في العصر الحديث، أصبحت التهديدات الجيوسياسية أكثر تعقيدًا مما كانت عليه في الماضي، حيث لم تعد القوة العسكرية التقليدية الوسيلة الوحيدة لتحقيق النفوذ والسيطرة. اليوم، تُعد روسيا مثالًا بارزًا لهذا التحول، حيث تعتمد على استراتيجيات الحرب الهجينة التي تمزج بين الأدوات التقليدية وغير التقليدية لتحقيق أهدافها. ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك، تجربة مولدوفا التي أصبحت ساحة اختبار لهذه الأساليب المتنوعة.
تعد الطاقة واحدة من أبرز الأدوات التي تُستخدم في الصراعات الجيوسياسية، حيث لا تقتصر أهميتها على تلبية الاحتياجات الاقتصادية فقط، بل تُستخدم أيضًا كوسيلة لتعزيز النفوذ السياسي. وفي سياق الحرب الروسية الأوكرانية، برزت أزمة الغاز في مولدوفا كدليل حي على هذا الاستخدام الاستراتيجي. فقد أوقفت روسيا إمدادات الغاز إلى مولدوفا في خطوة تهدف إلى زعزعة استقرار الحكومة الموالية للاتحاد الأوروبي؛ مما أدى إلى أزمة طاقة حادة هددت الاقتصاد واستقرار الحياة اليومية في البلاد.
ورغم التحديات الكبيرة التي تواجهها مولدوفا، فإنها تسعى، بدعم من شركائها الأوروبيين والإقليميين، إلى إيجاد بدائل للطاقة وتقليل اعتمادها على روسيا. هذه الأزمة لا تعكس فقط صراع النفوذ بين الشرق والغرب، بل تسلط الضوء أيضًا على التحولات السياسية والاقتصادية التي قد تلعب دورًا محوريًا في تشكيل مستقبل هذه المنطقة.
مولدوفا والحرب الهجينة
يرى البعض، وخاصة في الغرب، أن تجربة مولدوفا تُظهر كيف يمكن لروسيا أن تستخدم استراتيجيات متعددة الأبعاد للتأثير في الدول المجاورة، مستغلة نقاط الضعف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتشير بعض التقارير إلى أنه في الفترة ما بين 2021 و2024، واجهت مولدوفا تدخلات روسية مكثفة خلال ثلاثة انتخابات رئيسية، أبرزها الانتخابات الرئاسية في أكتوبر 2024، التي شهدت استخدام أساليب متطورة مثل التضليل الإعلامي، الحملات الرقمية المنظمة، والتلاعب المجتمعي.
تضمنت هذه الحملات المزج بين الدعاية والحوافز المالية والتلاعب بالسرديات المجتمعية لاستغلال الانقسامات الداخلية. استخدمت روسيا أدوات مثل الروبوتات الإلكترونية، الحسابات المزيفة، وقنوات التواصل الاجتماعي لبث رسائلها. كما استهدفت المجتمعات الضعيفة بوعود مالية ودعوات للمشاركة في أحداث اجتماعية؛ مما عزز الشعور بالانتماء لدى الشرائح المهمشة، لكنه في الوقت ذاته زاد من التلاعب بها.
أدوات التأثير الهجين
يرى الغرب أن الكرملين استغل المنصات الرقمية كسلاح للتأثير، عبر دمج رواياته في الخطاب السياسي المحلي. وكانت رسائل التضليل فعالة لأنها اعتمدت على تحديات حقيقية داخل المجتمع، مثل عدم المساواة وتراجع ثقة الجمهور.
وتوضح دراسة أجراها مختبر أبحاث التحليل الجنائي الرقمي (DFRLab) كيف تمكنت روسيا من بناء شبكات متطورة للتأثير في مولدوفا، مستعينة بشخصيات محلية مثل إيلان شور، الذي أنشأ شبكة واسعة النطاق مدعومة من الكرملين. استخدمت هذه الشبكة تطبيقات مثل تيليجرام لتنظيم عمليات شراء الأصوات ونشر الدعاية.
قطع الغاز سلاح روسيا لزعزعة الاستقرار
قررت روسيا وقف إمدادات الغاز إلى مولدوفا في خطوة استراتيجية تهدف إلى تقويض الحكومة الموالية لأوروبا في كيشيناو. جاء هذا القرار بعد انتهاء اتفاقية عبور الغاز بين أوكرانيا وروسيا في الأول من يناير 2025، وفشل المفاوضات للتوصل إلى ترتيب بديل يشمل شركة النفط الحكومية الأذربيجانية “سوكار”.
ورفضت شركة “غازبروم” الروسية استخدام طرق بديلة لتزويد مولدوفا بالغاز، مبررة ذلك بوجود ديون مستحقة على مولدوفا تُقدرها الشركة بـ 709 ملايين دولار. ومع ذلك، تعترض الحكومة المولدوفية على هذا الرقم، مؤكدة أن ديونها الفعلية لا تتجاوز 8.6 ملايين دولار، بينما ترى أن بقية المبلغ يُعتبر مسئولية منطقة ترانسنيستريا الانفصالية الموالية لروسيا، والتي تعتمد بشكل كبير على الدعم الروسي.
تداعيات أزمة الطاقة على مولدوفا وترانسنيستريا
تسببت أزمة الطاقة في حرمان آلاف المنازل في مولدوفا من الغاز والماء الساخن، مع فرض إجراءات تقنين صارمة للغاز والكهرباء في كل من مولدوفا ومنطقة ترانسنيستريا. وعلى الرغم من تجنب انقطاعات واسعة في التيار الكهربائي حتى الآن، يبقى الوضع هشًا للغاية.
تعمل محطة “كوتشورغان”، وهي أكبر محطة لتوليد الكهرباء في مولدوفا وتقع في ترانسنيستريا، باستخدام الفحم وزيت الوقود بعد توقف إمدادات الغاز الروسي. ووفقًا للسلطات الانفصالية، فإن احتياطيات الوقود تكفي لتشغيل المحطة لمدة 50 يومًا فقط.
من جانبها، أعلنت الحكومة المولدوفية أن إجراءات تقنين الكهرباء نجحت في خفض استهلاك الطاقة بنسبة الثلث على الأقل. كما أوضحت خطتها لتلبية 38% من الطلب على الكهرباء عبر الإنتاج المحلي، بينما ستعتمد على استيراد 62% من الكهرباء من رومانيا وأوكرانيا.
أهداف وتخوفات روسية
تسعى روسيا من خلال قطع إمدادات الغاز إلى تعزيز موقف القوى الموالية لها في الانتخابات البرلمانية المقبلة، عبر تأجيج حالة السخط الشعبي ضد الحكومة الموالية لأوروبا. ومع ذلك، قد لا تحقق هذه الخطة النتائج المرجوة.
خلال السنوات الماضية، امتنعت روسيا عن وقف إمدادات الغاز بشكل كامل إلى مولدوفا، خوفًا من زعزعة استقرار منطقة ترانسنيستريا الموالية لها. لكن، بعد انتهاء اتفاقية عبور الغاز عبر أوكرانيا، وفّر لروسيا مبررًا لوقف الإمدادات، رغم أن شركة “غازبروم” كان بإمكانها استخدام طرق بديلة لتزويد مولدوفا بالغاز.
تداعيات إنسانية وأخطار سياسية
يُحتمل أن يؤدي نقص الطاقة خلال الشتاء وارتفاع الأسعار إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، خاصة إذا وجدت الأسر نفسها دون تدفئة في ظل درجات حرارة متجمدة. وقد تترتب على ذلك أزمة هجرة واسعة النطاق، حيث قد تضطر الأسر إلى الفرار من ترانسنيستريا ومناطق أخرى في مولدوفا بسبب تدهور الظروف المعيشية.
يرى الغرب أن روسيا تعوّل على استغلال هذه الاضطرابات لتوظيف آلتها الدعائية وحملات التضليل للتأثير في الانتخابات المقبلة. وتسعى من خلال ذلك إلى تأجيج مشاعر السخط الشعبي ضد الرئيسة المولدوفية الموالية لأوروبا، مايا ساندو التي تتولى رئاسة مولدوفا منذ نوفمبر 2020، وضد القوى السياسية الداعمة لمسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
مولدوفا والبحث عن بدائل للغاز الروسي
في المستقبل، قد تلجأ مولدوفا إلى استيراد المزيد من الغاز الطبيعي من موردين غير روسيين، مثل خط أنابيب “أونغيني-كيشيناو” من رومانيا، أو خط أنابيب “ترانس-بالكان” من بلغاريا، أو من دول أوروبا الوسطى عبر وصلات متعددة، أو من محطات إعادة التغذية في اليونان أو بولندا أو ليتوانيا. ومع ذلك، ستكون هذه البدائل أكثر تكلفة لمولدوفا، التي تعد أفقر دولة في أوروبا من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للفرد.
دعم دولي لمواجهة الأزمة
من المحتمل أن تقدم أوكرانيا ورومانيا والاتحاد الأوروبي دعمًا لمولدوفا لمساعدتها في تجاوز أزمة الطاقة؛ مما يسهم في تقليل خطر فوز برلمان موالٍ لروسيا. وفي 2 يناير 2025، بدأت أوكرانيا، التي تعاني من نقص في الكهرباء نتيجة للهجمات الروسية على بنيتها التحتية، في تصدير الكهرباء إلى مولدوفا، خاصة خلال الليل عندما يكون لديها فائض طفيف. ورغم الجدل الذي أثارته هذه الخطوة بين الأوكرانيين الذين يعانون من أزمات إنسانية بسبب الحرب، فإن كييف ترى أن دعم الحكومة الموالية لأوروبا في مولدوفا يستحق التكلفة إذا ساعد في منع القوى الموالية لروسيا من الوصول إلى السلطة.
أخطار الاستراتيجية الروسية
قد تؤدي التداعيات الاقتصادية والإنسانية لقطع الغاز إلى دفع المزيد من المولدوفيين وسكان ترانسنيستريا إلى التوجه ضد روسيا، معتقدين أن موسكو لا تهتم برفاهيتهم وتستغلهم لتحقيق أهدافها السياسية. وهذا قد يعزز الدعم للمرشحين الموالين للاتحاد الأوروبي في الانتخابات المقبلة. كما قد يزيد من قناعة القوى الموالية لأوروبا بضرورة إنهاء اعتماد مولدوفا على الغاز الروسي بشكل دائم، رغم التنافسية التجارية لهذا الغاز. وبالتالي، قد تأتي استراتيجية روسيا في استخدام الغاز كسلاح سياسي بنتائج عكسية؛ مما يضعف نفوذها في مولدوفا على المدى الطويل.
دروس الغرب المستفادة من مولدوفا
يمكن استخلاص العديد من الدروس من تجربة مولدوفا في مواجهة التهديدات الهجينة الروسية، مثل التوازن بين حرية التعبير ومكافحة التضليل. يجب العمل مع المنصات الرقمية لتحديد حملات التلاعب دون التضييق على حرية التعبير. كما يجب تعزيز التعاون الوطني والمحلي، حيث إن التعاون بين الحكومات والمجتمع المدني والمنصات الرقمية ضروري للاستجابة الفاعلة للتهديدات. علاوة على ذلك، يجب العمل على تقوية النظام الداخلي من خلال الإصلاح القضائي وبناء قدرات إنفاذ القانون، بالإضافة إلى دعم المجتمعات الضعيفة، التي تعد خطوات أساسية لتعزيز الصمود.
الخاتمة
ختامًا، تعكس أزمة الغاز في مولدوفا تحولًا في أساليب الصراع الجيوسياسي في العصر الحديث، حيث لم تعد القوة العسكرية هي الأداة الوحيدة للهيمنة والنفوذ. من خلال استخدام الطاقة كأداة ضغط، تسعى روسيا إلى إضعاف الحكومة الموالية لأوروبا في كيشيناو، ولكن هذه الاستراتيجية قد تؤدي إلى نتائج غير متوقعة. عبر التضييق على مولدوفا، قد يتزايد السخط الشعبي ضد روسيا ويعزز الاتجاهات الموالية للاتحاد الأوروبي؛ مما يعزز فرص تحقيق استقلال الطاقة والسياسة في المستقبل. ورغم التحديات الاقتصادية والإنسانية التي تواجهها، فإن الدعم الدولي من جيرانها الأوروبيين قد يفتح أمام مولدوفا فرصًا جديدة للتنمية والاستقرار، ويعزز موقفها في مواجهة التهديدات الروسية. تبقى روسيا، بتكتيكاتها الهجينة، تهديدًا رئيسيًا لأوروبا، ومع استمرار الصراع في أوكرانيا، ستظل الدروس المستخلصة من مولدوفا ذات أهمية كبيرة في تعزيز الأمن الجيوسياسي للدول الأوروبية.
المصادر
- مقال منشور بمعهد توني بلير للتغيير العالمي بعنوان “التهديد الهجين الذي تشكله روسيا: رؤى من مولدوفا” في 7 يناير 2025.
- مقال منشور بمركز ستراتفور تحت عنوان ” للحفاظ على سيطرتها على مولدوفا، تخاطر روسيا بقطع الغاز” في 3 يناير 2025.
- الأخبار المتداولة عن أزمة قطع الغاز الروسي.
- برنامج الذكاء الاصطناعي- تطبيق “ديب سيك”.
- تصميم الصورة المرافقة للمقال تم باستخدام برنامج الذكاء الاصطناعي- تطبيق “شات جي بي تي”.
ببرنامج السياسات العامة