تتجه الحرب الروسية-الأوكرانية نحو مزيد من التعقيد نتيجة تنامي محفزات استمرار التصعيد بين طرفي الحرب، إثر الهجوم الصاروخي الأوكراني الأول من نوعه على روسيا، باستخدام صواريخ (Atacms) الأمريكية و(Storm Shadow) البريطانية طويلة المدى، بعد أن واقفت الإدارة الأمريكية الحالية على السماح لكييف باستهداف العمق الروسي في خطوة مُفاجئة -إذ كان استخدام هذه الصواريخ قاصرًا على ضرب أهداف روسية خارج حدودها- قد تكون استجابةً للمطالب الأوكرانية المُتكررة خلال الشهور الماضية، لتعزيز موقفها الدفاعي، وخاصة في أعقاب الدعم الكوري الشمالي المُتصاعد لموسكو خلال الآونة الأخيرة.
الأمر الذي قابله رد روسي حاسم تمثل في الموافقة على إدخال تعديلات على العقيدة النووية الروسية رسميًا بعد أن كان الأمر مُجرد تلويح بممارسة المزيد من الضغط على أوكرانيا والغرب، علاوة على تطور الهجوم الروسي على كييف من خلال توجيه ضربة صاروخية لجأت فيها روسيا -لأول مرة- لاستخدام صاروخ باليستي عابر للقارات من طراز (RS-26 Rubezh)، وهو ما أثار تساؤلات حول ماهية الارتدادات العكسية للمشهد الحالي، وإلى أي مدى يمكن أن يسهم في جر روسيا إلى مواجهة مباشرة مع القوى الغربية، في إطار حربها على أوكرانيا، بالتزامن مع اقتراب تولي إدارة أمريكية جديدة بحلول عام 2025 برئاسة الرئيس السابق “دونالد ترامب”؟.
تصعيد نوعي في سياق الردع
أدى إصرار طرفي الحرب على حسم المعركة قبل الدخول في أي تفاوض مُحتمل، إلى خلق المزيد من الخيارات السياسية التي قد تسهم في إعادة توازن القوى، في ضوء استمرار التقدم الروسي على جبهتي دونيتسك وكورسك. وتأكيد روسيا على الأخذ في الاعتبار الوضع على الأرض في أي مسار تفاوضي، فيما تشدد أوكرانيا على أهمية عدم التخلي عن أراضيها، إلى تنامي فرص المواجهة العسكرية المُتبادلة “غير المحسومة”، والتي باتت غير قاصرة على موسكو وكييف، بل قد تمتد إلى أطراف دولية أخرى.
هذا بجانب المآلات المُحتملة لتحديث العقيدة النووية الروسية التي بموجبها ستستخدم روسيا ترسانتها النووية في حالة ما “إذا تعرضت لهجوم من دولة غير نووية، مدعومة بقوة نووية، وهو ما ستتعامل معه روسيا باعتباره هجومًا مشتركًا عليها يستوجب الرد النووي”. كما يمكن أن تستخدم موسكو أسلحتها النووية أيضًا “ردًا على استخدام الأسلحة النووية وغيرها من أنواع أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا أو حلفائها، وكذلك في حالة العدوان ضد روسيا وبيلاروسيا بأسلحة تقليدية تهدد “سيادتهما و/أو سلامة أراضيهما”. كما تُضيف العقيدة المُعدلة حالات أخرى، بحسب ما نشرته “وكالة أسوشيتيد برس” تتجلى أبرزها في:
- “إذا وردت معلومات موثوقة عن إقلاع أو إطلاق طائرات استراتيجية وتكتيكية، أو صواريخ كروز، أو طائرات بدون طيار، أو مركبات فرط صوتية، أو غيرها من المركبات الطائرة وعبورها للحدود الروسية، أو إطلاق صواريخ باليستية تستهدف أراضي روسيا أو حلفائها”.
- “إذا كان تأثير العدو في منشآت حكومية أو عسكرية روسية بالغة الأهمية من شأنه أن يقوض القدرة على شن ضربة نووية انتقامية”.
وعليه، فقد وسعت روسيا في إطار ما تُسميه “سياسة الردع” شروط استخدام السلاح النووي، مُقارنة بعام 2020؛ إذ أوضحت في “المبادئ الأساسية للسياسة الحكومية للاتحاد الروسي بشأن الردع النووي” أنه “في حالة العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية عندما يكون وجود الدولة في خطر” يمكن لموسكو استخدام أسلحتها النووية. وهو ما يُنذر بأن فرص مواجهة الغرب مع روسيا باتت مرهونة بطبيعة واستدام الدعم الغربي لأوكرانيا وحدود فاعليته، وهو ما ستوظفه روسيا لصالحها، في إطار تبنيها سياسة “رد الفعل”.
يضُاف إلى ذلك التحول النوعي في الهجوم الصاروخي الروسي الأخير على مدينة “دنيبرو” والذي ألحق الضرر بمصنع “بيفدنماش” الأوكراني الخاص بتصنيع الصواريخ، بجانب مناطق سكنية، ومنشأة طبية، وقد عقبت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” على هذه الضربة مُوضحةً أن الصاروخ قد أُطلق برأس حربي تقليدي “يمكن إعادة تجهيزه لحمل أنواع مختلفة من الرءوس الحربية التقليدية أو النووية”، وأنه نسخة جديدة “تجريبية” يتم استخدامها للمرة الأولى في الحرب بحسب “سابرينا سينغ” المتحدثة باسم البنتاجون. في المقابل، فقد اعتبر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أن الضربة جاءت ردًا على استهداف الأراضي الروسية خلال كلمته التي ألقاها بالتزامن مع الهجوم على أوكرانيا في الحادي والعشرين من نوفمبر 2024.
برغم من أن الهجوم الصاروخي لم يكن تحولًا جديدًا في حد ذاته، خاصة وأن روسيا قد سبق واستهدفت أوكرانيا بشكل متواصل بصواريخ “إسكندر الباليستية” و”كروز كيه-101″ القادرة على حمل رءوس نووية، وصواريخ “كينزال” الباليستية الأسرع من الصوت، ولكن الجديد هذه المرة هو صاروخ “أوريشنيك”، والذي دخل جبهة القتال ليُثير مزيدًا من الجدل حول مدى فاعلية آليات الردع والمواجهة الأوكرانية المدعومة من الغرب في هذا التوقيت الحرج، كما أنه جاء ليُعيد الزخم حول قدرة السلاح الروسي، علاوة على ذلك فإنه يحمل رسالة مُوجهةً للغرب حول مدى القدرات الروسية على الرد بشكل متدرج وفقًا لما تقتضيه تطورات الحرب.
وبالنظر إلى الصاروخ، فقد أشارت مصادر أمريكية وبريطانية إلى كونه لا يزال صاروخًا تجريبيًا متوسط المدى، قادرًا على حمل رءوس نووية، ويبلغ مداه حوالي (5500 كيلومتر)، وهو ما يمكنه من الوصول إلى أوروبا في حالة إطلاقه من جنوب غرب روسيا، بحسب “الجادريان“. فيما صرح الرئيس “بوتين” بأن “الصاروخ ليس تحديثًا لصاروخ سوفيتي قديم، مُدعيًا أن المصممين الروس ابتكروه “على أساس التطورات الحديثة والمتطورة”، كما أنه لا يوجد نظام دفاعي ضد “أوريشنيك”، وذلك خلال اجتماعه في اليوم التالي للضربة مع قادة ومسئولين عسكرين.
حدود المواجهة الروسية-الغربية
أعاد التصعيد الراهن النقاش حول مدى إمكانية الصدام العسكري بين روسيا والقوى الغربية في سياق دعم أوكرانيا، مع تولي إدارة “ترامب” بدايةً من العام المُقبل؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد من التركيز على مجموعة من الاعتبارات على النحو التالي:
- أن التصعيد العسكري الروسي رغم أنه يأتي في سياق سياسات الردع فإنه لا ينفي احتمالية التصعيد المباشر بين روسيا والغرب، خاصة وأن العديد من مسئولي الدفاع في الدول الأوروبية قد حذروا مرارًا من احتمالية الدخول في حرب مباشرة مع روسيا خلال السنوات المقبلة. فضلًا عن استمرار سياسة التوسع التي يتبناها حلف شمال الأطلسي لتطويق روسيا، والحد من قدراتها على تهديد الأمن الأوروبي.
- وفيما يتعلق بتعديل العقيدة النووية، فإنها تعتبر جزءًا لا يتجزأ من آليات التحرك الروسي لزيادة قدرتها على المناورة السياسية، والحفاظ على مكانتها كقوى كبرى، قادرة على إدارة التهديدات التي تشهدها، فضلًا عن استمرار ردع أوكرانيا والغرب.
- أما مسألة السماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة طويلة المدى من قبل واشنطن، فبالرغم من أهميتها في ظل المطالب الأوكرانية المتكررة، فإن فاعلتيها في حسم المعركة في هذا التوقيت قد تكون نسبية، في ضوء مواصلة روسيا التقدم على الجبهة. لذا قد يعكس هذا القرار حالة من الارتباك التي تشهدها إدارة “بايدن” في تعاطيها مع أوكرانيا، فإذا كانت ترغب في دعم أوكرانيا بشكل فعال، وتعيد صياغة معادلة الحرب اعتمادًا على “الأرض مقابل الأرض” كان عليها السماح بهذا الأمر خلال هجوم كورسك، أو قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وعليه؛ قد يُشير هذا الوضع إلى أن إدارة “بايدن” تحاول عرقلة أي مسار مُحتمل قد يسعى إليه “ترامب” خلال ولايته الثانية؛ لكي تظهره بأنه غير قادر على إدارة المشهد، على عكس ما تعهد به، فضلًا عن احتمالية أن يكون الهدف أيضًا من القرار هو توازن القوى بين طرفي الحرب لتقليل حجم الخسائر التي قد تشهدها أوكرانيا.
- في سياق هذا التحول، تواجه الدول الأوروبية العديد من التحديات في مقدمتها مدى قدرتها على تعزيز دفاعتها للرد على روسيا في حالة المواجهة المباشرة التي تزايدت فرصها مُؤخرًا، يُضاف إلى ذلك ما مدى إمكانية مدّ أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة المتطورة والنوعية في ظل استمرار استنزاف مخزونات الأسلحة الغربية، وتنامي الطلب الأوكراني على السلاح.
ختامًا، تدخل الحرب الروسية-الأوكرانية فصلًا جديدًا من التصعيد في ضوء تحديث العقيدة النووية الروسية، والسماح لأوكرانيا باستهداف الداخل الروسي بالصواريخ طويلة المدى الغربية، ولجوء موسكو لترسانتها المتطورة. لذا، من المُرجح أن تُعرقل هذه التحولات المتشابكة أي مسار مُحتمل للتفاوض خلال المرحلة المُقبلة، كما ستفرض المزيد من التحديات على الإدارة الأمريكية الجديدة.