تحمل محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس الأمريكى السابق والمرشح الرئاسى الحالى دونالد ترامب فى تجمع انتخابى ببنسلفانيا أمس الأول العديد من الدلالات والتداعيات الخطيرة على المشهد السياسى الأمريكى وعلى مسار الانتخابات الرئاسية الحالية.
أولا: تأتى هذه المحاولة فى سياق حالة الاستقطاب والانقسام الشديد داخل المجتمع الأمريكى بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى وتصاعد خطاب الكراهية والتحريض الذى انعكس فى تبادل الاتهامات والشتائم بين بايدن وترامب فى المناظرة الأخيرة، ومن ثم تصاعد ظاهرة العنف السياسى، والتى برزت مع أحداث اقتحام الكونجرس فى 6 يناير 2021، والتحول من إدارة الاختلافات السياسية سلميا واحترام قواعد اللعبة الديمقراطية، إلى استخدام العنف السياسى المصحوب بخطاب الكراهية والتحريض، مما أوجد البيئة المواتية لممارسة العنف وهو ما دفع أحد الأشخاص إلى القيام بمحاولة اغتيال ترامب لمنع فوزه وعودته إلى البيت الأبيض. ولاشك أن هذه المحاولة وغيرها تثير التساؤلات حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية التى تعرضت لشروخات كبيرة وعديدة خلال السنوات الماضية والتى انعكست فى تشكيك البعض فى نزاهة الانتخابات واتهامات بعض الجمهوريين بتزويرها، كما حدث فى الانتخابات الرئاسية 2020، كذلك تراجع مبدأ استقلال وتوازن السلطات، مع توظيف العدالة والقضاء الأمريكى لأغراض سياسية كما انعكس فى محاكمات ترامب، إضافة لاستخدام السلطة التشريعية أيضا فى الصراع السياسى بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى واستخدام سلاح الأغلبية لعزل الرئيس ترامب إبان حكمه، وكذلك محاولة عزل الرئيس الحالى بايدن، وهذا يعنى أن الديمقراطية الأمريكية فى مفترق طرق وأنه إذا لم تستطع النخبة السياسية الأمريكية احتواء العنف السياسى والاستقطاب الحاد، فإن هذه الحادثة قد تكون مقدمة لحوادث أخرى، خاصة مع اتهامات بعض عناصر اليمين المتطرف الموالى لترامب للديمقراطيين خاصة اليسار المتطرف بأنه وراء الحادث، وقد يهدد هذا باندلاع أعمال عنف خلال الفترة المقبلة، خاصة من قبل المجموعات المتشددة من الأمريكيين البيض الذين يصعب السيطرة عليهم سياسيا.
ثانيا: أن نتيجة التحقيقات سيكون لها تأثير كبير فى مسار الأحداث، فالشخص الذى حاول اغتيال ترامب قتل على يد عناصر الخدمة السرية، وبالتالى سيكون من الصعب معرفة دوافعه الحقيقية وهل قام بهذا العمل بمفرده، أم أن هناك تنظيما إرهابيا يدعمه، وهل له علاقة بالحزب الديمقراطى، وغيرها من التساؤلات التى ربما ستستغرق وقتا طويلا وقد لا تصل إلى نتائج حاسمة، كما حدث مع جريمة اغتيال الرئيس الأسبق جون كيندى ولم يتم التوصل إلى الحقيقة حتى الآن. كما أن الحادثة أعادت الجدل بقوة داخل المجتمع الأمريكى مرة أخرى حول قضية حيازة الأسلحة، فثلث الأمريكيين يمتلكون أسلحة، أى اكثر من مائة مليون شخص، وعقب كل حادثة يثور الجدل حول ضرورة منع حيازة الأسلحة وهو ما يقابل بمعارضة شديدة من قطاعات كبيرة خاصة من الجمهوريين، ومن ورائهم لوبى شركات الأسلحة القوى، تحت مبرر أن الدستور الأمريكى ينص على حق الأفراد فى امتلاك وحيازة الأسلحة للدفاع عن النفس، ولذلك من غير المتوقع أن يتم سن تشريعات جديدة لحظر الأسلحة وإنما، كما فى المرات السابقة التى تعقب كل حاثة قتل جماعى، سيتم وضع مزيد من القيود على امتلاك الأسلحة من قبيل حظر البنادق الآلية والكشف عن السجل العقلى والصحى لمن يمتلك سلاح.
ثالثا: من الناحية السياسية، سيسعى ترامب، الذى نجا بأعجوبة، إلى توظيف تلك المحاولة لاغتياله لدعم موقفه السياسى فى سباق الانتخابات وإظهار أنه ضحية للديمقراطيين ومن يحاولون منعه من الفوز، وأنه مضطهد سياسيا وقانونيا من خلال المحاكمات وأنه أكثر قوة وصلابة وتجاوز ذلك التحدى، خاصة بعد تأكيده حضور المؤتمر السنوى للحزب الجمهورى اليوم الاثنين، لترشيحه رسميا من قبل الحزب فى الانتخابات الرئاسية.
ولاشك فى أن محاولة الاغتيال الفاشلة قد تزيد التعاطف السياسى مع ترامب، خاصة من قبل المترددين والمستقلين، إضافة إلى أنصاره فى الحزب الجمهورى، فى ظل وضعه الجيد فى السباق الانتخابى بعد مناظرته مع الرئيس بايدن الذى بدا فيها متلعثما وغير قادر على مجاراة ترامب، الذى استطاع أن يكون أكثر قوة وحجة مما سيعزز من فرصه فى الفوز فى الانتخابات، خاصة بعد قرار المحكمة الدستورية العليا بتحصين أفعاله إبان وجوده فى السلطة، وهو ما سيعطى انطباعا لدى أنصار ترامب بأن هناك محاولات حثيثة لإيقاف تقدمه فى الانتخابات.
رابعا: محاولة اغتيال ترامب الفاشلة ستؤسس بالتأكيد لمرحلة جديدة فى العمل السياسى الأمريكى فى ظل تداعياتها الخطيرة وتأثيراتها على المشهد الانتخابى وعلى حالة الاستقطاب الحادة فى المجتمع، ولذلك فإن إدانة الرئيس بايدن ورموز الديمقراطيين مثل الرئيس السابق أوباما والرئيس بيل كلينتون، ووقف حملة بايدن أنشطتها الدعائية بشكل مؤقت، لن تكون كافية لاحتواء تداعيات تلك الحادثة، وإنما هناك حاجة إلى تغيير حقيقى لإنهاء الانقسام داخل المجتمع الأمريكى، سواء داخل النخبة أو فى الشارع الأمريكى، وتحقيق التفاهم بين الديمقراطيين والجمهوريين على قواعد اللعبة السياسية وإدارة الاختلافات السياسية خلال المرحلة المقبلة، والابتعاد عن خطاب التحريض، وذلك لتحقيق الوحدة الأمريكية، وهو الوعد الذى قطعه الرئيس بايدن على نفسه إبان الانتخابات السابقة وفشل فى تنفيذه حتى الآن.