– – – – – – – – – – –.
التطوع هو العمود الفقري للمنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية، وغيرها من منظمات المجتمع المدني وكذلك الحركات الاجتماعية والسياسية. وقد لاحظ الدارسون وجود تفاوت في مستويات التطوع بين المجتمعات المختلفة، وهذه الظاهرة تحتاج إلى تفسير؛ فتبعًا للمقياس العالمي للتطوع، فإن أكثر المجتمعات استعدادًا للتطوع والعطاء هي إندونيسيا وأوكرانيا وكينيا، بينما يقع على الطرف الآخر الأقل عطاءً مجتمعات بولندا، وكرواتيا، واليمن. كما تتفاوت الدول المختلفة في أنواع التطوع؛ ففي مؤشر مساعدة الغرباء توجد جامايكا بنسبة 83%، وليبيريا بنسبة 80% هما الدرجة الأعلى للاستعداد لمساعدة شخص غريب، في حين أن اليابان بنسبة 21%، وبولندا بنسبة 22% هما الأقل على نفس المؤشر. وفي مؤشر التبرع بالمال تمثل ميانمار وإندونيسيا أعلى المستويات بنسب 83%، 82% على التوالي، على عكس المغرب واليمن اللتين تحصلان على نسب 2% و4% على نفس المؤشر على التوالي. وعلى مؤشر التبرع بالوقت، تفاوتت النسب بين ليبيريا بنسبة 65%، وإندونيسيا بنسبة 61% في المقدمة، وفي الجانب الآخر توجد مصر وبولندا بنسبة 4% لكل منهما. وبين الدول الأكثر والأقل تطوعًا، تتوزع باقي الدول البالغ عددها 142 دولة بنسبهم المختلفة.
ويركز هذا المقال على خصائص بيئة العمل التطوعي التي تدفع الناس للمشاركة/ أو عدم المشاركة في العمل التطوعي، في محاولة للإجابة على بعض التساؤلات مثل: لماذا يتطوع الناس في بلد ما أكثر من بلد آخر؟ وهل التطوع مرتبط بعوامل اجتماعية وثقافية، أم أنه يرتبط بالعامل الاقتصادي؟ وكيف يؤثر الاستقرار السياسي والديمقراطية على التطوع؟ ويمكن للإجابة على هذه الأسئلة أن تساعد في فهم الأسباب التي تدفع الناس للتطوع، وكيف يمكن للجمعيات الخيرية والحكومات توفير بيئة جاذبة للتطوع.
أولًا: التطوع والأوضاع الاقتصادية
هناك مؤشرات على انخفاض العمل التطوعي في الاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقالية، ويظهر هذا بوضوح في أوروبا الشرقية، والتي لها خلفية تاريخية مشتركة شكلتها سنوات من السلوك التطوعي القسري قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، وما تلا ذلك من التأثير المدمر للانهيار الاقتصادي بعد عام 1990 على العمالة والدخل والأسرة. وتشير الدراسات إلى أنه من المحتمل ألا تترك الضغوط الاقتصادية الشديدة التي تشهدها بعض الدول للأفراد سوى القليل من الوقت “لرفاهية” التطوع.
أيضًا، يرتبط عدم المساواة في الدخل على المستوى الوطني بمستويات العمل التطوعي، فكلما زاد عدم المساواة والفجوة بين فئات الدخل المختلفة، كلما قلت مستويات التطوع، والعكس صحيح.
الوضع الاقتصادي إذن هو من أهم العوامل المؤثرة على استعداد الأفراد للتطوع. لقد نما اقتصاد جمهورية التشيك بقوة خلال عام 2021، فارتفعت مستويات الدخول، وانعكس هذا الانتعاش بشكل إيجابي في سوق العمل، فانخفض معدل البطالة ليصبح الأدنى في الاتحاد الأوروبي. في العام نفسه، حققت جمهورية التشيك أكبر ارتفاع في درجة مؤشر العطاء، ليصبح مواطنو جمهورية التشيك كرماء بشكل متزايد، وارتفع مؤشر التطوع في هذا البلد إلى 55%، مرتفعًا من 25% التي حققها في العام السابق.
وعلى جانب معاكس، فإن جميع البلدان العشرة الأدنى من حيث التبرع بالمال كانت دول منخفضة ومتوسطة الدخل، سبع منها هي من أفقر دول أفريقيا، وفيها أيضًا دولة جورجيا صاحبة أقل نسبة من الأشخاص الذين تبرعوا بالمال لمؤسسة خيرية بنسبة لم تزد على 3٪.
ثانيًا: التطوع وطبيعة النظام السياسي
أظهرت أبحاث عدة وجود علاقة إيجابية بين التطوع ودرجة التطور الديمقراطي؛ فدولة النرويج تحتل المرتبة الأولى في مؤشر الديمقراطية العالمية 2023، بينما تحتل المرتبة التاسعة عشرة على مؤشر العطاء العالمي 2023، في حين تحتل دولة نيوزيلندا المرتبة الثانية على مؤشر الديمقراطية، والمرتبة العاشرة على مؤشر العطاء العالمي. أما إندونيسيا التي تحولت حديثًا إلى الديمقراطية فهي تصنف الأولى عالميًا للعام السادس على التوالي في مؤشر العطاء العالمي. وفي اتجاه معاكس نجد أن دولة أفغانستان تحتل المرتبة الأخيرة كأقل البلدان ديمقراطية، والمرتبة السادسة الأقل عطاءً على مؤشر العطاء العالمي. تشجع الديمقراطية على التطوع من خلال ضمان حرية الأفراد في إنشاء جمعيات وشبكات رسمية، وهو ما يحسن مستوى رفاهية المجتمع بشكل عام. وليس مصادفة أن أكثر ما لفت انتباه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير ألكسيس دي توكفيل في الولايات المتحدة هو الحرية الكاملة في تكوين الجمعيات والروابط الطوعية وثقافة التنظيم الذاتي. فالعلاقة إيجابية شديدة القوة بين الديمقراطية وحرية إنشاء الجمعيات والتطوع، فمثلًا الدول التي تتصدر قائمة التطوع نجد بها أكبر عدد من الجمعيات الخيرية، فالولايات المتحدة الأمريكية بها أكثر من 1.8 مليون منظمة غير ربحية، وفرنسا بها أكثر من 1.3 مليون منظمة غير ربحية، وأستراليا بها ما يقدر بـ700 ألف منظمة، وألمانيا بها حوالي 580 ألف منظمة غير ربحية، ويوجد بكندا حوالي 134000 منظمة غير ربحية، ونيوزيلندا تحتوي على ما يقدر بـ114000 منظمة غير حكومية، وبإندونيسيا حوالي 105383 منظمة غير ربحية. وقد وصل عدد الجمعيات التطوعية في مصر إلى 57500 جميعة ومؤسسة.
وذلك على عكس الدول التي تتذيل قائمة التطوع على مؤشر العطاء العالمي، ففي فيتنام 396 منظمة غير حكومية، أما أفغانستان فيبلغ عدد المنظمات غير الحكومية المسجلة وغير الربحية حوالي 3001 منها 2753 منظمة غير حكومية محلية و248 منظمة غير حكومية دولية. وفي كمبوديا سُجل حوالي 6100 جمعية ومنظمة غير حكومية. وفي لبنان حوالي 15000 منظمة غير ربحية. أما بلغاريا فبها حوالي 15151 منظمة غير ربحية.
ورغم عدم انطواء الكثير من العمل التطوعي على تغيير اجتماعي، إلا أن بعض الأدبيات تعتبر الحملات والدعوة من أجل قضية ما عملًا تطوعيًا، ويمكن أن تنمو الدعوة التطوعية إلى حركات اجتماعية عالمية مثل حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وحركة تشيبكو البيئية في الهند، ويمكن النظر إلى العمل التطوعي باعتباره شكلًا من أشكال رأس المال الاجتماعي، ويتم تعريفه في الغالب على أنه “المعايير والشبكات والثقة التي تسهل التعاون” وتساهم في ديمقراطية صحية للمجتمع.
ومن زاوية أخرى، وبخاصة في الدول السلطوية تُوجد علاقة متناقضة بين قطاع المنظمات غير الحكومية والدولة، فعلى الرغم من استفادة هذه الدول من الخدمات التي يقدمها المتطوعون، إلا أنها تعتبر التطوع السياسي والدعوي “تحديًا لسلطتها”؛ لذا يوجد لدى الحكومات الأوتوقراطية دوافع متعارضة، فهي من ناحية تشجع الخدمات الاجتماعية التطوعية، ومن ناحية أخرى تحد من التطوع السياسي وتسيطر عليه. كما قد تحاول بعض الحكومات السيطرة على أشكال الحياة الاجتماعية، ووضع كل التنظيمات الاجتماعية تحت إشراف الدولة، التي قد تستغل التطوع كعمل جبري في المشاريع الحكومية. وفي بعض الأحيان، تحاول الدول احتواء المنظمات غير الربحية المرتبطة أيديولوجيًا بالحكومة وحظر أو مضايقة أولئك الذين يعارضونها. وهيمنة الدول هذه على القطاع غير الربحي يؤدي إلى فقدان التطوع لمصداقيته، وبالتالي فقدان الناس الثقة في المهام الإيجابية للمنظمات، والاعتقاد بأن الدولة وحدها هي التي يمكنها إجراء تغييرات وتقديم خدمات معينة.
ثالثًا: الأطر القيمية والثقافية
من منطلق الحجة القائلة إن “الناس لا يسترشدون فقط بشغفهم ومصالحهم الشخصية، ولكن أيضًا بقيمهم ومعاييرهم ومعتقداتهم”، تلعب الثقافة دورًا مهمًا في تحفيز التطوع والمشاركة من خلال القيم، وهو ما يؤكده المسح العالمي للقيم وهو مشروع بحثي عالمي يهدف إلى دراسة القيم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والدينية، والثقافية للسكان حول العالم. ويقسم دول العالم إلى محورين: القيم التقليدية مقابل القيم العلمانية العقلانية، وقيم البقاء مقابل قيم التعبير عن الذات. ومع تطور البلدان اقتصاديًا، فإنها تنتقل من القيم التقليدية وقيم البقاء إلى القيم العلمانية العقلانية والتعبير عن الذات.
ويساعد إطار مسح القيم العالمية في تفسير سبب انخراط مواطني الدول الأكثر تقدمًا اقتصاديًا في التطوع الرسمي؛ لأنهم ليس فقط لديهم الموارد التي تجعل التطوع ممكنًا، ولكنهم أيضًا يحملون قيمًا عقلانية علمانية وقيم التعبير عن الذات التي تشجع المشاركة في التطوع الرسمي بدلًا من الأنشطة التقليدية للمساعدة المتبادلة والمساعدة الذاتية. ومع أن التحرك بعيدًا عن القيم التقليدية يمكن أن يضعف التطوع الديني، فإن التغييرات الأخرى التي ترافق التحديث المتمثل في القيم العقلانية العلمانية يمكنها تعويض هذا التأثير السلبي الناتج عن الابتعاد عن القيم التقليدية.
كما أن جزءًا من النظام الثقافي هو الوعي بمفهوم المجتمع المدني ودوره، حيث تشير بعض الدراسات إلى أنه حتى لو امتلكت الدول القوة السياسية والدستورية والاقتصادية، فإن هذا لا يخلق بيئة مواتية لتنمية المجتمع المدني إذا كان هناك نقص في المعرفة بمفهوم المجتمع المدني ودوره، إضافة إلى أن افتقار مؤسسات المجتمع المدني إلى الموارد الفنية والمالية لتمكين المواطنين من تلبية الاحتياجات المجتمعية بفعالية، إلى جانب غياب آليات التنظيم والشفافية الذاتية فكل هذا يؤدي إلى ضعف مستوى مشاركة المواطنين في أعمال التطوع.
رابعًا: العامل الديني
يوجد تأثير للدين على التطوع؛ حيث يرتبط ارتباطًا إيجابيًا بالعمل التطوعي؛ ففي البلدان التي يتسم أهلها بالتدين تميل مستويات التطوع للارتفاع، وهو ما يتضح بقوة في دولتي إندونيسيا وميانمار اللتين تتمتعان بتقاليد قوية في العطاء الديني والتي تؤثر بشكل مباشر على ثقافة العطاء، رغم اختلاف المعتقد الديني السائد في البلدين. ووفقًا لمؤشر العطاء العالمي؛ فإن إندونيسيا تمتلك أعلى نسبة من الأشخاص الذين تبرعوا بالمال للأعمال الخيرية في العالم والتي وصلت إلى 84٪، بينما أتت ميانمار في المركز الثاني، بنسبة وصلت إلى 73٪؛ ويرجع جزء كبير من هذا التطوع إلى العطاء الديني والتقاليد الثقافية المجتمعية.
خامسًا: العامل التشريعي
تؤدي التشريعات التي تنظم وتعزز دور الجمعيات الخيرية إلى جذب المواطنين للعمل التطوعي، وهو ما يمكن ملاحظته في التقدم الملحوظ للصين على مؤشر العطاء العالمي؛ فنتيجة إقرار تشريعات لتنظيم الجمعيات الخيرية الصينية، تحسنت النتيجة الإجمالية للبلاد وتصنيفها بشكل إيجابي، ففي عام 2017 حصلت الصين على نسبة 14% على مؤشر العطاء العالمي واحتلت المرتبة رقم 138، بينما بعد تحسين البيئة التشريعية لمنظمات المجتمع المدني انتقلت الصين إلى المركز 49 بنسبة 42% في عام 2021.
وختامًا، فإن هناك عوامل متعددة تؤثر في مستويات التطوع في المجتمع، ولكل مجتمع أن يختار التركيز على العوامل التي تناسب ظروفه، فالمهم هو رفع مستويات التطوع لما لذلك من أثر إيجابي إجمالي على رفاهية المجتمع وتماسكه.