بدأت محكمة العدل الدولية يوم الاثنين 19 فبراير عقد جلسات علنية بشأن التبعات القانونية الناشئة عن سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، هذا وتأتي الجلسات في سياق طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة الحصول على فتوى من المحكمة حول “التبعات القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن”، وستستمر هذه الجلسات لمدة ستة أيام بين 19 و26 فبراير الجاري.
ومن المقرر أن تستمع المحكمة خلال الجلسات إلى إحاطات من 52 دولة بالإضافة إلى ثلاث منظمات إقليمية؛ وهم الاتحاد الأفريقي، ومنظمة التعاون الإسلامي، بالإضافة لجامعة الدول العربية.
محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، تأسست عام 1945، وتقوم بدور مزدوج، يتمثل في:
أولًا: حل النزاعات القانونية التي ترفعها الدول إليها وفقًا للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية (كقضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بخصوص ممارسة إسرائيل أعمال إبادة جماعية في قطاع غزة).
ثانيًا: تقديم فتاوى واستشارات في المسائل القانونية المحالة إليها من أجهزة الأمم المتحدة ومجالات نشاطها وفقًا للمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، ولا يجوز للدول أن تطلب فتوى من المحكمة (كطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة الفتوى الحالية بشأن الممارسات الإسرائيلية).
وبالتالي طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها 247 في ديسمبر 2022 من محكمة العدل الدولية بإصدار فتوى بشأن مسألتين:
- الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن.
- تأثير سياسات إسرائيل وممارساتها على الوضع القانوني للاحتلال، بالإضافة للآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة.
فوفقًا لهذه الفتوى المطلوبة، يمكننا فهم أن محكمة العدل الدولية مطالبة بتحديد الآثار القانونية لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره (وهو حق أصيل ضمنته كافة المواثيق والمعاهدات الدولية ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966 والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، والبرتوكول الإضافي الأول لعام 1977 المتعلق بضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية)، إلى جانب البتّ في مدى قانونية الاحتلال الإسرائيلي من الأساس. جدير بالذكر كون هذه هي المرة الأولي التي يُطلب فيها من هيئة قضائية دولية البتّ في شرعية الاحتلال الإسرائيلي. وبالتالي فالمحكمة -وهي بصدد البحث في انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي- تخرجه من عبائته المؤقتة والتزاماته كسلطة قائمة بالاحتلال إلى جانب طول أمد هذا الاحتلال، وهو ما يخرجه عن مشروعيته المقررة وفقًا لأحكام القانون الدولي التي نظمت حالة الاحتلال باعتباره حالة مؤقتة.
وجب التنويه بأن رأي المحكمة غير ملزم للأجهزة التنفيذية للأمم المتحدة، لكن له حجة قانونية والتزام أخلاقي لدى الدول، بمعنى إذا تباينت المواقف واختلفت الآراء بشأن قضية أو أزمة ما فالأمر الفصل هنا يكون رأي محكمة العدل الدولية التي تنظر في تطبيق مبادئ القانون الدولي، وسيكون من الصعب على أي دولة أن تخالف هذا الرأي الاستشاري وفقًا لالتزاماتها الأخلاقية أمام العالم أجمع، ويمكن أن تصبح هذه الفتاوى في نهاية المطاف جزءًا من أعراف القانون الدولي، وهي ملزمة قانونًا للدول.
جدير بالذكر أن هذه الفتوى هي المرة الثانية التي تطلب فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة من محكمة العدل الدولية إصدار رأي استشاري يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة في ظل تصاعد الضغوط السياسية على إسرائيل بسبب حرب غزة، ولقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت في يوليو 2004، بأن الجدار العازل الذي تقيمه إسرائيل في الضفة الغربية ينتهك القانون الدولي ويجب تفكيكه، وعلى الرغم من هذا القرار إلا أنه لا يزال موجودًا حتى يومنا الحالي.
أولًا- محصلة النقاشات الدائرة والمشاركات الدولية:
خلال جلسات الاستماع التي بدأت في 19 من فبراير والتي ستستمر لـ26 من الشهر نفسه، كان وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، أول المتحدثين باعتبار أن فلسطين تحمل صفة عضو مراقب داخل المحكمة، حيث شددت فلسطين من خلال المرافعة الشفهية أمام المحكمة على ضرورة “إعلان أن الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني، ويجب أن ينتهي فورًا وبشكل كامل ودون قيد أو شرط”، مشيرة في الوقت نفسه إلى أن “الأحداث الحالية تظل أكبر اختبار لمصداقية النظام العالمي القائم على القانون، وهو اختبار لا يمكن للإنسانية أن تفشل فيه”
ولقد طلبت المملكة العربية السعودية من المحكمة بأن تعتبر الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بأنه غير قانوني، وأنه يجب على جميع الدول أن تتعاون لوضع حد لانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي مضيفةً أن “إسرائيل جعلت من المستحيل إقامة دولة فلسطينية عن طريق ضم أكثر من مليوني كيلو من الأراضي وبناء أكثر من 279 مستوطنة غير قانونية في الضفة الغربية”. كما طالبت المملكة في نهاية بيانها بالإنهاء غير المشروط والفوري للاحتلال نفسه.
كما قال سفير جمهورية جنوب أفريقيا فوسيموزي مادونسيلا خلال جلسة الاستماع العلنية أن الكيان الصهيوني “ينتهك القانون الدولي بشكل خطير ويجب وضع حد له” وطالب بضرورة محاسبة المسئولين عن الانتهاكات الخطيرة في غزة عالميًا، كما شدد على أن استمرار الكيان الصهيوني في بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة “انتهاك لاتفاقية جنيف”، وعلى أن “إقامة دولة فلسطينية هي الحل الدائم للصراع” وأكد على أن “تردد المجتمع الدولي في مساءلة إسرائيل عن سياساتها وممارساتها شجعها على اجتياز عتبة جديدة، وهي ارتكاب كبيرة الجرائم، وهي الإبادة الجماعية”.
وعلى الجانب الآخر شددت الولايات المتحدة على أنه لا يجب إلزام إسرائيل قانونيًا بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة دون أن تحصل على ضمانات أمنية، حيث قال المستشار القانوني في وزارة الخارجية الأميركية ريتشارد فيسيك: “لا يجب أن تخلص المحكمة إلى أن إسرائيل ملزمة قانونًا بالانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي المحتلة وأن أي تحرك نحو انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وغزة يتطلب النظر في الاحتياجات الأمنية الفعلية لإسرائيل”، وقال ممثل فرنسا دييجو كولاس: “إن استمرار إسرائيل في بناء المستوطنات “يقوض إقامة دولة فلسطينية” ذات سيادة وأكد على دعم بلاده الثابت لحل الدولتين، بما يضمن أمن إسرائيل وتطلعات الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة”.
هذا وقد قررت إسرائيل عدم المشاركة في جلسات الاستماع الشفهية، وقدمت بيانات مكتوبة إلى المحكمة في الموعد النهائي الذي حددته في 25 يوليو 2023، فوفقًا لموقع الأمم المتحدة قالت إسرائيل في بيانها المكتوب: إن السؤالين اللذين طرحهما قرار الجمعية العامة على المحكمة يمثلان تشويهًا واضحًا لتاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وواقعه الحالي.
وأضاف البيان أنه “من خلال الإشارة بإصبع الاتهام إلى جانب واحد فقط، فإن الأسئلة تتجاهل آلاف القتلى والجرحى الإسرائيليين الذين وقعوا ضحايا لأعمال الكراهية والإرهاب الفلسطينية، وهي أعمال لا تزال تعرض المدنيين الإسرائيليين والأمن القومي للخطر بشكل يومي”. وأشار البيان أيضًا إلى “فشل الأسئلة في تقدير وجود الاتفاقيات الإسرائيلية الفلسطينية، التي اتفق الجانبان بموجبها على حل الموضوع المعروض على المحكمة على وجه التحديد من خلال المفاوضات المباشرة”.
ونبّه بيان إسرائيل إلى أن الاستجابة لما وصفه “بالتزييف”، لن تؤدي سوى إلى دفع الطرفين إلى مزيد من التباعد بدلًا من المساعدة في تهيئة الظروف للتقريب بينهما.
ثانيًا- منطلقات المرافعة المصرية أمام محكمة العدل الدولية:
تقدمت مصر بمرافعة شفهية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، يوم 21 فبراير 2024، حيث شددت مصر على أن ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية هو جريمة في حق الإنسانية بينما لا يزال العالم يقف صامتًا أمام اتخاذ موقف حازم بحتمية إنهاء الاحتلال طويل المدى، وأشارت مصر إلى أنه بات من المستحيل تجاهل مسئولية الأطراف الدولية عن تغيير الوضع الراهن، فالاعتداءات الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة المحتل لا تزال مستمرة، حيث تجاوز أعداد الضحايا 29 ألفًا من أبناء الشعب الفلسطيني، وتم نقل وتهجير ما يقرب من 2.3 مليون شخص قسرًا، في انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي، وفي ظل عجز مجلس الأمن عن تحقيق وقف إطلاق النار بشكل فوري.
وشددت مصر على ضرورة التزام المجتمع الدولي وفقًا لمبادئ المسئولية الجماعية، بوقف الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة لأحكام القانون الدولي، ورفض أي آثار تنشأ عن الممارسات الإسرائيلية غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، من استيطان وتهجير وسلب للأراضي وعرقلة الشعب الفلسطيني عن تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، مؤكدة ضرورة قيام الأطراف الدولية بالضغط على إسرائيل للامتثال لمقررات الشرعية الدولية ذات الصِلة، واحترام أحكام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
لقد جاءت مرافعة مصر أمام محكمة العدل الدولية كاشفة لما حدث وما يحدث من قبل الاحتلال الإسرائيلي من انتهاكات غير قانونية تتم على الأراضي الفلسطينية، وعدوان على الشعب الفلسطيني، امتد لأكثر من 75 عامًا، ليكون أطول احتلال في العصر الحديث، فالمرافعة المصرية بمثابة استكمال للدور التاريخي المصري الداعم للشعب الفلسطيني والمتبني لقضيته في كافة المحافل الدولية.
هذا وتساهم هذه المرافعة في توعية المجتمع الدولي بحجم جرائم الاحتلال وتتضمن دعوة للمجتمع الدولي بضرورة اتخاذ موقف حازم تجاه تلك الانتهاكات غير الإنسانية وغير الشرعية، في ظل تركيز مصر في مرافعتها ومذكرتها ضد الاحتلال على جوهر القضية الفلسطينية والتي تتمثل في ضرورة إقامة دولة مستقلة، وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإبراز جرائم الحرب الإسرائيلية مثل الإبادة الجماعية والتهجير القسري وقتل المدنيين وتشريدهم.
ثالثًا- المتوقّع بعد إصدار فتوى المحكمة للجمعية العامة للأمم المتحدة:
في هذا التوقيت الدقيق وفي ظل الأزمة الإنسانية داخل قطاع غزة يُعد طرح الممارسات الإسرائيلية على طاولة محكمة العدل الدولية مهمًا جدًا ويخدم القضية الفلسطينية، خاصة في توسيع دائرة الاعتراف الدولي بدولة فلسطين حيث يعترف بها حاليًا 133 دولة من أصل 193 دولة عضوًا في الأمم المتحدة، ومن ثم الاستناد على هذا الاعتراف الدولي وتحويل دور فلسطين من عضو مراقب في المنظمات الدولية لدولة عضو؛ وبالتالي تعزيز إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.
على الرغم من عدم الإلزامية القانونية للفتاوى والاستشارات الصادرة عن المحكمة لأجهزة الأمم المتحدة، ولكن يجب الإشارة إلى أن السلطة والمكانة القضائية والدولية للمحكمة، منحت الفتاوى التي صدرت عنها وزنًا وقدرًا قانونيًا وحقوقيًا يُعتد به دوليًا وأمميًا، كما أن فتاوى واستشارات المحكمة تنبثق بالأساس عن القانون الدولي، الملزم بطبيعة الحال للدول والهيئات؛ وبالتالي لا يمكن تبرير تصرف الدول بما يتعارض مع هذه الفتاوى، بدعوى عدم إلزاميتها باعتبارها تفسر وتوضح ما هو ملزم أصلًا لهذه الدول، وبالتالي حتى وإن صدرت قرارات المحكمة ولم تلتزم بها الجمعية العامة للأمم المتحدة فإنها ستلقى صدى سياسيًا ودبلوماسيًا عالميًا واسعًا بما سيدعم القضية الفلسطينية ويعزز إقامة الدولة الفلسطينية.
إن تركيز المحكمة على حق الشعب الفلسطيني في طلب الفتوى يعني أنه يتعين على المحكمة البتّ في أثر السياسات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني بأكمله، باعتباره شعبًا واحدًا بمصير واحد، وبالتالي فالمحكمة ستتناول كافة مناطق فلسطين بما فيها القدس الشرقية وغزة والضفة الغربية، وأيضًا الفلسطينيين داخل إسرائيل وحقوقهم ومسألة مساواتهم بالمواطنين اليهود هناك، بالإضافة إلى تناول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة.
فلا نزال في انتظار انتهاء جلسات استماع المحكمة للدول والمنظمات واستصدار الفتوى حول التبعات القانونية لممارسات الاحتلال الإسرائيلي، والتي ترقى للجرائم الجماعية وممارسة التطهير العرقي بشأن الفلسطينيين، والتي ستُعدّ رأيًا استشاريًا مهمًا للجمعية العامة للأمم المتحدة ومن المتوقع أن يكون أساسًا قويًا لتغيير بيئة القانون الدولي الحاكم للعالم أجمع.