اجتمع رئيس الوزراء خلال ديسمبر الماضي بعدد من اللاعبين الرئيسيين في مناخ الاستثمار المحلي في مصر، وذلك لمناقشة التحديات التي واجهت ولا تزال تواجه الاقتصاد المصري، استجابة للتوترات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، مع استكشاف سبل التعامل مع هذه الأزمات بحلول عملية تراعي وضع الاقتصاد المصري الراهن من جهة، وتوفر حلولًا للمشكلات التي قد تعيق تحقيق مراحل منتظرة من النمو.
ضمن الملفات التي تناولها اللقاء، جاء تحدي نقص موارد النقد الأجنبي في السوق المحلية، وهي الأزمة التي عانى منها الاقتصاد المصري لأكثر من عامين، حتى أبرمت مصر الاتفاق التاريخي مع الجانب الإماراتي الخاص بتنمية منطقة رأس الحكمة على ساحل البحر المتوسط، بإجمالي 35 مليار دولار.
خلال الاجتماع، كشف رئيس الوزراء عن حجم العجز الدولاري في مصر، والذي يتراوح بين 20-22 مليار دولار، مشيرًا إلى أن الحكومة تعمل على سده من خلال زيادة إيرادات قطاع السياحة، وتعزيز التصنيع المحلي والتصدير.
كان أبرز ما تم تناوله في هذا الصدد أن العجز الدولاري يُعد أكبر مشكلة تواجه مصر، وله تبعات خطيرة على التضخم. وهذا ما واجهه الاقتصاد المصري تحديدًا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في مارس 2022؛ حيث ارتفعت معدلات التضخم من مستوى 3.6٪ للتضخم الأساسي و4.2٪ للتضخم العام في يناير 2021 إلى مستوى 6.2٪ للتضخم الأساسي و7.2٪ للتضخم العام في يناير 2022، ثم إلى 25.8٪ للتضخم العام و31.2٪ للتضخم الأساسي في يناير 2023. واستمر صعوده ليسجل 29.8٪ للتضخم العام و29٪ للتضخم الأساسي في يناير 2024، ليصل في نوفمبر إلى مستوى 25.5٪ للتضخم العام و23.7٪ للتضخم الأساسي.
رغم تراجع التضخم وفق بيانات نوفمبر -بيانات ديسمبر لم تصدر بعد- إلا أنه ما يزال بعيدًا عن مستهدف البنك المركزي المحدد عند 7٪ (±2٪) في الربع الرابع من العام 2024 و5٪ (±2٪) في الربع الرابع من العام 2026. وهو ما دفع البنك المركزي إلى مد أمد هذه المستهدفات في اجتماع لجنة السياسة النقدية في ديسمبر، لتستقر عند المستويات ذاتها ولكن خلال الربع الرابع من 2026 والربع الرابع من 2028 على التوالي.
اتخذت الحكومة، بالتوازي مع إعلان اتفاق رأس الحكمة، عددًا من الإجراءات التي استهدفت تحقيق استدامة تدفق النقد الأجنبي. تضمنت هذه الإجراءات الحصول على تمويلات ميسرة من مؤسسات التمويل الدولية وتحديد مستهدفات للقطاعات الرئيسية المولدة للنقد الأجنبي، والتي تشمل السياحة، قناة السويس، تحويلات المغتربين، وعوائد صناعة التعهيد، خاصة في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
ساعدت هذه الإجراءات، وغيرها، في تحسن احتياطي النقد الأجنبي ليصل إلى أعلى مستوياته في ديسمبر، متخطيًا حاجز الـ50 مليار دولار. كما تحسنت مستويات التضخم نسبيًا وانخفض الدين العام، مما خفف الضغط على الدولار، خاصة مع ما تضمنته اتفاقية رأس الحكمة من تحويل 11 مليار دولار من ودائع الجانب الإماراتي لدى البنك المركزي لصالح الاستثمار في المشروع.
كانت أبرز المقترحات التي طرحها رجال الأعمال خلال الاجتماع هي إجراء تغيير جوهري في الفكر الحكومي للتعامل مع أزمة الشح الدولاري، مع ما يتطلبه ذلك من الاستعانة بالتجارب الناجحة في القطاع الخاص. كذلك، تم اقتراح تشكيل لجنة تضم رجال أعمال من قطاعات مختلفة، تكون مهمتها وضع حلول لعجز العملة الصعبة من خلال أفكار خارج الصندوق. كما تم اقتراح تعزيز اثنين من أهم موارد العملة الأجنبية للبلاد، وهما تحويلات العاملين المصريين بالخارج والسياحة.
حلول أخرى
جذب الاستثمار وخفض الدين
نتفق مع المقترحات التي تم تقديمها من جانب رجال الأعمال لعلاج تلك التحديات، ونؤكد على ضرورة الإسراع في إبرام الاتفاقيات التي نوهت إليها الحكومة، خاصة مع الجانب القطري بشأن مشروعات التنمية على ساحل البحر الأحمر. شكّل نموذج اتفاق رأس الحكمة تجربة مهمة للغاية تستحق التكرار في مشروعات أخرى، خاصة مع استخدام 50٪ من عوائد الاتفاق لتقليل معدلات الدين وتوفير السيولة الدولارية التي يحتاجها السوق المحلي، خصوصًا المصدرين.
يتطلب الوضع الحالي أيضًا التركيز على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر من خلال تقديم محفزات قوية للمستثمرين، خاصة فيما يتعلق باحتساب الضرائب، توحيد سعر العملة، وتسوية الأمور المرتبطة بحساب الأرباح وتحويلها. يتكامل ذلك مع وضع خطوات جادة وخارطة عمل واضحة للبورصة المصرية، كونها مرآة لمناخ الاستثمار في السوق المحلية، حيث يعزز الأداء القوي للبورصة ثقة المستثمرين ويدفعهم إلى التوسع في استثماراتهم أو الدخول في أنشطة جديدة.
ومع تقلبات الأسواق العالمية الحالية، وإعلان الحكومة تسريع برنامج الطروحات بدءًا من الربع الأول من العام الجاري، يُفضل التروي في طرح الشركات المملوكة للدولة ضمن برنامج التخارج. ينبغي أن تُبنى قرارات الطرح، سواء عبر سوق المال أو مستثمرين استراتيجيين، على أوضاع أسواق المال العالمية، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، التي تجعل من الاستثمار في الأسواق الناشئة قرارًا قد يكون غير مشجع حاليًا.
ينبغي أيضًا عدم الاعتماد على عوائد الاستثمار في أدوات الدين قصيرة الأجل (“الأموال الساخنة”) التي أثبتت التجارب أنها أداة تمويل ضعيفة في أوقات الأزمات نظرًا لسهولة خروجها. تطرح مصر حاليًا سندات وأذون خزانة محلية وأخرى مقومة بالدولار بعوائد تاريخية، مما يشكل ضغطًا على السيولة الدولارية عند استحقاق الآجال. لذلك، من الضروري توجيه عوائد هذه الأدوات إلى استثمارات حقيقية في الصناعات والمشروعات التي تعظم هذه العوائد، بما يضمن تقليل عبء السداد على الموارد الدولارية للبلاد.
ونفضل التوسع في الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف القائمة على الاستثمار بدلًا من الاقتراض، بما يعظم العوائد والأصول ويعود بالنفع على جميع الأطراف دون زيادة الأعباء. كذلك، من المهم الإبقاء على قنوات الحوار المفتوحة مع المستثمرين المحليين والأجانب، لحل المشكلات وتحسين بيئة الاستثمار، خاصة في القطاعات الواعدة مثل الصناعة، التكنولوجيا الرقمية، ومراكز البيانات.
دعم المنتج المصري والتصدير
توجد ضرورة أيضًا لوضع برامج واضحة ومحددة بزمن لدعم المنتج المصري وزيادة قدرته التنافسية بهدف معالجة عجز الميزان التجاري من خلال تقليل الواردات وزيادة الصادرات، مما يخفف الطلب على الدولار. بالإضافة إلى التوسع في برامج مبادلة الديون التي تقوم على تحويل جزء من الديون المستحقة إلى استثمارات في مشاريع تنموية أو اجتماعية داخل الدولة. وقد تم تطبيق هذه الفكرة مع دول مثل الصين، إيطاليا، وألمانيا، وأسهمت في تقليل عبء الدين وتخفيف الضغط على الدولار.
يمكن تطبيق ذلك بالتزامن مع توجيه برامج لدعم المصدرين، ليس ماديًا فقط، بل فنيًا أيضًا، من خلال برامج تعزز الميزة التنافسية للمنتج المصري داخل السوق المحلية وفي الأسواق الخارجية. ويمكن تنفيذ ذلك بالشراكة مع المؤسسات الوطنية أو الدولية، على أن تكون هذه البرامج ضمن أسس اتفاقات الشراكات الاستراتيجية الموقعة بين الجانبين.
من الضروري أيضًا التوسع في مبادرات دعم قطاع الصناعة لما له من مردود إيجابي على دفع عجلة الإنتاج وتوفير التمويل اللازم، خاصة للصناعات ذات الأولوية، مما ينعكس على السوق المحلية ويعزز تواجد المنتج المصري في الأسواق الخارجية، الامر الذي يتطلب وضع برامج جادة وملحة لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، التي تشكل 98٪ من القطاع الخاص في مصر. هذه الشركات تُعد مصدرًا كبيرًا للتوظيف، وتمتلك المرونة والكفاءات الشابة التي تجعل دعمها مكسبًا اقتصاديًا كبيرًا، خاصة في الوقت الراهن.
إتاحة تحويلات المغتربين من خلال منظومة الدفع الوطنية “إنستا باي” تُعد من المحفزات المهمة التي وفرها البنك المركزي لتشجيع المغتربين على إرسال تحويلاتهم عبر القنوات الرسمية. إلا أن إتاحة استقبال المبلغ بالعملة المحلية قد يهدد نجاح هذا المحفز، رغم ارتفاع سعر الدولار محليًا في إطار سياسة البنك المركزي للتسعير العادل للعملة.
خلاصة القول، إن تحدي نقص الدولار ووجود أكثر من سعر له يقلل من ثقة المستثمرين في السوق المحلية، ويؤدي إلى زيادة أسعار المنتجات محليًا، وارتفاع معدلات التضخم، وخفض القدرة الشرائية. كما يتسبب في نقص التمويل، مما قد يهدد استمرارية مشروعات حيوية تهم المواطن في المقام الأول، ويؤدي إلى تقييد الائتمان، مما يؤثر سلبًا على الاستثمارات المحلية.
استدامة التدفق الدولاري تُعد أمرًا حيويًا لمصر في هذا التوقيت تحديدًا، خاصة مع كونها الدولة الأكثر أمانًا في وقت تعصف فيه التوترات الجيوسياسية بالدول المجاورة. وهذا يستدعي من الحكومة استغلال هذا الوضع، خصوصًا أن ما يهم المستثمر في المقام الأول هو الأمان في البلد الذي يستثمر فيه والاستقرار السياسي، وهما عاملان يتوفران في مصر.