من اللافت أنه تزامناً مع دخول اتفاق وقف اطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في جنوب لبنان حيز التنفيذ في فجر 27 نوفمبر2024، شنت فصائل المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام هجوم عسكري اطلقت عليه “ردع العدوان”، انطلاقاً من قاعدتها في محافظة إدلب في شمال غرب سوريا، لتتوالي انتصاراتها الميدانية لتشمل السيطرة على كامل إدلب وحلب وحمص خلال أيام قليلة، إلى أن تمكنت يوم 8 ديسمبر من السيطرة على العاصمة السورية دمشق واسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وهو ما دفع للتساؤل التالي؛ كيف تستثمر تل أبيب تطورات الوضع الميداني الراهن في سوريا؟
انطلاقاً مما سبق، تهدف المقالة لمناقشة التحركات الإسرائيلية في الجولان السوري المحتل وداخل الأراضي السورية، والتي تكثفت مع اطلاق الفصائل المسلحة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام عملية “ردع العدوان” وسقوط نظام الرئيس بشار الأسد، إلى جانب تناول الأهداف المحتملة للتوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية.
أولاً: مزيد من المكاسب الميدانية الإقليمية..ملامح التحركات الإسرائيلية تجاه سوريا
إن ما تشهده الساحة الميدانية السورية من تطورات على وقع تقدم الفصائل المسلحة بقيادة زعيم هيئة تحرير الشام “أبو محمد الجولاني”، تُتيح مزيد من الفرص الذهبية أمام تل أبيب لحصد مزيد من المكاسب الميدانية الإقليمية؛ فإلى جانب جنوب لبنان التي لا تزال تُحافظ تل أبيب على تمركزاتها العسكرية فيها، مع استمرار عمليات التوغل في العمق اللبناني، اتاحت حالة الفوضي الأمنية في الداخل السوري، تل أبيب لتوسيع حدودها الإقليمية على حساب سيادة الدولة السورية، وهو ما يُستدل عليه بالنقاط التالية:
أعلن الجيش الإسرائيلي في 8 ديسمبر 2024، وفي أعقاب إعلان الفصائل المسلحة السيطرة على دمشق وسقوط نظام الرئيس بشار الأسد، احتلال المنطقة العازلة الخاضعة لمراقبة الأمم المتحدة مع سوريا البالغ مساحتها نحو 235 كيلومتراً مربعاً بين إسرائيل وسوريا، أي ما يعادل حوالي 60% من مساحة قطاع غزة، بما في ذلك موقع جبل الشيخ الاستراتيجي؛ وذلك بهدف الدفاع عن أمنها القومي، وهو ما أكدت عليه أحد العناصر المحلية في منطقة القنيطرة الحدودية السورية، التي رصدت توغل القوات الإسرائيلية لمسافة 15 كيلومتر داخل الأراضي السورية، ووصلت لوسط مدينة البعث في القنيطرة الموازية للجولان السوري المحتل، مع إطلاقها 4 قذائف.
كما أعلن الجيش الإسرائيلي عن تحويل المنطقة السورية المجاورة للجولان لمنطقة عسكرية مغلقة، مع فرض نظام خاص اعتبارا من 8 ديسمبر في المناطق الزراعية في (ماروم الجولان – عين زيفان وبقعاتا – خربة عين حورة)، والسماح للمزارعين بدخول مناطق مختارة في هذه المنطقة لبضع ساعات، وفقاً للضرورة العسكرية وبالتنسيق الكامل مع الجيش الإسرائيلي.
علاوة على ذلك، أعلن الجيش الإسرائيلي عن مواصلة الجيش الإسرائيلي حفر خندق عميق على طول الحدود وخط وقف إطلاق النار مع سوريا، مع إقامة القوات الإسرائيلية حواجز على الطرقات القريبة من خط وقف إطلاق النار في الجولان.
كما أوضحت مصادر إسرائيلية عن استهدافت قواتها لقوافل كانت فرت من القصير في سوريا وتنقل عناصر من حزب الله وأخرى داعمة للنظام السوري، في ظل التحذيرات الإسرائيلية المتوالية بالتصدى لأية محاولات بتهريب أسلحة عن طريق سوريا إلى حزب الله في لبنان، مع التأكيد على متابعتها عن كثب لمصير الأسلحة غير التقليدية التي كانت بأيدي النظام عقب سقوطه.
وفي سيناريو يُعاد تكراره على غرار جنوب لبنان ومن قبل في قطاع غزة، وجه الجيش الإسرائيلي تحذيرا، لخمس بلدات في جنوب سوريا هم (أوفانية، القنيطرة، الحميدية، الصمدانية الغربية و القحطانية) داعيا السكان إلى البقاء في منازلهم حتى إشعار آخر بسبب القتال الدائر في المنطقة، مما يُمهد بتوسع الاجتياح البري الإسرائيلي لجنوب سوريا ولحدودها الغربية مع لبنان، وهو ما ينجم عنه موجة نزوح سورية جديدة في الداخل، وموجات لجوء في دول الجوار السوري، لاسيما الأردن والعراق.
علاوة على ذلك، عقد رئيس الأركان الإسرائيلي، الجنرال “هرتسي هاليفي” جلسة تقييم للوضع الأمني في مقر الفرقة 210 بحضور أعضاء منتدى هيئة الأركان وقائد الفرقة يوم 7 ديسمبر، تم خلالها المصادقة على خطط هجومية ودفاعية في ظل التوترات على الحدود الشمالية، واستمرار مراقبة المصالح الإيرانية والخروج الإيراني، باعتباره أولويات تل أبيب الرئيسية، إلى جانب متابعة تصرفات الجهات المحلية المسيطرة على المناطق الحدودية، وهو ما يُشير إلى غزو بري محتمل وواسع النطاق الجغرافي لجنوب وغرب سوريا تحت دعوى محاربة الميلشات الإيرانية وقطع طرق الإمداد بين طهران وحزب الله عبر الحدود السورية، وأن ما تشهده الساحة الأمنية السورية من حالة عدم استقرار تُهدد بطبيعة الحال الأمن القومي الإسرائيلي، لذا يُحتم على القيادة العسكرية الإسرائيلية اتخاذ خطوات استباقية لتأمين حدودها وأمنها القومي عبر عملية عمسكرية برية داخل الأراضي السورية.
إن التحركات العسكرية الإسرائيلية في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، لم تكن الأولى خلال الفترة الماضية؛ حيث سبق وأن اتخذت تل أبيب خطوات تمهيدية على مدى الأشهر الماضية استعداداً لغزو الأراضي السورية؛ ففي أكتوبر 2024، نفذت القوات الإسرائيلية إزالة لألغام أرضية وإقامة حواجز على الحدود بين هضبة الجولان المحتلة وشريط منزوع السلاح على الحدود مع سوريا، وسط صمت تام من دمشق .
كما شرعت تل أبيب بفتح ممرات في الجولان السوري المحتل، وتفجير حقول ألغام بمحاذاة خط وقف إطلاق النار عدة مرات، بالتوازي مع تصاعد الاستهدافات وعمليات التدفق للميلشيات الإيرانية إلى الجنوب السوري ومنها إلى الداخل اللبناني.
يُضاف إلى ذلك، نشرت وكالة أسوشيتد برس في نوفمبر 2024 لقطات جوية لإسرائيل وهي تقوم بالبناء على طول خط ألفا،- الخط الفاصل بين سوريا ومرتفعات الجولان المحتلة- أظهرت الصور التي التقطتها Planet Labs PBC في 5 نوفمبر لصالح وكالة أسوشيتد برس حوالي 4.6 ميل من البناء من قبل القوات الإسرائيلية على طول الخط.
كما سبق وأن سجلت قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل في الأشهر الأخيرة، بعض أنشطة البناء التي تقوم بها قوات الدفاع الإسرائيلية على طول خط وقف إطلاق النار، في صورة سواتر ترابية وخنادق تمنع تحرك الأفراد عبر خط وقف إطلاق النار من منطقة الفصل، بل أنه في بعض الحالات وفي أثناء البناء، يتعدى أفراد قوات الدفاع الإسرائيلية والحفارات الإسرائيلية على منطقة الفصل، وهو ما بررته تل أبيب في تقريرها المقدم لمجلس الأمن في يونيو 2024 بأن بناء الجدار أمر ضرورى للدفاع، وأن إقامة حاجز على الأراضي الإسرائيلية يأتي من أجل إحباط غزو إرهابي محتمل وحماية أمن حدود إسرائيل، بينما تُشير التجهيزات العسكرية الإسرائيلية إلى توسعات إقليمية إسرائيلية، سُجلت أولى خطواتها في اللحظات الأولى عقب سقوط دمشق.
تأتي التحركات الإسرائيلية الحالية في الجولان السوري وما نفذته من اختراقات داخل الأراضي الإسرائيلية ضمن استراتيجية ترسيخ النفوذ الإسرائيلي في الجولان المحتل، والذي يتضمن دعم الاستيطان وزيادة عدد المستوطنين في مرتفعات الجولان، حيث بلغ إجمالي عدد المستوطنين في الجولان المحتلة نحو 25000 مستوطن إسرائيلي، بينما تُخطط تل أبيب لزيادة عدد المستوطنيين إلى 5 آلاف مستوطن، وذلك وفق تصريحات “جورجيو كافييرو” الرئيس التنفيذي لشركة جلف ستيت أناليتيكس،وهي شركة استشارية للمخاطر الجيوسياسية.
ثانياً: الأهداف الإسرائيلية من التوغل البري في سوريا
تأتي التحركات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا، لتحقيق الهدف الأعم والأهم لتل أبيب ورئيس وزراءها بنيامين نتنياهو والممثل في اتخاذ أولى خطوات تحقيق حلم دولة إسرائيل الكبرى عبر اتساع حدودها واقتطاع أجزاء من الأراضي العربية المجاورة وضمها إلى السيادة الإسرائيلية كدولة احتلال، وهو ما تؤكده معطيات التحركات الإسرائيلية العسكرية في الميدانين السوري واللبناني، والتي تأتي جميعها نتاج لعملية طوفان الأقصى التي نجحت حتى الآن تل أبيب في توظيفها لتغيير ملامح الشرق الأوسط، وطرح شرق أوسط جديد، ناهيك عن أن التوسع الإسرائيلي الإقليمي يخدم أجندة نتنياهو الشخصية والداخلية، لينبثق من الهدف الأعم والأشمل عدة أهداف تكتيكية، أبرزها التالي:
- القضاء على الميلشيات الإيرانية في سوريا وتدمير تمركزاتها العسكرية، حيث أن الهدف التكتيكي الأبرز لتل أبيب في سوريا يتمثل في القضاء على كافة الميلشيات الإيرانية في سوريا وتمركزاتها العسكرية، وقطع طرق الإمداد العسكري واللوجيستي بما في ذلك نقل العناصر المقاتلة من سوريا إلى لبنان، وهو ما عملت تل أبيب على تقويضه عبر ضرباتها المتوالية والمتكررة منذ العام 2011 لتمركزات الميلشيات الإيرانية، والتي تكثفت في سوريا منذ 23 سبتمبر 2024، بالتوازي مع التصعيد الإسرائيلي في حنوب لبنان وتنفيذ تل أبيب هجومها البري في 30 من نفس الشهر، والذي شمل كذلك استهداف تل أبيب للمعابر الحدودية السورية اللبنانية . ومن ثم، تهدف تل أبيب من توغلها للأراضي السورية إلى قطع الطريق أمام طهران لاستنساخ جنوب لبناني آخر في جنوب سوريا.
- دعم العمليات العسكرية الإسرائيلية في جنوب لبنان: حيث تُدرك تل أبيب أن الحدود السورية اللبنانية أحد نقاط الضعف الرئيسية أمام عملياتها العسكرية البرية في جنوب لبنان، لذا فإن التوغل العسكري الإسرائيلي داخل الحدود السورية، بل واتساع نطاقه مع مرور الوقت ليشمل الحدود السورية اللبنانية، في ظل حالة الفوضي العارمة التي يشهدها الداخل السوري، سُيمكن تل أبيب من تأمين ظهير عملياتها العسكرية في الداخل السوري، واحكام تل أبيب زمام هجماتها العسكرية في لبنان، وبالتالي خنق حزب الله وباقي الميلشيات الإيرانية في الداخل اللبناني .
وليس ببعيد أن تقوم تل أبيب بتهيئة ممرات في الداخل السوري من أجل تأمين دخولها إلى الأراضي اللبنانية شرق نهر الليطاني عبر الأراضي السورية وفتح جبهة قتال جديدة تكون أحد أهدافها الفصل بين البقاع والجنوب، خاصة مع سيطرة تل أبيب على جبل الشيخ الذي يُعد أحد الأدوات الإسرائيلية لدعم العمليات العسكرية في الداخل اللبناني، حيث تطل الجبهة الشمالية والغربية من الجبل على القسم الجنوبي من سهل البقاع ووادي التيم في لبنان.
بل إن أعلى قمة في الجبل والتي تصل إلى 2814 مترًا يُمكن من خلالها رؤية العديد من المناطق السورية كدمشق وبادية الشام والجولان وسهول حوران، كما يمكن مشاهدة جزء من الحدود الشمالية الأردنية والفلسطينية خاصة جبال الخليل ومحافظة إربد وبحيرة طبريا وسهل الحولة، بالإضافة إلى كل من جنوب لبنان وسلسلة جبال لبنان الغربية وسهل البقاع، وهو ما يجعل من الجبل مركزاً استراتيجياً لرصد ومراقبة كافة التحركات الميدانية في الداخل السوري واللبناني بالنظر وبواسطة أجهزة المراقبة البصرية، إلى جانب الكشف عن الطائرات غير المأهولة على ارتفاعات منخفضة منذ لحظة إقلاعها عبر محطات الرادار والمراقبة الإسرائيلية المتوقع تمركزها على قمة الجبل. فعلى سبيل المثال، يبعد جبل الشيخ عن العاصمة دمشق 38 كيلومترًا، وهي مسافة قريبة يُمكن من خلالها منصات اطلاق الدرونز .
يُضاف إلى ذلك، أن سيطرة تل أبيب على جبل الشيخ سيُمكن إسرائيل من تتبع كل التحركات العسكرية على مناطق واسعة جدًا كمتابعة حركة التجمعات والآليات العسكرية وحركة الأفراد والتعامل الناري المباشر معها بالمدفعية والصواريخ، ما يقلل من احتياجها للقيام بطلعات جوية لتحقيق أهدافها، وهو ما يُفسر بشكل مُجمل السبب وراء اطلاق إسرائيل على جبل الشيخ بـ”عيون الأمة”.
يُضاف إلى ذلك، أن جبل الشيخ يُعد مركزاً مهماً وممراً رئيسياً لنقل الأسلحة والميلشيات الإيرانية إلى الداخل اللبناني، بعدما تمكن حزب الله من تطوير شبكة من النقاط العسكرية الخاصة ومعابر التهريب غير النظامية لتهريب السلاح إلى مناطقه في الأراضي اللبنانية بالتعاون مع قوات النظام، وكذلك شبكة من المتعاونين المحلين من المنطقة معه، بعد أن أوفد “حزب الله” سمير القنطار إلى المنطقة منذ بداية الثورة، وأسس ما يسمى جبهة تحرير الجولان، وبالتالي السيطرة عليه يُعد مكسب ميداني إسرائيلي بارز.
وبخلاف الأهمية العسكرية لجبل الشيخ في التكيتكات العسكرية الإسرائيلية ، يُمثل الجبل أهمية بالغة كمورد رئيسي للمياه لدول المنطقة للحد الذي دفع أول رئيس وزراء لـ”إسرائيل “ديفيد بن غوريون” لوصف الجبل بـ”أبو المياه” باعتباره مصدرًا مهمًا وحيويًا وخزانًا مائيًا يغذي جوف منطقة الجولان وأجزاءً من القطاع الشرقي لجنوب لبنان وسهل الحولة في فلسطين والتي تبلغ مساحتها 165 ألف دونم، فضلًا عن بحيرة طبريا (بحيرة الجليل).
نهاية القول، يبدو ما تسعى تل أبيب لتحقيقه في الداخل السوري وكذلك اللبناني، وفي محيطها الإقليمي ككل، يتجاوز ما يُمكن رصده من معطيات على المستوي الميداني العسكري الإسرائيلي ويتجاوز كذلك القضية الفلسطينية بداية انطلاق سلسلة الفوضي والمعارك في منطقة الشرق الأوسط، ليصطدم في حقيقة الأمر مع المشروع الصهيوني بتأسيس دولة إسرائيل الكبرى، ومما يؤهل نحو فرض تل أبيب نفسها في نظام إقليمي وعربي يرضخ أطرافه وفاعليه للمطامع الإسرائيلية في المنطقة العربية، ويُسرع من اتمام صفقات التطبيع الإسرائيلي العربي.