شهدت الساحة السورية تطورًا مفاجئًا منذ 27 نوفمبر الجاري، إذ أعلنت مليشيات مسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، بدء عملية عسكرية واسعة ضد قوات الجيش السوري و”المليشيات الموالية لإيران” أطلقت عليها عملية “ردع العدوان”، والتي تمكنت على مدار الأسبوع الماضي من السيطرة على حلب وإدلب، وتواصل خلال الوقت الراهن تقدمها نحو حماة.
وعلى الرغم من تباين التحليلات حول أسباب هذا التصعيد؛ إذ ذهب بعضها إلى انشغال القوى الداعمة للرئيس السوري “بشار الأسد” والممثلة في روسيا وإيران بقضايا أخرى، كالحرب الأوكرانية والوضع في لبنان. في حين جادلت تحليلات أخرى أن هذا الهجوم يأتي استباقًا لأي هجمات من جانب الجيش السوري، بينما ترى تحليلات ثالثة أن هذا التحرك لا ينفصل عن الترتيبات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من عام.
لكن ظل هناك بُعد يحتاج إلى تسليط الضوء عليه، ويتمثل في دور تنظيم “داعش” في هذا التصعيد، ويمكن الوقوف على هذا الدور بالنظر إلى محددين رئيسيين؛ يتعلق أولهما: بملامح نشاط التنظيم في سوريا، وينصرف ثانيهما: إلى العلاقة بينه وبين “هيئة تحرير الشام”، وبالتالي تساعد هذه المحددات على تقديم تصور واستشراف للدور في هذا المشهد شديد التعقيد والتشابك.
ملامح نشاط “داعش” في سوريا
استطاع تنظيم “داعش” الاحتفاظ بعدد من الخلايا النشطة بعد هزيمته المكانية في سوريا؛ حيث عزز من شبكاته في البادية السورية، ومنذ عام 2023 صعّد من هجماته في جميع أنحاء البلاد، مستفيدًا من النزاعات الإقليمية، ومستغلًا تراجع جهود مكافحة الإرهاب، إذ أعلنت القيادة المركزية للولايات المتحدة الأمريكية في 16 يوليو 2024، أن التنظيم يتجه إلى مضاعفة عدد الهجمات التي نفذها في سوريا والعراق في عام 2023، لافتة إلى أن “الزيادة في الهجمات تشير إلى أنه يحاول إعادة تشكيل نفسه بعد عدة سنوات من انخفاض قدرته”. لكن جاءت الهجمات التي شهدتها سوريا، في معظمها بسيطة وغير معقدة، مستهدفة المواقع العسكرية للحكومة السورية؛
حيث يتبع التنظيم استراتيجية “الانتقاء المؤثر” والتي تشير إلى تنفيذ هجمات تحقق له أكبر قدر من التأثير وفي الوقت ذاته تكبده قدرًا محدودًا من الخسائر.
وتجدر الإشارة إلى أن الساحة السورية تتمتع بأهمية استراتيجية بالنسبة له، في إطار عاملين رئيسيين؛ يتعلق أولهما: برمزيتها، على خلفية كونها مقر خلافته المزعومة في مرحلة ما قبل الهزيمة الجغرافية له، وبالتالي فقدرته على تنفيذ عمليات إرهابية داخلها يوحي باستمرار امتلاكه القدرة والسيطرة. وينصرف ثانيها: إلى موقعها الجغرافي واتصالها الحدودي بالعراق؛ حيث الدعم اللوجستي والتمويل.
العلاقة بين “داعش” و”هيئة تحرير الشام”
أتاح اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 فرصة لتمدد تنظيم “دولة العراق الإسلامية” بقيادة “أبو بكر البغدادي”؛ حيث سعى إلى تأسيس فرع تابع لتنظيم “القاعدة” في سوريا، ومن ثَمّ أرسل “أبو محمد الجولاني” لتشكيل”جبهة النصرة” التي أعلنت عن وجودها في 24 يناير 2012، ونجحت في ترسيخ نفوذها في الساحة السورية.
وقد تخوف “البغدادي” من خروج “جبهة النصرة” عن سيطرته بفضل النجاحات السريعة التي حققها ضد القوات السورية؛ مما دفعه إلى الإعلان عن دمجها مع “دولة العراق الإسلامية” في كيان واحد باسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في أبريل 2013 على أن يخضع هذا الكيان لقيادته، لكن “الجولاني” تعهد بالبيعة لــ “أيمن الظواهري” (زعيم تنظيم القاعدة السابق).
وقبل نهاية 2013، اندلع الصراع بين “داعش” و”جبهة النصرة” على إثر محاولات الأول توسيع نفوذه في مناطق سورية تسيطر عليها المليشيات المسلحة المتحالفة مع الثانية؛ حيث انحازت “جبهة النصرة ” لحلفائها؛ مما أدى إلى صدامات عنيفة بين الطرفين استمرت حتى عام 2017.
ومع التغيرات التي طرأت على “جبهة النصرة” وتحولها إلى “هيئة تحرير الشام” في يوليو 2017، على خلفية فك ارتباطها بتنظيم “القاعدة” من أجل إظهار نفسها كفاعل سياسي، فضلت الهيئة النهج القانوني في التعامل مع خلايا “داعش”؛ حيث قدمت نفسها كحكومة محلية لديها أجندة متعلقة بمكافحة الإرهاب، وبالتالي أعلنت عن 59 عملية لاعتقال أعضاء خلايا تنظيم “داعش” في إدلب خلال الفترة من يوليو 2017 حتى يناير 2023.
داعش والتصعيد في سوريا
في ضوء ما تقدم، من المحتمل أن يوظف تنظيم “داعش” التطورات التي تشهدها الساحة السورية، من أجل تعزيز نفوذه، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
تصعيد النشاط العملياتي: من المرجح أن يسعى تنظيم “داعش” إلى تكثيف هجماته في الساحة السورية مستغلًا الضغط الذي تتعرض له قوات النظام السوري، وتغيُّر الأولويات الأمنية للقوى الإقليمية والدولية، فضلًا عن تحول المجتمع الدولي إلى قضايا مُلحة كالحرب في غزة، والحرب الروسية الأوكرانية. وقد استمر التنظيم في تنفيذ هجماته بالتزامن مع التصعيد الذي تشهده الساحة السورية، فوفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، نفذت خلايا التنظيم 27 عملية خلال شهر نوفمبر الماضي، توزعت بين مناطق سيطرة “قسد” والجيش السوري، وأسفرت عن مقتل 14 شخصًا، بينهم 5 مدنيين.
استهداف السجون والمخيمات: من المتوقع أن يستغل “داعش” التصعيد الذي تشهده الساحة السورية، من أجل إعادة إحياء استراتيجية “هدم الأسوار” والتي تهدف إلى تحرير عناصره من السجون؛ حيث تحتوى مدن “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا والخاضعة لـ “قوات سوريا الديمقراطية” على 9 سجون، تضم الآلاف من سجناء التنظيم، هذا بالإضافة إلى المخيمات التي تضم عائلات التنظيم وعلى رأسها مخيم “الهول” الذي يقدر عدد المقيمين به بنحو 43 ألفًا و477 فردًا بحسب إحصاءات المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مارس 2024، بالتالي يمكن أن يساعده استهداف السجون والمخيمات على إعادة تشكيل صفوفه، ومن ثَمّ انتعاشه العملياتي. وعلى صعيد آخر، قد يحمل استهداف السجون تداعيات واسعة تهدد الأمن الإقليمي والدولي، وعلى رأسها تنامي خطر “العائدين من داعش”.
تعزيز القدرات البشرية: من المتوقع أن يعمل تنظيم “داعش” على تعزيز قدراته البشرية، لا سيما مع تصاعد احتمالية تدفق “المقاتلين الأجانب” إلى الساحة السورية مرة أخرى نتيجة لارتباطهم بفواعل إقليمية ودولية لديها أجندات سياسية تسعى إلى تحقيقها عبر توظيفهم؛ مما يُعيد إلى الأذهان ما شهدته سوريا في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2011، وتكمن خطوة هؤلاء في ثلاثة عوامل رئيسية؛ يتعلق أولها: بزيادة قدرة التنظيمات الإرهابية على الصمود أمام الضغوط الأمنية. وينصرف ثانيها: إلى تطوير استراتيجيات القتال لدى تلك التنظيمات على المستويين العملياتي والتكتيكي، وذلك في ضوء الخبرات التي اكتسبها هؤلاء من مناطق الصراع المختلفة. ويتصل ثالثها: بتوظيفهم معدلات عالية من العنف تجاه المدنيين.
تنسيق عملياتي مؤقت: ثمة احتمالية لحدوث تنسيق عملياتي موقت إما بين تنظيم “داعش” و”هيئة تحرير الشام” من أجل الضغط على المليشيات الإيرانية والنظام السوري، أو بين “داعش” و”حراس الدين” الفصيل التابع لتنظيم “القاعدة” في سوريا من أجل الضغط على “هيئة تحرير الشام”، ويعتمد اختيار تنظيم “داعش” للفصيل الذي سيتعاون معه بناءً على تحديده لأولويات مصلحته في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من استبعاد بعض التحليلات هذا التنسيق العملياتي، على خلفية الاختلافات الأيديولوجية والصراعات التنظيمية التي تحول دون ذلك، فإنه بتتبع مسارات عمل التنظيمات الإرهابية مؤخرًا اتضح تصاعد اتجاه داخلها قائم على تغليب المصالح البرجماتية على حساب الأبعاد الأيدولوجية؛ مما يوحي بأنها تسعى إلى التكيف مع السياقات المتغيرة بدرجة تحقق لها أهدافها الثابتة.
مجمل القول، على الرغم من غياب دور واضح لتنظيم “داعش” في التوترات التي تشهدها الساحة السورية على خلفية تصعيد المليشيات المسلحة ضد النظام السوري، فإنه من المرجح في حال استمرار التصعيد بين الطرفين، أن يكون هناك دور مؤثر له في الساحة السورية على خلفية اعتماده على فقه “استغلال الأزمات” القائم على توظيف الصراعات والأزمات من أجل تعزيز نفوذه؛ مما يتطلب من المجتمع الدولي ضرورة إعادة النظر في ترتيب أولوياته الأمنية مرة أخرى، والتعامل مع التنظيمات الإرهابية باعتبارها تهديدات مستمرة طويلة المدى.






























