوقت، ومقارنة ذلك في الأزمة الراهنة (السيناريو الحالي / مواجهة محصورة بين فلسطين وإسرائيل) لا فلسطين ولا إسرائيل تنتجان النفط، ومع هذا ارتفعت أسعاره بنحو حوالي 3% للبرميل الواحد، والسبب هو انخفاض الطلب على النفط وقتها مقارنة بالتوقعات بشكل كبير.
ولو نظرنا إلى التوقعات القديمة، فإن الطلب العالمي الحالي على النفط أقل مما كان متوقعًا بنحو حوالي 14 مليون برميل يوميًا، وهذا أكبر من كل صادرات دول الخليج حاليًا، لماذا؟ لأنه تحقق ما كان يخاف منه الملك السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز، فالغرب يريد رفع أسعار النفط كي يطوروا البدائل والتقنية، ويستغنون عن النفط العربي.
وعلي الجانب الآخر، نجد علي سبيل المثال النفط العماني، حوالي 98% يصُدر إلي الصين والهند واليابان وليس إلي الدول الغربية.
مجمل القول، العالم لا يعرف سوي لغة المصالح وقبلها لغة القوة والدول العربية لديها من الإمكانات والثروات الطبيعية ما يجعلهم أصحاب مصالح وقوة ضغط لا يسُتهان، ولكن فى ظل القيود السابقة واختلاف الظروف الحالية عن الوضع السابق في عام 1973، ووفقًا للمعطيات السابقة، فإن الحظر النفطي الآن ليس خيارًا مناسبًا، لأنه لا يؤدي إلى أي نتيجة، خاصة أن النفط الروسي يصل إلى أي مكان، حتى إلي الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية رغم كل العقوبات، كما أن كوبا التي تشهد مقاطعة منذ 70 عامًا ينطبق عليها الأمر نفسه. إن استخدام سلاح النفط (قوة الردع النفطية) فى الضغط يبدو مسألة صعبة وغير مجدية فى الوقت الحالي، حيث يتطلب تضحيات كبيرة من جانب الدول العربية قد تدخلها في مصادمات مع واشنطن ناهيك عن الازمات الاقتصادية والسياسية التي قد تتعرض لها. بالإضافة إلي أن أغلب المطالبين باستخدام سلاح النفط حاليًا، ليس لديهم نفط، ولذلك نجد أن أكبر مساهمة يمكن أن تقدمها دول الخليج هي الدعم السياسي والمالي.
وفي الأخير، إذا كان بوسع العالم أن يتعلم أي شيء من أزمة النفط في عام 1973، فهو إن النفط يُعد سلعة استراتيجية سياسية، وأن استقلال الطاقة لا يمكن اعتباره أمرًا مسلمًا به، فهو يتطلب جهدًا متواصلًا وإرادة سياسية.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة








