بين شعاري “استعادة القيادة العالمية” و “أمريكًا أولًا” توجه الرئيس الديمقراطي “جو بايدن” ومنافسه الجمهوري الرئيس السابق “دونالد ترامب”، في 27 يونيو الجاري، إلى اتلانتا بولاية جورجيا حيث المناظرة الرئاسية الأولى للسباق الرئاسي 2024 والتي اعتبرتها شبكة “سي إن إن” أنها يمكن أن تكون “الأكثر مصيرية” في تاريخ الولايات المتحدة. وقد جرت المناظرة بين الرئيس الحالي الأكبر سنًا في التاريخ الأمريكي والرئيس السابق المدان قضائيًا في لائحة طويلة من الاتهامات. وتعتبر بعض التحليلات أن المناظرة عامل ذا تأثير كبير على مسار العملية الانتخابية، بالاستناد إلى قدرتها على إماتة فرص مرشح وإحياء فرص المرشح الآخر. وفيما غطت المناظرة مجموعة واسعة من الملفات والقضايا الداخلية والخارجية، إلا أنها كشفت عما هو أكثر تعقيدًا وتشابكًا على الساحة الأمريكية.
أهم القضايا التي نوقشت:
على حين شهدت المناظرة الرئاسية الأولى للسباق الرئاسي 2020، والتي انعقدت في 29 سبتمبر 2020، تركيزًا واضحًا على عدد محدد من الملفات، ولا سيما الداخلية، كمواجهة وباء “كوفيد-19″، وإعادة فتح الاقتصاد، والتعامل مع الاحتجاجات، والتغير المناخي، ونزاهة الانتخابات وتأمينها، إلا أن المناظرة الرئاسية الأولى لسباق عام 2024 قد شهدت تركيزًا على مجموعة واسعة ومتنوعة من القضايا الداخلية والخارجية، وهو ما يمكن بلورته على النحو التالي:
أولًا: القضايا الداخلية:
الاقتصاد:
نظرًا لكون الاقتصاد أحد أهم العوامل المؤثرة في موقف الشارع الأمريكي من المرشحين، فقد شهد اهتمامًا واضحًا. قال الرئيس “بايدن” إن إدارته تسلمت “اقتصادًا كان على وشك الانهيار”، لكن إدارته أعادت “الأمور إلى نصابها” إذ أوجدت فرص عمل جديدة خاصة في القطاع الصناعي. واتهم “بايدن” سياسات” ترامب” بأنها تركز على الأثرياء وتخفض ضرائبهم، لافتًا إلى أن فترة حكم “ترامب” شهدت زيادة العجز والدين لأعلى مستوى في التاريخ الأمريكي.
من جانبه، رفض الرئيس السابق “ترامب” هذه الاتهامات موضحًا أن إدارته سلمت إدارة “بايدن” “أعظم اقتصاد في التاريخ الأمريكي رغم جائحة كورونا”، مؤكدًا أن التوسع في الإنفاق كان “ضروريًا لتلافي الكساد”. مضيفًا أن إدارته جعلت السوق المالي في أفضل حالاته، أما الوظائف التي يتفاخر بها “بايدن” فقد خلقها للمهاجرين وليس للأمريكيين. هذا، وقد دافع عن فرض الرسوم الجمركية بوصفها توفر المال وتزيد من قوة الاقتصاد الأمريكي، في حين اعتبر أن الإعفاءات الضريبية تساهم في تحفيز الشركات.
الهجرة والحدود:
فيما يتعلق بملف الهجرة والحدود، انتقد “ترامب” إدارة “بايدن” بشكل واضح، معتبرًا أن الولايات المتحدة لديها “أسوأ حدود على الإطلاق”. وأضاف قائلًا إن “خلال رئاستي الحدود كانت الأفضل تاريخيًا”، موضحًا أن فتح الحدود سمح بدخول ملايين المهاجرين القادمين من “السجون أو حتى المستشفيات النفسية”. وقد عمل على الربط بين ارتفاع معدلات الجريمة ودخول المزيد من المهاجرين، فيما تجنب الحديث حول الترحيل. ومن جهته، اتهم “بايدن” منافسه “ترامب” بالمبالغة والكذب بشـأن أزمة الهجرة في البلاد، منتقدًا سياسة إدارة “ترامب” الخاصة بفصل الأبناء عن الآباء في تعامله مع المهاجرين.
الإجهاض:
انتقد الرئيس “بايدن” سلفه “ترامب” بسبب موقفه من حق الإجهاض، في حين أشاد “ترامب” بإلغاء قانون “رو ضد وايد”، مشيرًا إلى أن القضاة الذين عينهم خلال فترة حكمه هم مَن تمكنوا من منع الإجهاض. وتعليقًا على ذلك، وفي ضوء قدرة هذا الملف على تعزيز مكاسب الديمقراطيين خلال انتخابات التجديد النصفي 2022، كان ينبغي أن يكون الإجهاض هو الملف الأبرز بالنسبة لـ”بايدن”؛ إذ لا يزال الغضب يحرك الناخبين الديمقراطيين بسبب إلغاء قضية “رو ضد وايد”. وعلى النقيض من ذلك، بدا “بايدن” مشوشًا في شرح موقف حزبه من الإجهاض، بل وظهر مرتبكًا في بعض الأحيان.
ثانيًا: الملفات الخارجية:
الحرب الروسية الأوكرانية:
انتقد “ترامب” سياسات” بايدن” تجاه الساحة الأوكرانية، معتبرًا أن ضعف “بايدن” ساهم في تشجيع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” على غزو أوكرانيا، مضيفًا أن الضعف الذي أبدته إدارة “بايدن” في أفغانستان قد شجع “بوتين” على شن حربه ضد كييف. لافتًا إلى أن شروط “بوتين” غير مقبولة، لكنه انتقد في ذات الوقت المساعدات الأمريكية الكبيرة التي تم تقديمها لأوكرانيا. وزعم أن الحرب سوف تنتهي “قبل استلامه لمنصبه”.
من جانبه، رد الرئيس “بايدن” موضحًا أن ما يحدث في أوكرانيا كان بتشجيع “ترامب بوتين ليفعل كل يريد”. موضحًا أنه حتى الآن فشل “بوتين”، الذي وصفه بـ”مجرم حرب”، في السيطرة على كييف، بل وتكبد خسائر فادحة، لكنه اعتبر أن فوز “بوتين” في الحرب سيدفعه إلى غزو دول أخرى.
الشرق الأوسط:
فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على غزة، انتقد “ترامب” سياسات “بايدن” بالاستناد إلى كونها تسببت في حدوث هجوم السابع من أكتوبر، موضحًا أن إدارته قد عملت على تجفيف كل إيرادات إيران بطريقة جعلتها غير قادرة على دعم حماس أو أي جماعات مسلحة في المنطقة، أما الآن بات بإمكانها شن حربًا بالوكالة ضد إسرائيل. ووصف “ترامب” الرئيس “بايدن” بـ”الفلسطيني السيء”، في إشارة لتأييده للفلسطينيين على حساب إسرائيل.
وردًا على ذلك، قال “بايدن” إنه في عهد “ترامب” هاجمت إيران وقتلت أو أصابت مئات الجنود الأمريكيين، واستطرد موضحًا وجود خطة مكونة من 3 مراحل لوقف الحرب، “لكن حماس تريد استمرار الحرب”، مشيرًا إلى أنه “يضغط بشدة لجعل حماس توافق على الخطة”، لافتًا إلى أنه تم “إضعاف حماس ويجب القضاء عليها”. وأكد على أن واشنطن هي أكبر داعم لإسرائيل، لكنه دافع عن قراره بشأن تعليق إرسال قنابل تزن 2000 طن، نظرًا لخطورة استخدامها في مناطق مأهولة. ولم يُجب “ترامب” على السؤال الخاص باتجاه لتأييد إنشاء دولة فلسطينية مستقلة كسبيل لإنهاء الحرب في غزة.
الانسحاب من أفغانستان:
على الرغم من أن مسألة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كان موضع تأييد من إدارتين المرشحين، إلا أن “ترامب” وصف الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي قامت به إدارة “بايدن” بأنه “الأكثر إحراجًا في التاريخ الأمريكي”، موضحًا أن رؤيته كانت تقوم على الانسحاب من أفغانستان ولكن “بكرامة وعزم وقوة”.
ومن جهته، قال “بايدن” إنه عندما وصل للمكتب البيضاوي كان الجنود الأمريكيون لا يزالون يقتلون في أفغانستان، “ولم يفعل ترامب شيئًا حيال ذلك”. وزعم “بايدن” عدم مقتل أي جندي أمريكي خلال رئاسته في أي مكان في العالم، مثلما حدث خلال فترة حكم “ترامب”.
أبرز ما كشفت عنه المناظرة الرئاسية:
نظرًا لكون المناظرة عاملًا ذا تأثير كبير على مسار العملية الانتخابية، بالاستناد إلى قدرتها على إنهاء فرص مرشح وتعزيز فرص المرشح الآخر، يتضح أن الرهان العام بالنسبة للرئيس “بايدن” أو الرئيس السابق “ترامب” هو محاولة تعبئة الناخبين المتأرجحين وسط حالة الاستقطاب الواضحة التي تعانيها الساحة الأمريكية. وفي هذا السياق، فقد كشفت المناظرة الرئاسية الأولى عن عدد من الملاحظات:
بروز أزمة شيخوخة النخبة:
تشهد الولايات المتحدة سيطرة واضحة لجيل طفرة المواليد على الساحة السياسية، بما يعكس أزمة شيخوخة النخبة بشكل واضح والتي تمثلت في وجود مرشحين إحداهما يبلغ من العمر 81 عام والآخر 78 عام. هذا، وقد برزت هذه الأزمة خلال المناظرة بشكل واضح حيث دار الحديث حول مسألة العمر للرئيس “بايدن” والتي رد عليها قائلًا إنه “لطالما انتقدت لأيام طويلة عندما كنت الأصغر في مجلس الشيوخ، الآن أصبحت الأكبر سنًا، وترامب ليس أصغر مني سوى بثلاث سنوات”. من جهته، رد “ترامب” قائلًا إنه أجرى اختبارين للإدراك والفحص البدني، مضيفًا أنه فاز “ببطولتين في الجولف”، ودعا “ترامب” الرئيس “بايدن” إلى تحدي في مباراة للجولف، وطالبه بإجراء فحوصًا مماثلة.
استمرار نهج رفض النتائج:
نظرًا لما قام به الرئيس “ترامب” من رفض نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020 وما ترتب على ذلك من عنف وفوضى، يتضح وجود تخوف من تكرار مثل هذا المشهد خلال السباق الرئاسي لعام 2024. وردًا على سؤال بشأن ما إن كان الرئيس السابق “ترامب” سيقبل نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، أبدى “ترامب” استعداده لقبول النتائج “إذا كانت حرة ونزيهة، وقانونية”، وأشار مجددًا إلى أن “التحايل” في الانتخابات السابقة كان “سخيفًا”. وادعى أنه مضطر للترشح من أجل “إصلاح ما أفسده بايدن”. الأمر الذي يعني تزايد فرص استمرار نهج رفض الانتخابات بطريقة سوف تحمل تأثيرات سلبية على الساحة الأمريكية التي لم تتعافى بعد من أعمال الفوضى والعنف التي صاحبت الانتخابات الرئاسية 2020، حيث أن الانتخابات النزيهة من وجهة نظر “ترامب” هي التي سوف تأتي به مجددًا إلى البيت الأبيض.
تزايد حدة الاستقطاب والانقسام:
تشهد الساحة الأمريكية حالة واسعة النطاق من الاستقطاب والانقسام، وهو ما انعكس بشكل واضح خلال المناظرة الرئاسية، إذ لم يقترب المرشحين من مصافحة بعضهما البعض، كما خيمت مشاعر العداء المتبادل طيلة المناظرة، ناهيك عن اتجاه كلا المرشحين للاعتماد على أسلوب “الهجوم شخصي” و”التنمر السياسي” من أجل النيل من الطرف الآخر. وفيما يتعلق بموقفهما من القضايا المختلفة، يتضح أنه على الرغم من التوافق حول عدة أهداف تتعلق بالسياسات الأمريكية الداخلية والخارجية، إلا أن كل مرشح بات حريص على تقديم رؤية مختلفة تمامًا عن منافسه من حيث الأسلوب والنهج، الأمر الذي وصل إلى حد التناقضات في كثير من الأحيان. وهي المسألة التي وصلت إلى التوصيف التي طرحه “بايدن” والذي اعتبر فيه أن انتخاب “ترامب” مجددًا سيساهم في وقوع “حرب عالمية ثالثة”.
احتدام السباق الرئاسي:
تؤشر المنافسة الحالية بين الرئيس الديمقراطي الأكبر سنًا في تاريخ الولايات المتحدة ومنافسه الجمهوري الرئيس السابق المدان في لائحة طويلة من الاتهامات على انطلاق سباق رئاسي مشتعل جدًا، ربما يتجاوز في حدته ما جرى خلال انتخابات عام 2020. مما يعني أن حالة المنافسة المحمومة ليست فقط بين المرشحين وإنما بين المعسكرين الديمقراطي والجمهوري، سوف تزيد من تعقيد المشهد السياسي على الساحة الأمريكية. ربما تعكس حالة العداء المتبادل على المستوى الشخصي، والانقسام الواضح على مستوى القضايا خلال المناظرة الأولى مجرد ملمح أولي لما سوف يجري من تطورات معقدة خلال الشهور القادمة، وحتى تنصيب الفائز بمنصب الرئيس. وهو ما يصعب فصله عن إدانة “ترامب” وكافة التطورات المرتبطة بها من جانب، وحديثه الملتوي حول قبوله بنتائج الانتخابات الرئاسية من جانب آخر.
تقوية صورة “ترامب” مقابل اهتزاز صورة “بايدن”:
على الرغم مما اعتبرته صحيفة “واشنطن بوست” كنقاط قوة لصالح الرئيس “بايدن” خلال المناظرة، وبالأخص عندما تحدث عن هجوم السادس من يناير 2021، ولائحة الاتهام التي يواجهها “ترامب”، إلا أن صحيفة “وول ستريت جورنال” قد اعتبرت أن “بايدن” اهتز في أول مواجهة مباشرة مع “ترامب”، موضحة أن “بايدن” قدم “أداء غير مستقر” خلال المناظرة، وهو ما انعكس في حديثه بصوت أجش وتلعثم من حين لآخر. في حين اعتبرت الصحيفة أن “ترامب” ظهر بشكل قوي خلال المناظرة، كما حرص على تسليط الضوء على تعثر “بايدن” في الحديث. هو تحليل مشابه لما قدمته صحيفة “نيويورك تايمز“، إذ اعتبرت أن “تعثر بايدن في المناظرة جعل ترامب في المقدمة”. مضيفة أن الأداء المتعثر للرئيس “بايدن” جعل الديمقراطيين “قلقين للغاية بشأن مستقبل الرئيس الديمقراطي”. وهو الأمر الذي تطور وفق ما ذكرته مجلة “بوليتيكو” إلى أن خيبة آمال الديمقراطيين الناتجة عن الأداء المتواضع لـ”بايدن” خلال المناظرة قد دفعتهم إلى اعتبار أنه “حان وقت رحيله”.
مجمل القول، يبدو أن الساحة الأمريكية بصدد سباق رئاسي محتدم سيساهم في تعقيد المشهد على الساحة الأمريكية التي تعاني بالفعل مجموعة من المشكلات المركبة والمعقدة التي تضر بالنموذج الذي تقدمه والمكانة التي تحتلها على الساحة الدولية. وعلى هذا النحو، يتضح أن السباق الرئاسي الأمريكي لعام 2024 لا يزال مرشح للمزيد من المفاجآت والتطورات غير المتوقعة التي لن تضع قيودًا على استشراف المسار الذي سيسير فيه السباق الرئاسي فحسب، وإنما ستفرض عوائقًا أيضًا أمام استشراف النتائج المرتبة على وصول الفائز إلى المكتب البيضاوي في الملفات والقضايا المختلفة.