بدأ الناخبون الفرنسيون التصويت، الأحد الماضى، لاختيار ممثليهم فى الجمعية الوطنية (البرلمان)، بينما ستجرى الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، السابقة لأوانها، الأحد المقبل. وبغض النظر عما سوف تفرزه صناديق الاقتراع من نتائج نهائية، يبدو أن ما تحقق الى الآن هو حدث تاريخى سيغير وجه فرنسا.
حصل مرشحو حزب التجمع الوطنى على أكثر من 9.3 مليون صوت خلال الجولة الأولى. و39 مرشحا من الحزب ضمنوا فعلا وصولهم للبرلمان. فى حين، فى الانتخابات السابقة، لم ينجح أى مرشح للتجمع الوطنى من حسم النتائج من الجولة الأولى.
يتميز النظام الانتخابى فى فرنسا انه: من ناحية، لكى يتم انتخابه فى الجولة الأولى، يتعين على المرشح أن يحصل ليس فقط على أكثر من 50% من الأصوات المدلى بها (مع عدم احتساب الأصوات الفارغة والباطلة). وعليه، أيضا، ان يحصل على أكثر من 25% من الناخبين المسجلين. بهذا الشكل، كلما زاد الامتناع عن التصويت، أصبح الوصول إلى هذه العتبة أكثر صعوبة. فى الانتخابات التشريعية لعام 2022، حصل تسعة مرشحين (بمن فيهم مارين لوبان) على أكثر من نصف الأصوات المدلى بها ولكن دون الوصول الى ربع الناخبين المسجلين، وبالتالى أُجبروا على خوض جولة ثانية.
من ناحية أخرى، للتأهل للدور الثانى، يجب على المرشح جمع أكثر من 12.5% من المسجلين. إذا لم يتحقق ذلك، فإن الاثنين فى المقدمة يواجهان بعضهما البعض. مرة أخرى، كلما زاد الامتناع عن التصويت، كان من الصعب الوصول إلى هذه العتبة.
فى الانتخابات الراهنة، حقق اليمين المتطرف نتائج تاريخية، لكن يبقى من الصعب معرفة النتائج الكاملة بعد انتهاء الجولة الأولى، وسيتأجل حسم السباق الانتخابى إلى الجولة الثانية. سيسعى التجمع الى الحصول على الأغلبية المطلقة. تشير بعض الاستطلاعات الى إمكان حصوله على أغلبية نسبية كبيرة لا تقل عن 240 مقعدا، وربما يصل الى الأغلبية المطلقة (285 مقعدا). اذا تمكن، فعلا، حزب التجمع من الحصول على أغلبية مطلقة أو حتى نسبية، سيكون هذا الوضع غير مسبوق على الإطلاق فى ظل الجمهورية الخامسة. وسيكون على الرئيس الفرنسى الالتزام باحترام توازن القوى الجديد المستمد من صناديق الاقتراع. وسيتعين عليه أن يعين رئيسا للوزراء من الحزب الفائز فى الانتخابات.
الخوف من هذه النتيجة دفع ماكرون الى الحث على تجمع كبير ديمقراطى جمهورى واضح فى الجولة الثانية. ماكرون الذى منذ إعادة انتخابه والانتخابات التشريعية 2022، لم يكن لحزبه سوى أغلبية نسبية فى الجمعية الوطنية، هو الآن يخاطر بخسارة هذه السلطة لصالح اليمين المتطرف. وهو يتجه نحو تقاسم السلطة والتعايش مع حزب مختلف معه تماما.
فى حال فوز التجمع الوطنى بالجولة الثانية، سيضطر الرئيس الفرنسى إلى عرض منصب رئيس الوزراء على جوردان بارديلا البالغ من العمر 28 عاما. ومن أجل تنفيذ برنامجه السياسى، يحتاج بارديلا الحصول على أغلبية مطلقة من مقاعد البرلمان. نجاح التعايش يعتمد بشكل كبير على مدى قدرة رئيس الدولة ورئيس الوزراء على العمل معا، وهذا السيناريو يبدو صعبا فى الحالة الراهنة. وتقاسم السلطة بين معسكرين سياسيين مختلفين يعنى فقدان الكفاءة والتناغم، بحيث تصبح عمليات اتخاذ القرار أكثر تعقيدا وبطئا.
من خصائص التعايش فى النظام الفرنسى أن تنتقل بعض وظائف رئيس الدولة مؤقتا إلى رئيس الوزراء. بهذا الشكل، لن يكون ماكرون، بل رئيس الوزراء الجديد، هو الذى يحدد الخطوط العريضة للسياسة. فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، سيكون للحكومة مجال واسع للمناورة. بخصوص السياسة الخارجية والأمنية، يتم تقاسم السلطة مع الرئيس، المسئول عن العلاقات الدولية. بهذا الشأن، فى حال فوز التجمع الوطنى، قد تشهد الدبلوماسية الفرنسية مرحلة غير مسبوقة من الاضطراب، على اعتبار الاختلاف والتنافس الذى سيحصل بين مؤسستى الرئاسة والبرلمان، خاصة وأن بارديلا أشار بشكل واضح إلى أنه سيتحدى ماكرون فى القضايا العالمية.
لا أحد يعلم اذا كان ماكرون وبارديلا سيستمران فى الخلاف والتجاذبات ام سينجحان فى التوصل الى نوع من التفاهم والعمل من أجل مصلحة فرنسا.
اذا اختارا الاستمرار فى الخلاف، من الممكن ان يتم الضغط سياسيا على ماكرون من أجل اجباره على تقديم استقالته. ومن الممكن أيضا ان يلجأ ماكرون الى سياسة رفض مشاريع الحكومة، او اللجوء بشكل متزايد إلى المجلس الدستورى لفحص دستورية القوانين قبل إصدارها مما قد يفشل بعض مشاريع الحكومة. وفى كلتا الحالتين ستكون الديمقراطية الفرنسية هى الخاسر الاكبر.