تلقّت أسعار النفط العالمية واحدة من أكبر الصدمات في تاريخها خلال إبريل 2020 عندما وصل متوسط الأسعار خلال الشهر إلى 18.3 دولارًا للبرميل، وهو أدنى مُستوى مُنذ يونيو 1999 عندما وصل متوسط السعر إلى 15.8 دولارًا للبرميل. ومن المُفترض أن تعمل هذه الانخفاضات في صالح الاقتصاد المصري الذي يُعد مُستوردًا صافيًا للنفط، لكن انخفاض الأسعار يؤثر على الاقتصاد المصري بطُرق أخرى، بحيث يُحدث انخفاض الأسعار اتجاهات مُتضاربة، وهو ما يحاول هذا المقال تتبعه، بحيث يكشف قنوات تأثير التغيرات في أسعار النفط على الاقتصاد المصري.
أولًا- وضع الميزان النفطي في مصر
تُعد مصر مُستوردًا صافيًا للنفط، فرغم قيامها باستيراد الكثير من احتياجاتها النفطية؛ إلا أنها تقوم بتصدير كميات منه، وذلك من إنتاجها المحلي، حيث بلغ إنتاج الزيت المحلي من الحقول المصرية مُستوى 539 ألف برميل يوميًّا في العام المالي 2018/2019، وهو ما يقل بمقدار طفيف عن مستويات العام السابق، حيث كانت قد بلغت 542 ألف برميل يوميًا. أما على صعيد الغاز الطبيعي فقد ارتفع الإنتاج المصري بمُعدلات قياسية، حيث بلغ مستوى 6.4 مليارات قدم مُكعب في عام 2018/2019، بينما كان يبلغ في العام السابق مستوى 5.2 مليارات قدم مُكعب. ويوضح الشكل التالي تطور الإنتاج النفطي من المُنتجات النفطية المُختلفة:
شكل رقم (1) – تطور الإنتاج من أهم المُنتجات النفطية في الفترة 2013/2014 – 2018/2019 (يوميًّا)
ويوضح الشكل أن المُخرجات المصرية من مُعظم المُنتجات شهدت نموًّا -باستثناء الزيت- خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، ولا سيما على مستوى إنتاج الغاز، حيث بدأت الشركات الأجنبية العاملة في القطاع بضخ مزيدٍ من الاستثمار، سواء بغرض تطوير القائم من الحقول والمُنشآت، أو التنقيب واستكشاف المزيد من الموجود بعد أن بدأت في الحصول على مُتأخراتها لدى الحكومة المصرية، لكنّ هذا النمو لم يُغير وضع مصر كمُستوردٍ صافٍ للنفط بسبب الطلب المحلي الكبير على مُنتجات الطاقة بشكل عام، مما يخلق فجوة استهلاك يوضحها الشكل رقم (2) لكلٍ من النفط والغاز الطبيعي:
شكل (2): يوضح تطوّر فجوة الاستهلاك للنفط والغاز الطبيعي في مصر خلال الفترة (2010-2019)
ويتضح من الشكل السابق استمرار وجود فجوة في استهلاك النفط بلغت في عام 2019 نحو 53 ألف برميل يوميًّا في المتوسط، بينما تحوّل العجز في استهلاك الغاز الطبيعي الذي بلغ 9 مليارات متر مُكعب في عام 2017 إلى فائض في عام 2019، وذلك بنحو 4 مليارات قدم مُكعب، وهو فائض يظل محدودًا نسبة إلى ما كان يتحقق في العقد الأول من القرن الحالي، حيث بلغ في عام 2010 على سبيل المثال نحو 15 مليار متر مُكعب كانت تتجه للتصدير، ولذا فإن الميزان التجاري النفطي لمصر يظل في حالة عجز يوضحها الشكل التالي:
شكل رقم (3): الواردات والصادرات النفطية في مصر في الفترة من عام 2010 حتى مايو 2020
ويتضح من الشكل تحول مصر إلى مستورد صافٍ للنفط بداية من عام 2012، حيث كانت قد حققت فائضًا في عام 2010 قدره 1.27 مليار دولار، انخفض في 2011 إلى 0.65 مليار، ليتحول بعد ذلك إلى عجز في 2012 بلغ 4.6 مليارات دولار تحت ضغط انخفاض الإنتاج المحلي من الغاز مصحوبًا بارتفاع الأسعار العالمية، حيث بلغت أسعار النفط أعلى متوسطاتها السنوية على الإطلاق عند مستوى 111.63 لبرميل برنت، وقد لامس هذا العجز ذروته في عام 2015 عند مُعدل 7.5 مليارات دولار تقريبًا ليبدأ بعد ذلك في انخفاض تدريجي ليصل في عام 2019 إلى نحو 4 مليارات دولار، وقد كلف هذا العجز البلاد خلال السنوات العشر الماضية وحتى مايو من عام 2020 نحو 32.1 مليار دولار.
أما على صعيد العام الحالي فعند مُقارنة الأشهر الخمسة الأولى خلال الفترة 2010-2020 فإنه يتضح انخفاض قيمة الصادرات الوطنية من النفط إلى أدنى مستوياتها في عشر سنوات عند حد 0.95 مليار دولار، وذلك نتيجة لانخفاض الأسعار، وتأتي هذه الكميات المُصدرة مُنخفضة للغاية عن متوسط صادرات الفترة ذاتها (2010-2020). كما جاءت قيمة الواردات قُرب أدنى مُستوياتها على الإطلاق عند 2.79 مليار، وبالتالي جاءت أقل من متوسطها في الفترة ذاتها عند مستوى 3.47 مليارات دولار، وهو ما رتب في النهاية عجزًا بلغ في الفترة محل النظر نحو 1.84 مليار دولار. ويوضح الشكل التالي سلسلتي الصادرات والواردات النفطية في الشهور الخمسة الأولى خلال فترة الدراسة.
شكل رقم (4): يوضح قيمة الصادرات والواردات النفطية لمصر وإحصاءاتها الوصفية خلال الأشهر الخمسة الأولى في الفترة 2010-2020
وبذلك يتضح أنه على الرغم من انخفاض أسعار النفط إلا أن التأثير على حجم الواردات المصرية منه لم يكُن إيجابيًّا مُقارنة بالفترة ذاتها من السنوات العشر السابقة، وقد يرجع ذلك -في جزء منه- إلى اتجاه السُلطات المصرية إلى مُراكمة كميات من النفط ورفع المخزون الاستراتيجي منه لدى انخفاض الأسعار، مما سبب ارتفاع الكميات المُستوردة خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام مُقارنة بالفترة ذاتها من الأعوام الماضية، وهو ما لا يُمكن التأكد منه في الوقت الحالي لعدم وجود إحصاء مُعلن بالكميات المُستوردة أو حجم المخزون المصري من النفط.
ثانيًا– الأثر على الموازنة العامة للدولة
تحاول الدولة تخفيف الأعباء الاقتصادية عن المواطنين فتتحمل الموازنة العامة بعض أعباء أسعار النفط، وذلك عن طريق دفع الفارق بين الأسعار العالمية وتلك التي تُباع بها هذه السلع للمواطنين في السوق المحلية، فيما يُسمى بدعم المواد النفطية، والذي تُدرج مُخصصاته ضمن الباب الرابع (باب الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية) من الموازنة العامة للدولة. وقد شهدت مُخصصات دعم المواد البترولية في الموازنة العامة انخفاضًا شديدًا على إثر برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأته الدولة في العام المالي 2016/2017، بغرض الوصول إلى شكل أرشد من الدعم تصل فيه المُخصصات إلى أكثر المُحتاجين فعلًا، فتوجهت مُخصصاته السابقة إلى أنواع أخرى من الدعم، مثل: دعم السلع التموينية، ودعم معاشات التضامن الاجتماعي وغيرها. ويوضح الشكل التالي تطور مُخصصات باب الدعم ونسبة دعم المواد البترولية منه:
شكل رقم (5): يوضح تطور مُخصصات باب الدعم بالموازنة العامة للدولة مُقارنة بمُخصصات دعم المواد البترولية خلال الفترة (2009/2010 -2020/2021)
ويوضح الشكل اتجاه مُخصصات دعم المواد البترولية إلى الانخفاض من ذروتها كمبلغ مقطوع في العام المالي 2013/2014، عند مُستوى 126 مليار جنيه إلى أدناها في العام المالي الحالي 2020/2021، لتلامس 28 مليار جنيه تقريبًا، أي نحو خُمسها قبل أقل من ستة أعوام، كما انخفضت المُخصصات كنسبة من إجمالي دعم الباب من ذروتها في العام المالي 2009/2010 عند مستوى 65% تقريبًا إلى أدنى مستوياتها عند 7% تقريبًا في العام المالي الحالي، وتؤدي إجمالي هذه الانخفاضات إلى خفض عبء دعم المواد البترولية عن عاتق الدولة، وهو ما يُخفف بالتأكيد من مستويات الإنفاق على هذا البند، وبالتالي انخفاض العجز النقدي للموازنة ككل، يتعزز ذلك الاتجاه بانخفاض في سعر النفط ذاته، حيث وردت الشهور الخمسة الأولى من عام 2020 في النصف الثاني من موازنة العام المالي 2019/2020، والذي كانت الموازنة العامة قد توقعت بلوغ النفط خلاله مستوى 68 دولارًا/ برميل، كما يوضح الشكل التالي:
شكل رقم (6): الفرق بين تقديرات الموازنة لسعر برميل النفط والسعر الفعلي
ويتضح من الشكل أن الثمن الفعلي لمتوسط شهور العام المالي 2019/2020 قد بلغ 51.3 دولارًا للبرميل بانخفاض 16.7 دولارًا للبرميل الواحد، فإذا كانت مصر قد عانت من عجز بلغ 53 ألف برميل نفط يوميًّا عام 2019، وبافتراض أن الرقم ذاته ينطبق على العام المالي فإن الوفورات الناتجة عن الانخفاض في السعر تبلغ 323.06 مليون دولار، أو ما يُعادل 5.16 مليارات جنيه عند سعر صرف 16 جنيهًا للدولار الواحد. أما العام المالي 2020/2021 فقد انقضى منه شهرا يوليو وأغسطس بلغ خلالهما متوسط سعر النفط نحو 44 دولارًا للبرميل وبانخفاض 17 دولارًا عن توقعات الموازنة العامة عند 61 دولارًا، وهو ما يجعل الوفورات عند ذات التقدير السابق تصل إلى 54 مليون دولار، أو 864.9 مليون جنيه.
ثالثًا– قنوات تأثير غير مُباشرة
يؤثر النفط كذلك على الاقتصاد المصري عبر قنوات غير مُباشرة لعل أهمها قناة السويس، حيث من المُفترض أن سعر النفط المُنخفض يؤدي إلى قيام شركات الملاحة العالمية باستبدالها بطريق رأس الرجاء الصالح، بحيث تستبدل قيمة رسوم العبور خلالها باستهلاك مزيد من النفط مُنخفض الثمن، مما يُقلل إيرادات القناة في العموم. وقد ظهر هذا التأثير مُنذ مايو 2020 عندما بدأت الإيرادات في موجة هبوط من مستويات 476 مليون دولار في إبريل لتصل إلى 444 مليون دولار، ثم تصل في يونيو إلى 406 ملايين دولار، وهو أدنى دخل شهري تُحققه القناة مُنذ فبراير 2017 عندما بلغت إيراداتها 375.8 مليون دولار فقط، كما يوضح الشكل التالي:
شكل رقم (7): تأثير انخفاض أسعار النفط على إيرادات قناة السويس
جدير بالذكر أنه يتصل بهذا التأثير ضغط فيروس كورونا على حركة التجارة العالمية الذي أسفر عن انكماشها نتيجة إغلاق عدد كبير من المصانع بدافع الحظر، وتطبيق قواعد التباعد الاجتماعي، وهو التأثير نفسه الذي أسفر عن انخفاض أسعار النفط من الأساس.
ومن بين أهم القنوات غير المُباشرة المُفترضة كذلك الضغوط الاقتصادية التي يُرتبها كورونا على اقتصادات دول الخليج، حيث يعمل عدد كبير من المصريين، الذين تُعد تحويلاتهم ثاني أهم مصدر لتدفقات النقد الأجنبي للاقتصاد المصري، وقد تأثرت اقتصادات دول الخليج نتيجة الانخفاض الحاد لأسعار النفط وما تبعها من انخفاض الكميات المُباعة نتيجة اتفاقات OPEC+ على خفض الإنتاج لخفض المعروض، وبالتالي ضبط السعر في الأسواق العالمية، مما رفع عجز الموازنة العامة لدى مُعظم هذه الدول، مما أدى إلى انخفاض مُعدلات النمو، وبالتالي إغلاق عدد كبير من الأعمال وفقدان عدد كبير من فرص العمل، ومن بينها تلك التي يشغلها مصريون. كما تقلصت رواتب بعضهم دون فقدان وظيفته بالكامل، الأمر الذي يُفترض معه انخفاض تحويلات المصريين بالخارج، وكانت هذه التحويلات قد شهدت ارتفاعًا خلال الرُبع الثالث من العام المالي 2020/2021 أو الرُبع الأول من العام الميلادي 2020 على نحو ما يوضح الشكل التالي:
شكل رقم (8): تطور تحويلات المصريين العاملين بالخارج
ويتضح من الشكل ارتفاع إجمالي التحويلات في الرُبع الثالث من العام المالي إلى 7.87 مليارات دولار، سواء على الأساس السنوي من 6.17 مليارات في الرُبع الثالث من العام المالي 2018/2019، أو مُقارنة بالرُبع الثاني من العام المالي 2019/2020 حينما بلغت 6.96 مليارات دولار، لكن التأثير الحقيقي لانخفاض الأسعار لن يتجلى إلا في الرُبع الأخير من العام المالي أو الرُبع الثاني من العام الميلادي، وهو ما يُرجح معه أن تنخفض هذه التحويلات بدرجة كبيرة.
خُلاصة القول -إذن- إن تأثيرات انخفاض أسعار النفط على الاقتصاد المصري واسعة، وتبدو مُتباينة بعد صدمة كورونا، لكن في مُعظمها تميل لكونها سلبية فيما عدا تأثيرها على الموازنة العامة للدولة بسبب انخفاض عبء بند دعم المواد البترولية. وتتعارض هذه النتيجة بشدة مع الاعتقاد السائد بأن هذا الانخفاض عمل في المُطلق لصالح الاقتصاد المصري، وهو ما ينبغي معه إعادة تقييم كامل لنتائج فترة الأزمة على الاقتصاد المصري من مُختلف جوانبه.