يشهد الاقتصاد العالمي واحدة من أسوأ أزماته على الإطلاق، حتى إن بعض المؤشرات بدأت تُظهر ترديًا أكبر من ذلك الذي حدث جرّاء الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. ومن المتوقّع أن تكون الضغوط القصوى للأزمة على الاقتصادات النامية، الأمر الذي دفعها إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والمالية. لكن على العكس من ذلك، تقوم تركيا، على المستوى الداخلي، باتخاذ العديد من الإجراءات المالية والاقتصادية المُتخبطة، بينما تنخرط خارجيًّا في مُغامرات عسكرية، الأمر الذي عمّق مُعاناة الاقتصاد الكُلي للبلاد الذي كان يمر في الأساس بوضع أزمة خلال العامين 2018/2019.
أولًا- المؤشرات الاقتصادية الكُليّة
تُظهر المؤشرات الكُلية للاقتصاد التركي حالة الأزمة التي يُعانيها. ولعل أبرز هذه المؤشرات على الإطلاق مؤشر نمو الناتج المحلي الإجمالي، الذي شهد ترديًا مُنذ الرُبع الثاني من عام 2018، حيث انخفض من مستوى 7.4% في الرُبع الأول إلى مستوى 5.6%، حتى سجل انكماشًا في الرُبع الرابع من 2018 بـنسبة -2.8%، ليستمر في الانكماش خلال الرُبعين الأول والثاني من عام 2019، قبل أن يُحقق نموًّا بمقدار 6% خلال الرُبع الرابع من العام ذاته، ليكون مستوى النمو في كامل 2019 حوالي 0.9%. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش النمو في عام 2020 بمستوى -5% (انظر شكل رقم 1).

يُسبب تراجع الناتج المحلي الإجمالي سلسلة متوالية من التأثيرات تبدأ بانخفاض نشاط الأعمال، من ثم ارتفاع مستويات البطالة، يُصاحبها انخفاض في القوة الشرائية، وبالتالي ارتفاع مُعدلات الفقر. ينعكس ذلك في دورة جديدة على النمو ويبدأ في انخفاض من جديد. ولا يخرج الاقتصاد من هذه الدائرة إلا عن طريق تحفيز حكومي، مالي أو نقدي، بحيث يرفع مستوى النشاط الاقتصادي مما يكسر تلك الدائرة. لكن الحكومة التُركية تعي محدودية خياراتها في هذا الصدد، وهو ما نتعرض له لاحقًا بالتفصيل. ويؤكد ذلك نظرة فاحصة على مُعدلات البطالة، إذ يقع الاقتصاد التُركي في هذه الدوامة دون مُقاومة، فمُنذ عام 2015 ترتفع مُعدلات البطالة باضطراد على المستوى السنوي، الأمر الذي يعني استمرار تراجع القوى الشرائية في المُجتمع، وبالتالي تنامي التأثير المُتبادل لها على مُعدلات النمو. وتُشير تقديرات الحكومة التُركية إلى وصول مُعدل البطالة الشهري إلى 13.5% تقريبًا خلال 2019 وأوائل 2020، فيما كانت قد بلغت في إجمالي 2019 مستوى 13.7%. ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة بنهاية 2020 لمستوى 17.2% (انظر الشكل رقم 2).

ومن المرجّح أن ترتفع هذه المُعدلات بشدة، كما تشير توقعات صندوق النقد الدولي لعام 2020، تحت تأثير جائحة كورونا التي يتلخص تأثيرها في غلق مُنشآت الأعمال، خاصة السياحية التي يعمل بها نحو 8% من نسبة العمالة التُركية، وهو قطاع أصابه إغلاق تام، لذلك ينعكس هذا التأثير على مُعدلات النمو التي بدورها تنعكس عليه مُستقبلًا كما أشرنا سلفًا. بل ويتجه هذا التأثير إلى التفاقم عند النظر إلى المؤشرات النقدية التي نتناولها في النقطة التالية.
ثانيًا- المؤشرات النقدية
دفع انخفاض النشاط الاقتصادي وارتفاع مُعدلات البطالة البنك المركزي التُركي إلى إجراء خفض متوالٍ في أسعار الفائدة، بغرض تحفيز النشاط الاقتصادي عبر حث المُستثمرين على الاقتراض، وضخ سيولة في السوق، حتى بلغت مرات التخفيض 8 مرات مُنذ النصف الثاني من عام 2019، لينخفض مستوى الفائدة من 19.75% في يوليو 2019 إلى مستوى 8.75% في أبريل 2020، أي خفض بنحو 1100 نقطة أساس خلال أقل من عام ونصف، صاحب ذلك ارتفاع مُستمر في مُعدلات التضخم بداية من أكتوبر 2019 بعدما كانت قد استقرت عند مستوى 8.5%، لتبلغ بحلول أبريل 2020 مستوى 10.9%. ويعني ذلك تحول مُعدل الفائدة الحقيقي -حاصل طرح مُعدل الفائدة من مُعدل التضخم- إلى السالب، الأمر الذي يُفضي لخسائر بالنسبة للمُستثمرين في أدوات الدين الحكومي الأجانب والمُودعين بشكل عام في قطاع البنوك التُركي (انظر شكل رقم 3).

ويوضح الشكل السابق تحول مُعدلات الفائدة الحقيقية إلى السالب بمقدار الفرق بين مُعدلات الفائدة ومُعدلات التضخم والمُظللة على الشكل البياني، وذلك بداية من شهر يناير 2020 عندما ارتفعت مُعدلات التضخم إلى مستوى 12.15% وانخفضت مستويات الفائدة إلى 11.25%. وقد أدى ذلك إلى انسحاب حوالي 76 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية مُنذ فبراير 2019، سواء في شكل استثمارات الحافظة أو استثمارات أجنبية مُباشرة لعدم تحملها هذه الخسائر، بالإضافة إلى عدم اليقين الذي يلفّ السياستين المالية والنقدية، وكذلك المُعضلات الهيكلية التي يُعانيها الاقتصاد التُركي، وأخيرًا هروب هذه الاستثمارات إلى الملاذات الآمنة مثل الدولار والذهب وغيرها بسبب جائحة كورونا، ويوضح الشكل رقم (4) صافي الاستثمارات من النوعين السابقين خلال الفترة من فبراير 2019 وحتى فبراير 2020.

وقد شكّل انسحاب هذه الكميات الضخمة من النقد الأجنبي ضغطًا هائلًا على الاحتياطي النقدي للبنك المركزي في ظل تدني مصادر تدفقات النقد الأجنبي للداخل التُركي، سواء من السلع بسبب ارتفاع الواردات في مُقابل الصادرات، أو حتى من الخدمات بسبب انخفاض السياحة والنقل الجوي والصيانة وغيرها المُغلقة بسبب الجائحة، مما أسفر في النهاية عن انخفاض سريع في حجم الاحتياطي النقدي من العُملات الأجنبية إلى مستوى 51.4 مليار دولار ومستوى 86.24 مليار دولار إذا تضمن ذلك التقدير احتياطيات الذهب بحلول الأول من مايو 2020، وذلك من مستوى 107.8 مليارات دولار في نهاية فبراير من العام ذاته. وقد راكم ذلك تأثيرًا حادًّا على الليرة التُركية بسبب ارتفاع الطلب على الدولار من الاستثمارات المُنسحبة، والتخلي عنها في السوق المحلية، وفي الوقت ذاته عدم قُدرة البنك المركزي على تعويض هذه الضغوط الطلبية من رصيده من العُملات الأجنبية، بل ولجوئه إلى إجراءات قانونية للحد من هبوطها مثل اعتبار بعض عمليات تجارة العُملة ومبادلتها جرائم تلاعب بالعملة، واتهامه -من جانب آخر- مؤسسات مالية في لندن بمُحاولة التلاعب بالعملة التُركية، ثم أعقب ذلك بمنع المُتعاملين المحليين من تبادل العُملات مع بنوك: CITI، UBS، BNP. كما لجأ -من جانب آخر- إلى طلب تبادل عملاته مع بعض دول مجموعة العشرين، ومطالبة الولايات المُتحدة من ناحية أخرى بتوفير خط ائتمان من الفيدرالي الأمريكي إلى المركزي التُركي. لكن هذه المساعي لم يُثمر أيٌّ منها حتى وقت كتابة هذا المقال، ولا يتوقع لها في الغالب أن تنجح بسبب تدهور العلاقات الخارجية للرئيس التُركي مع الأوروبيين والأمريكيين والمصاعب التي تمر بها هذه الدول بسبب الجائحة.
لقد أفقدت هذه الإجراءات غير النقدية عددًا كبيرًا من المُستثمرين القدر الباقي من ثقتهم في الليرة، وهو ما أسفر عن مزيد من التخلي عنها في مُقابل الدولار لتنخفض إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق في السابع من مايو الجاري لتصل إلى 7.26 لكل دولار مُتجاوزة بذلك أدنى مُستوى لها في ظل أزمتها الحادة عام 2018. ويوضح الشكل رقم (5) أداء الليرة التُركية، مُقارنًا سعر صرفها خلال أزمة 2018 وأزمة كورونا الراهنة.

ويتّضح من الشكل أن الأزمة الحالية أعمق في تأثيرها على الليرة من الأزمة السابقة، وذلك لاختلاف طبيعة الأزمتين في الأساس، حيث كانت الأولى أزمة مالية، ناتجة عن اختلالات هيكلية في ميزان المدفوعات التُركي لفترات طويلة، مُضافًا إليها مُراكمة القطاع الخاص التُركي كميات ضخمة من الدين، لكن الأزمة الحالية هي أزمة اقتصاد حقيقي ضربت أساسات الاقتصاد التُركي، وكُلما طالت زاد هذا التأثير.
وفي هذا الصدد، تجب الإشارة إلى أن انخفاض سعر صرف الليرة التُركية له تأثير مُتباين على الاقتصاد المصري. فمن ناحية، يستفيد الاقتصاد المصري كون الليرة التُركية مُنافسًا قويًّا للجنيه المصري على جذب الاستثمارات في أدوات الدين المصري، وهو ما يعني أن جزءًا بالتأكيد من تلك الأموال التي خرجت من الاقتصاد التُركي ستدخل الاقتصاد المصري إن لم يكن في الوقت الحالي بسبب عدم اليقين المُصاحب لفيروس كورونا ففي المُستقبل المُنظور عقب انتهاء الأزمة وارتفاع مستوى اليقين. وعلى الجانب الآخر، تتضرر الصناعة المصرية بشدة جراء هذا الانخفاض بسبب انخفاض أسعار المُنتجات التُركية عند دخولها الأسواق المصرية في نظير المُنتج المحلي، خاصة في مجال صناعة المنسوجات والمُنتجات الغذائية والسيارات. وما يجعل هذا التأثير أكثر ضراوة أن مصر ترتبط مع تُركيا باتفاقية تبادل تجاري حر تُزيل الجمارك على المُنتجات في كلا الاتجاهين، وإذا كان من وقت ينبغي مُراجعة هذه الاتفاقية فليس أفضل من الآن، وذلك في ظل استهداف تُركيا للأمن القومي المصري، سواء على الحدود الشرقية أو الغربية.
خلاصة القول -إذن- إن الاقتصاد التُركي يُعاني جراء أزمة كورونا تراجع مؤشراته الكُلية نتيجة للإغلاق الواسع للنشاط الاقتصادي، وهو ما ترتب عليه انخفاض مُعدلات النمو وارتفاع مُعدلات البطالة، ما دفع البنك المركزي التُركي إلى خفض مُعدلات الفائدة بمقدار 1100 نقطة أساس في أقل من عام ونصف، وهو ما ترتب عليه انسحاب كميات كبيرة من الاستثمارات الأجنبية بلغت نحو 76 مليار دولار خلال عام، الأمر الذي سبب ضغطًا هائلًا على الاحتياطي النقدي للبنك من العُملات الأجنبية، بسبب التخلي عن الليرة مُقابل الدولار، لتنتج كل العوامل السابقة في النهاية انخفاض الليرة إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق أمام الدولار، ومن المتوقع أن تزداد التأثيرات نفسها كُلما استمرت الأزمة.