في إطار التزام جمهورية مصر العربية المستمر بتعهداتها الدولية والإقليمية في مجال حقوق الإنسان، خضعت البلاد للمراجعة الرابعة في إطار آلية الاستعراض الدوري الشامل، التي يشرف عليها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فقد تم تقديم التقرير الوطني المصري في أكتوبر الماضي، حيث تم مناقشته خلال الدورة الثامنة والأربعين للمجلس في يوم 28 يناير 2025، ويغطي التقرير الذي يتألف من 25 صفحة، الجهود المبذولة من قبل الدولة المصرية في تعزيز حقوق الإنسان في مجالات الحقوق المدنية والسياسية، إضافة إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع تسليط الضوء على 14 محورًا رئيسيًا في هذا الشأن، إن خضوع مصر لهذه الآلية يمثل دليلًا على استعدادها الكامل لتقبل الملاحظات والمراجعات الدولية، ويعكس التزامها الثابت بتحقيق تقدم ملموس في تعزيز حقوق الإنسان، مع مراعاة التحديات المحلية والإقليمية والدولية التي تواجهها البلاد.
ارتباطًا بما سبق فستتضمن هذه الورقة قراءة تحليلية لكلمة مصر أمام آلية الاستعراض الدوري الشامل بمجلس حقوق الإنسان، من خلال تحليل محتوى الكلمة والتقرير الوطني المقدم مع تسليط الضوء على الجهود التي تبذلها مصر في مجالات حقوق الإنسان المختلفة، كما ستناقش كيفية معالجة مصر للتوصيات والملاحظات الواردة في الجولات السابقة من المراجعة، فالهدف من هذه القراءة هو تقديم تقييم شامل حول التزام مصر المستمر بتعزيز حقوق الإنسان وفقًا للمعايير الدولية.
أولًا: الاستعراض الدوري الشامل وآلية تقييم التزامات الدول في حقوق الإنسان
أسست آلية الاستعراض الدوري الشامل من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2006، وتُنفذ هذه الآلية من قبل مجموعة العمل الحكومية الدولية التابعة لمجلس حقوق الإنسان، فيهدف الاستعراض الدوري الشامل إلى تقييم مدى التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (التي يبلغ عددها 193 دولة) بتعهداتها والتزاماتها في مجال حقوق الإنسان وفقًا لمجموعة من المعايير الأساسية، وهي:
- ميثاق الأمم المتحدة
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
- الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان التي تكون الدولة طرفًا فيها
- التعهدات الطوعية التي قدمتها الدولة (مثل السياسات والبرامج الوطنية المتعلقة بحقوق الإنسان)
- القوانين الإنسانية الدولية المطبقة.
تتم عملية الاستعراض الدوري الشامل على فترات منتظمة، تمتد عادة من 4 إلى 5 سنوات، بحيث يتم تقييم مدى تقدم الدول في مجال حقوق الإنسان بشكل مستمر، وتعتبر هذه الآلية تقييمًا متبادلة تقودها الدول نفسها، حيث تتم مراجعة أداء جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وفقًا للمعايير نفسها؛ مما يضمن تحقيق مبدأ العدالة والمساواة في التقييم.
كما يهدف الاستعراض الدوري الشامل إلى تقييم مدى التزام الدول الأعضاء بالتعهدات والالتزامات المتعلقة بحقوق الإنسان، ويوفر فرصة لتبادل أفضل الممارسات بين الدول؛ مما يسهم في تحسين حالة حقوق الإنسان على المستوى الوطني. في حين أن التوصيات التي يقدمها الخبراء من خلال هيئات المعاهدات وآليات الإجراءات الخاصة تسهم في تعزيز العمل الحقوقي، فإن الاستعراض الدوري الشامل يُعد آلية تقودها الدول بنفسها، حيث تقبل الدول الطوعية التوصيات المقدمة من الدول الأخرى. بناءً على ذلك، يمكن أن تشكل قائمة التوصيات المعتمدة نقطة انطلاق مثالية لبدء حوار بين الحكومة والأمم المتحدة، حول المجالات التي تتطلب الدعم الفني والمشورة.
في هذا السياق، خضعت مصر لآلية الاستعراض الدوري الشامل في أربع جولات حتى الآن، كانت الجولة الأولى في عام 2010، تلتها الجولة الثانية في 2014، ثم الجولة الثالثة في 2019، وفي كل من هذه الجولات قدمت مصر تقاريرها الوطنية التي استعرضت التقدم الذي أحرزته في مجالات حقوق الإنسان، وتعرضت لمجموعة من الملاحظات والتوصيات من قبل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
هذا وتأتي الدورة الحالية من الاستعراض الدوري الشامل في وقت بالغ الحساسية بالنسبة مصر، حيث تشهد البلاد تحديات داخلية وخارجية معقدة تفرض ضغطًا كبيرًا على قدراتها في تحقيق التقدم المنشود في مختلف مجالات حقوق الإنسان. فالأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة وما يرافقها من توترات سياسية وصراعات مستمرة في المنطقة، قد أسهمت في تعميق هذه التحديات وهو ما يتطلب من الدولة توازنًا دقيقًا بين الوفاء بالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان وبين التعامل مع هذه التحديات الاستراتيجية الملحة.
فعلى الرغم من التحديات العميقة التي تواجهها، تواصل الدولة التزامها الثابت بتعهداتها الدولية؛ مما يعكس حرصها المستمر على الوفاء بمسئولياتها في مجال حقوق الإنسان، فقد حرصت مصر على تقديم تقريرها الوطني ضمن الآلية المحددة للاستعراض الدوري الشامل في الوقت المحدد، بما يعكس التزامها بالشفافية والمراجعة الدولية ويؤكد رغبتها في تعزيز التفاعل البنّاء مع المنظومة الدولية.
ثانيًا: جهود مصر في تعزيز حقوق الإنسان في إطار الاستعراض الدوري الشامل
هذا وقد ترأس الوفد المصري المشارك في جلسة الاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان في جنيف الثلاثاء 28 يناير الدكتور بدر عبد العاطي، وزير الخارجية والهجرة ورئيس اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان. كما ضم الوفد عددًا من الشخصيات البارزة، ومنها السيدة د. مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، والمستشار محمود فوزي، وزير شئون المجالس النيابية والقانونية والتواصل السياسي. كما شارك في الوفد د. ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات والمنسق العام للحوار الوطني، بالإضافة إلى رؤساء المجالس القومية للمرأة والطفولة والأمومة والأشخاص ذوي الإعاقة، ورئيسة اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار في البشر. كذلك كان هناك ممثلون عن العديد من الجهات الوطنية المختلفة مثل وزارات العدل والعمل، وكذلك النيابة العامة.
تأتي هذه المشاركة في أعقاب استعراض حقوق الإنسان في مصر خلال عام 2019، حيث تلقت مصر 372 توصية، تم قبول 301 منها، في محاولة من مؤسسات الدولية لتنفيذ التوصيات المعروضة وسد كافة الثغرات بما يعزز ويدعم حالة حقوق الإنسان وبالتالي فقد تركز التقرير الذي عرضه السيد الوزير على تبني مقاربة شاملة تقوم على خمسة محاور رئيسية والتي تمثل الإطار الاستراتيجي لتعزيز حقوق الإنسان في مصر وهي: –
أولًا: تم صياغة واعتماد “استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان” للفترة من 2021 إلى 2026، تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية. هذه الاستراتيجية هي مبادرة وطنية تهدف إلى تحسين حياة المواطن المصري وضمان تمتع جميع الأفراد بحقوقهم، بما يتماشى مع المعايير الدولية. وقد تم إعداد الاستراتيجية بالتشاور مع كافة الأطراف المعنية.
ثانيًا: واصلت الدولة المصرية جهودها في توفير بيئة مواتية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي كفلها الدستور، وهو ما تجسد في اتخاذ مجموعة من القرارات المهمة، ففي إطار تنفيذ الاستراتيجية الوطنية، تم إلغاء حالة الطوارئ في عام 2021، وتفعيل لجنة العفو الرئاسي لمراجعة سجلات المحكوم عليهم؛ مما أدى إلى الإفراج عن أعداد من الذين تنطبق عليهم شروط العفو. كما تم مراجعة قوائم الإرهاب ورفع أسماء عدد من المدرجين عليها، لتمنح الدولة فرصة جديدة للشباب الذين توقفوا عن ممارسة الأنشطة الإرهابية بهدف إعادة دمجهم في المجتمع، إضافة إلى ذلك تم إغلاق قضية التمويل الأجنبي رقم 173 بشكل كامل؛ مما أسهم في فتح صفحة جديدة مع المجتمع المدني، اعترافًا بدوره المحوري كشريك في عملية التنمية.
ثالثًا: اتبعت الدولة المصرية نهجًا شاملًا في حماية وتعزيز حقوق الإنسان، دون إعطاء أولوية لحق على حساب آخر، ففي هذا الإطار، تم إطلاق وتنفيذ العديد من المبادرات والمشروعات التي أسهمت في تعزيز الحقوق السياسية والمدنية بالتوازي مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. من أبرز هذه المبادرات مبادرة “الحوار الوطني”، التي شهدت مشاركة واسعة من كافة أطياف المجتمع المصري بما في ذلك الأحزاب السياسية والمجتمع المدني لمناقشة قضايا مهمة، بما فيها قضايا كانت قد تم تجاهلها لعدة عقود، بهدف تعزيز الحق في المشاركة السياسية وحرية الرأي والتعبير. كما أولت القيادة السياسية اهتمامًا بالغًا بحق حرية الدين والمعتقد، سعيًا لترسيخ قيم المواطنة والتسامح والتعايش السلمي، في الوقت ذاته تم تنفيذ مشاريع قومية لتحسين مستوى معيشة المواطنين، مثل “حياة كريمة” وبرنامج “تكافل وكرامة”، بالإضافة إلى إطلاق مبادرة “بداية جديدة لبناء الإنسان”، التي تهدف إلى تنمية المواطن المصري اقتصاديًا واجتماعيًا.
رابعًا: حرصت مصر على تطبيق نهج قائم على احترام التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، وضمان اتساق التشريعات والسياسات الوطنية مع هذه الالتزامات، تم تعديل العديد من التشريعات واستحداث أخرى، أبرزها قانون “تنظيم العمل الأهلي”، الذي كفل للمجتمع المدني حرية العمل وتلقي التمويل. كما يجري مناقشة مشروع “قانون الإجراءات الجنائية” الجديد في مجلس النواب الذي سيحدث تحولًا في مجال العدالة الجنائية، خاصة فيما يتعلق بالحبس الاحتياطي، وأيضًا تم تفعيل اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان في عام 2020 لتكون محركًا رئيسيًا للجهود الوطنية في هذا المجال، كما تم تعزيز برامج التدريب وبناء القدرات للعاملين في المؤسسات الحكومية بالإضافة إلى تطوير الفلسفة العقابية، عبر غلق بعض السجون واستحداث مراكز جديدة للإصلاح والتأهيل تتماشى مع أحدث المعايير الدولية.
خامسًا: واصلت مصر تعزيز انخراطها مع الآليات الدولية والإقليمية المعنية بحقوق الإنسان، من خلال التزامها المنتظم بتقديم التقارير الوطنية ذات الصلة، بما يعكس استعدادها الكامل للتعاون مع المجتمع الدولي في سبيل تحقيق التقدم المستدام في مجال حقوق الإنسان.
ثالثًا: تقييم شامل حول التزام مصر المستمر بتعزيز حقوق الإنسان:
وفقًا للتقرير ومن خلال قراءة الواقع، فإنه على الرغم من الجهود المبذولة التي تم تنفيذها في إطار تعزيز حقوق الإنسان، لا تزال هناك العديد من التحديات التي تحتاج إلى حلول طويلة الأمد. فقد تحققت بعض الإنجازات في مجالات معينة، إلا أن هناك ضرورة لمواصلة العمل بشكل متواصل لمعالجة القضايا المتبقية -على رأسها الانتهاء من تعديلات قانون الإجراءات الجنائية بما سيضمن إنهاء ملف الحبس الاحتياطي وسيعزز بالطبع من الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين- ويظل تحقيق التوازن بين حماية الأمن الوطني وضمان حقوق الأفراد من أبرز التحديات التي تستدعي تكاتف جميع الجهات المعنية لضمان تقدم مستدام في ملف حقوق الإنسان، فمصر بإرادتها السياسية الواضحة، تسعى إلى جعل المواطن المصري محور عملية التطوير والتنمية، وبالتالي فإن ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم يجب أن يكون جزءًا أساسيًا من بناء الدولة الحديثة. إلا أنه بالنظر إلى السياق العالمي المتغير والأخطار التي قد تطرأ من حين لآخر، فإن هذه الجهود تتطلب متابعة مستمرة لضمان عدم حدوث أي انتكاسات على صعيد الحريات العامة وحقوق الإنسان، وعليه تظل التحديات قائمة حيث يتطلب الأمر تكامل الجهود الوطنية والدولية لتطوير وتعزيز مستويات الحرية وضمان الحقوق لكافة أفراد المجتمع، بما يضمن بناء مجتمع ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية ويحترم حقوق الإنسان في مختلف أبعاده.
في هذا السياق، لا بد أن ندرك أهمية التدرج في عملية تطوير ملف حقوق الإنسان، حيث إن التحولات الجذرية تتطلب وقتًا طويلًا وتحتاج إلى استراتيجيات مرنة ومدروسة، فالاستفادة من التجارب الدولية الناجحة تعتبر أحد العناصر الأساسية في هذا الصدد، فالدول التي حققت تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال لم تفعل ذلك بين ليلة وضحاها، بل عبر مراحل تدريجية بنيت على دراسات متعمقة للتحديات والفرص، ومن خلال تبني هذه التجارب يمكن تحسين المسار لضمان مستوى أعلى لتمتع المواطنين بكافة الحقوق والحريات وبما بما يتناسب مع خصوصية مصر الثقافية والاجتماعية.
ختامًا..
إن التزام مصر المستمر بتعزيز حقوق الإنسان يعكس رغبتها الحقيقية في تحقيق تقدم ملموس يضمن حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية. ورغم ما تحقق من إنجازات في بعض المجالات، فإن الطريق لا يزال طويلًا، ويستدعي تكامل الجهود المحلية والدولية لتحقيق تحول حقيقي يراعي التحديات المحلية والظروف الإقليمية والدولية. إن عملية تطوير حقوق الإنسان في مصر تتطلب الاستمرار في التفاعل مع الآليات الدولية، واعتماد استراتيجية مرنة تضمن تحقيق التقدم المستدام من خلال التدرج والاستفادة من التجارب الناجحة على الصعيدين المحلي والدولي.
وفي هذا السياق، تظل الإرادة السياسية والتزام الدولة هما الأساس لتحقيق هذه الأهداف، فالمسار نحو بناء مجتمع ديمقراطي عادل يتطلب نهجًا شاملًا يأخذ في اعتباره التطور التدريجي للمؤسسات الوطنية وتقديم الحلول الفعالة للتحديات المستمرة. وعلى الرغم من التحديات التي تواجهها، تظل مصر على العهد في مواصلة مسارها نحو تحسين وضع حقوق الإنسان، وتقديم نموذج للمشاركة المجتمعية والتعاون البناء مع المجتمع الدولي من أجل ضمان الحقوق والحريات لكل فرد في المجتمع.