في عالمٍ تملؤه التحديات الاقتصادية المتسارعة عامًا تلو الآخر، ومع دق تقرير المخاطر العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي ناقوس الخطر بشأن ضرورة التصدي للأزمات الاقتصادية باعتبارها الخطر الأكبر الذي يواجه العالم خلال الأجل القصير، استمرت البنوك المركزية العالمية وخاصة الأسواق الناشئة في دعم احتياطاتها النقدية عبر زيادة مشترياتها من الذهب التي وصلت إلى مستوى قياسي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري.
اتجاهات سوق الذهب العالمية
استمر الطلب على الذهب من البنوك المركزية في الارتفاع بوتيرة تاريخية حتى الربع الثالث من عام 2023، حيث اشترت المصارف المركزية بشكل مجتمع نحو 337 طنًا خلال الثلاثة أشهر (يوليو، أغسطس، سبتمبر)، بزيادة تبلغ نحو 120% على أساس ربع سنوي، وهو ما يعتبر ثاني أعلى ربع ثالث على الإطلاق بعد الربع الثالث من عام 2022، كما يتبين أدناه:
الشكل 1- طلب البنوك المركزية على الذهب سنويًا (طن)
Source: World Gold Council, Gold Demand Trends Q3 2023.
يتبين من الرسم أعلاه أن مشتريات البنوك المركزية من الذهب بلغت 337.09 طنًا مقارنة بنحو 458.77 طنًا في الربع الثالث من العام الماضي 2022 بنسبة تراجع 27% على أساس سنوي، روغم ذلك كانت مشتريات البنوك المركزية من الذهب عند أعلى مستوياتها على الإطلاق خلال التسعة أشهر الأولى من العام الجاري، والتي وصلت إلى 800 طن بنسبة زيادة تبلغ 14% مقارنة بالعام الماضي، كما يُبين الشكل الآتي:
الشكل 1- طلب البنوك المركزية على الذهب خلال التسعة أشهر الأولى من العام
Source: World Gold Council, Gold Demand Trends Q3 2023.
ويعتبر البنك المركزي الصيني أكبر مشترٍ للذهب على مستوى العالم، حيث زاد احتياطاته من الذهب بمقدار 78 طنًا خلال الربع الماضي. ومنذ بداية العام، زاد بنك الشعب الصيني حيازته من الذهب بمقدار 181 طنًا، لتصل إلى 2192 طنًا (أي ما يعادل 4% من إجمالي الاحتياطي النقدي). كما واصل البنك المركزي البولندي وتيرة شراء الذهب مضيفًا 57 طنًا أخرى إلى 48 طنًا اشتراها في الربع الثاني، وبذلك يرتفع تراكم الذهب لديه منذ بداية العام إلى 105 أطنان، تماشيًا مع هدفه المعلن سابقًا وهو إضافة 100 طن إلى احتياطي الذهب. إلى جانب ذلك، انتعشت احتياطيات الذهب في تركيا إلى 668 طنًا بعد مشتريات بقيمة 39 طنًا في الربع الثالث، حيث تحول البنك المركزي مرة أخرى إلى صافي الشراء بعد مبيعاته الصافية في الربع الثاني من العام الجاري.
بالإضافة إلى ما سبق، قامت ثمانية بنوك أخرى بشراء ما لا يقل عن طن خلال الربع الثالث، مما يسلط الضوء على اتساع الطلب على الذهب، بلغ مشتريات الهند 9 أطنان، وأوزبكستان نحو 7 أطنان، والتشيك نحو 6 أطنان، وسنغافورة حوالي 4 أطنان، وقطر نحو 3 أطنان، وروسيا حوالي 3 أطنان، والفلبين حوالي 2 طن، وجمهورية قيرغيزستان 1 طن.
مُحركات دافعة
تسعى البنوك المركزية حول العالم لزيادة احتياطياتها من الذهب، تحوطًا من التضخم ولدعم اقتصادات بلادها والعملة الوطنية، وهو الاتجاه الذي عززته التغيرات الاقتصادية المتسارعة والتوترات الجيوسياسية التي فرضت مزيدًا من التحديات، ويُمكن استعراض أهم الأسباب التي تدفع البنوك المركزية لزيادة احتياطاتها من الذهب على النحو الآتي:
• تنويع سلة الاحتياطي النقدي: أدركت الاقتصادات الناشئة والنامية أهمية تنويع سلع العملات الأجنبية لدى بنوكها المركزية وتقليل انكشافها على الدولار من أجل تعزيز سعر صرف عملاتها المحلية، وقادت الصين هذا الاتجاه مدفوعةً بحاجتها المتزايدة إلى الابتعاد عن الاعتماد على الدولار الأمريكي وسط تصاعد التوترات السياسية مع واشنطن، لا سيما في ظل تاريخها الطويل في استغلال مكانة اقتصادها المهيمنة على الاقتصاد العالمي وحركة التجارة والتسويات الدولية عبر استخدام الدولار كسلاح (Dollar Weaponizing) من أجل تحقيق أهدافها الرامية للضغط على خصومها وإجبارها على الرضوخ لرغباتها، من خلال فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية والمالية، وهو ما دفع الدول الناشئة ومن بينها الصين للاتجاه لتنويع احتياطاتها النقدية.
• مواجهة الموجة التضخمية العالمية: أسفرت الحرب الروسية الأوكرانية عن ارتفاع حاد في معدلات التضخم العالمية نتيجة لاضطرابات سلاسل الإمداد والتوريد، واضطراب حركة التجارة العالمية، وتسليح السلع الأساسية، وهو ما نتج عنه تراجعات حادة في قيمة العملات المحلية للأسواق الناشئة، لذا فإن التضخم المرتفع الذي يبدو من المرجح أن يستمر لفترة أطول قد جعل من الذهب أداة تحوطية جذابة. وفي استطلاع أجراه مجلس الذهب العالمي، تتوقع 42% من البنوك المركزية انخفاض عدد الدولارات الأمريكية المحتفظ بها في الاحتياطي النقدي.
• التخفيف من حدة التوترات الجيوسياسية: تدرك جميع الدول حول العالم تداعيات استمرار التوترات الجيوسياسية على اقتصاداتها المحلية، ولذلك كانت بنوك الأسواق الناشئة والبلدان النامية هي المحرك الرئيسي لشراء الذهب على مدى السنوات العديدة الماضية لتعزيز الاستقرار أثناء الاضطرابات الاقتصادية، ونظرًا لكونها معرضة بشكل أكبر للمخاطر الناتجة عن التحولات في النظام الاقتصادي العالمي والانقسام المتزايد بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
استخلاصًا لما سبق، يتبين أن البنوك المركزية كانت من بين أبرز المشترين للذهب على مدار الأعوام السابقة وخاصة العام الجاري نظرًا للتوترات الجيوسياسية العالمية التي تزيد من ضبابية الآفاق الاقتصادية وترفع من معدلات التضخم مما يبرز المعدن الأصفر كأداة للتحوط من المخاطر والتحولات الاقتصادية العالمية.






























