يساهم قطاع الإنشاءات وصناعاتها بحوالي 5.9% من الاقتصاد المصري. وتُساهم صناعة وتجارة الإسمنت وحدهما بنحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي المصري، وهو ما يوازي حوالي 10% من إجمالي الإنتاج الصناعي في مصر. كما أن قطاع الإسمنت يضع مصر في المرتبة 14 في قائمة الدول المنتجة، وهو ما جعله قادرًا على توفير حوالي 50 ألف وظيفة بصورة مباشرة، بالإضافة إلى 200 ألف وظيفة غير مباشرة. وكانت مصر من أولى دول منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا دخولًا في هذه الصناعة مع بدايات القرن العشرين. فقد تم إنشاء أول مصنع بمنطقة المعصرة بحلوان في عام 1911، قبل أن يتم إنشاء عدة شركات مساهمة لإقامة مصانع إسمنت مختلفة، منها شركة إسمنت بورتلاند طرة، التي تم إنشاؤها في عام 1927. وشركة إسمنت بورتلاند حلوان، التي تم إنشاؤها في عام 1929. وأتبع ذلك صعود شركات أخرى مثل الإسكندرية للإسمنت في عام 1949، والقومية لإنتاج الإسمنت في عام 1956، والسويس للإسمنت في عام 1976، حتى وصل عدد الشركات في عام 2013 إلى 20 شركة مملوكة للقطاع الخاص، بجانب 3 شركات مملوكة للقطاع العام في مختلف أنحاء الجمهورية.
طبيعة الإنتاج والسوق
تنتج المصانع الإسمنت الأبيض والإسمنت الرمادي كليهما، ويشمل ذلك الأنواع المختلفة مثل الإسمنت المقاوم للكبريتات والعادي.. إلخ. كما تُستخدم التقنيات الحديثة في عملية الإنتاج، بعدما كانت تستخدم معظم هذه المصانع الطريقة الرطبة حتى عام 1980، وهي تقنية أكثر استهلاكًا للوقود، وتلوث البيئة بصورة أكثر سوءًا عن طريق الانبعاثات الضارة. أما عن معدلات الإنتاج، فكانت الزيادات بداية من منتصف القرن العشرين مؤشرًا مطمئنًا لنجاح الصناعة التي استطاعت تلبية الطلب من سوق الإنشاءات والعقارات لعدة عقود. إذ تضاعفت معدلات الإنتاج إلى 9 أضعاف خلال الفترة من 1940 وحتى 1976 مع قدوم شركة السويس للإسمنت، بعدما قفز معدل الإنتاج السنوي من 400 ألف طن إلى 3.6 ملايين طن. ثم ارتفع مع نهاية القرن العشرين إلى 24 مليون طن، قبل أن يصل إلى 54 مليون طن مع بدايات الأزمة الحالية للقطاع في عام 2012.
الأزمة الحالية
منذ دخول الشركات الخاصة في السوق رسميًّا عام 1998، لم تبرز أزمة كتلك الحاضرة حاليًّا. وهي الأزمة التي يمكن تلخيصها في أن حجم العرض من منتج مصانع الإسمنت يفوق حجم الطلب، ولكنها تتعدى هذا لتشمل العديد من المحاور المختلفة. كما تمس العديد من الفئات المجتمعية من أصحاب المشاريع والعاملين والتجار وأصحاب القرار في مجالات العقارات والإنشاءات والتصنيع وغيرها.
بدأت الأزمة فعليًّا مع أزمة الطاقة في مصر ما بين عامي 2011 و2013. فمع ارتفاع أسعار الطاقة والوقود، زادت التكلفة بشكل كبير على الشركات المختلفة. وتزامن ذلك الارتفاع مع التناقص الكمي الملحوظ في حصص الغاز الطبيعي المخصصة لمصانع الإسمنت، مما دفعهم للتحول إلى الطاقة الأحفورية كالفحم، وهي أغلى ثمنًا بجانب التكاليف الإضافية لتحويل نظم الطاقة والبنية التحتية مع تغير المصدر المستخدم. وأعقب ذلك وضع سياسات جديدة من قبل الدولة لوضع قواعد تضمن الحفاظ على البيئة في عام 2014. ورغم أهمية تلك السياسات، إلا أنها أضافت المزيد من القيود والعوائق على مصانع الإسمنت فيما يتعلق بتحميل وتخزين ونقل واستخدام الفحم. كما أن زيادة عدد الشركات في السوق مع دخول منافسين جدد أدى إلى تشبع السوق، مع عجز الشركات عن تمرير زيادة التكلفة للمستهلكين، رغم زيادة عدد المشروعات القومية والإنشائية، سواء تلك المتعلقة بالبنية التحتية أو المدن الجديدة والتجمعات السكنية. وكانت قد بدأت بوادر المؤشرات في عام 2012 حينما كانت معدلات الإنتاج 54 مليون طن، كما سبق أن ذكرنا، بينما كانت الطاقة التصميمية الإنتاجية للمصانع 63 مليون طن.
الأزمات السابقة وانعكاسها على الأزمة الحالية
يمتد تاريخ الأزمات في القطاع لما هو أبعد من ذلك، ويشكل تطوره جزءًا من الأزمة الحالية بصورة أو بأخرى. إذ رغم أن الإنتاج كان يغطي الاستهلاك في سنوات عديدة، إلا أن هناك فترتين زمنيتين كان الطلب فيهما أكثر من المعروض، وهو ما فتح الباب للاستيراد بكثافة، وكان ذلك خلال الفترة بين 1976 و1995، والفترة بين 1996 و2000. حتى وصل معدل الاستيراد إلى 50% من معدل الاستهلاك في بعض الأحيان، وهو ما شجع المصانع على زيادة القدرة الإنتاجية مع بدايات القرن الحادي والعشرين حتى توقف الاستيراد تقريبًا قبل أن يختل التوازن بين العرض والطلب.
وزاد من تبعات المشكلة زيادة عدد المنافسين داخل السوق، سواء من داخل القطاع الخاص عن طريق المستثمرين الأجانب أو من خارجه. وقد وفرت سياسات الإصلاح الاقتصادي والسوق الحرة بداية من عام 1991 الغطاء لإلغاء مكتب بيع الإسمنت المصري المسئول منذ منتصف القرن العشرين عن تسويق الإنتاج وبيعه داخل السوق المصري أو تصديره. وكان الغرض من الإلغاء إثراء فرص المنافسة في السوق، لا سيما مع الاتجاه لمنع الاحتكار ودعم قرارات الخصخصة بعدما تم تأميم الشركات سابقًا عام 1961. ومع السماح بالخصخصة ودعم التنافسية، دخلت العديد من الشركات العالمية السوق المصرية بقوة عن طريق شرائها وتملكها عددًا من الشركات المحلية.
وبالفعل، نتج عن تلك السياسات انتعاشة قوية في قطاع الإسمنت، نتج عنها التصدير بكميات غير معهودة في الفترة (2002-2008). وكان عام 2004 هو الأكثر في حصيلة التصدير في تاريخ صناعة الإسمنت في مصر، حيث تم تصدير 12.3 مليون طن وقتها. لكن هذه الفترة انتهت مع بداية تفعيل قرار منع ثم تقنين التصدير للخارج، وهو القرار الذي بدأ تطبيقه لأول مرة في عام 2009 من قبل وزير التجارة والصناعة آنذاك “رشيد محمد رشيد”، بهدف منع الاحتكار وتوفير احتياجات السوق المحلي من الإسمنت كسلعة استراتيجية أساسية. وهو ما أوقف مسارًا ومتنفسًا بديلًا للكميات الضخمة المعروضة حاليًّا من الإسمنت، والتي تفوق احتياجات السوق المشبع ليصبح للقرار نصيب كبير من أسباب تطور الأزمة لاحقًا.
نتائج الأزمة الحالية
ترتّب على تلك التوابع المتلاحقة تدهور في الأوضاع المالية لشركات الإسمنت، وتخوف من المستثمرين الأجانب في تمويل المزيد من المشاريع المتعلقة بالقطاع أو التوسع في المصانع وخطوط الإنتاج، ولا سيما مع القيود التقنية التي تتطلب إنتاجًا ثابتًا بحد أدنى داخل المصنع. أضف إلى ذلك التخوف من عدم القدرة على التكهن بتغير قيمة الجنيه المصري مقارنة بالعملات الأجنبية.
وكتطور واضح لتلك الأزمة، قررت مؤخرًا شركة السويس للإسمنت المالكة لشركة إسمنت بورتلاند طرة المصرية بنسبة 66.12%، إيقاف نشاط تلك الشركة بسبب تدهور أوضاعها المالية في محاولة أخيرة لإبقائها بدلًا من تصفيتها كليًّا لوقف تكبد أي خسائر إضافية. وكانت شركة إسمنت بورتلاند طرة قد سجلت خسائر وقيمًا سلبية على مدار الأعوام الفائتة وصلت في عام 2018 إلى 196 مليون جنيه لحقوق مساهميها. وهو ما يوازي حوالي 5 أضعاف خسائر بقية نشاط الإسمنت كاملًا بخسائر بلغت 37 مليون جنيه في عام 2018، و72 مليون جنيه خلال الربع الأول من 2019.
كما انخفض حجم مبيعات شركات الإسمنت بنسبة 6.4%، متأثرة بالأزمة التي تمّ تناولها فيما سبق وتلخيصها في تناقص الطلب المحلي، الذي انخفض بنسبة 6.6% في الربع الأول من العام وعلى أساس سنوي إلى 12.4 مليون طن، بينما ارتفعت الصادرات بنسبة 7% على أساس سنوي إلى 157.9 ألف طن في الربع الأول، ما يمثل 1.3% فقط من إجمالي المبيعات، بحسب بنك الاستثمار شعاع. ومن بين شركات الإسمنت الـ16 الموجودة المتبقية بالسوق، سجلت 4 شركات فقط نموًّا في أحجام المبيعات، اثنتان منهما مدرجتان بالبورصة المصرية، وهما مصر للإسمنت قنا، وإسمنت سيناء.
مستقبل القطاع
مع وصول الفجوة بين العرض والطلب هذا العام إلى 35 مليون طن بعد وصول حجم الطلب إلى 50 مليون طن فقط العام الفائت، ثم تراجع معدلاته 7% بالربع الأول من هذا العام، وتراجع أرباح الشركات معه؛ فمن المتوقع أن تستمر الأزمة في الفترة القادمة، ويتضرر القطاع مع احتمال توقف شركات أخرى واستمرار تفكير المستثمرين الأجانب في التصفية أو الخروج، وهو ما يتطلب إجراءات سريعة من جانب الدولة المصرية لدراسة الأزمة ووضع حلول تتناسب مع أهدافها التنموية قبل تفاقم الوضع بصورة أكثر خطورة على الاقتصاد المصري.