أصدرت محكمة العدل الدولية 5 مايو 2025، قرارها بخصوص الدعوى التي رفعها الجيش السوداني ضد الإمارات، بزعم انتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية فيما يتعلق بالهجمات التي شنتها مليشيات الدعم السريع والفصائل المتحالفة معها ضد جماعة المساليت العرقية في غرب دارفور.
وترجع إجراءات المحاكمة إلى مارس 2025 حيث قدمت دولة السودان طلبًا لأقامة دعوى ضد الإمارات العربية المتحدة بشأن الانتهاكات المزعومة من جانب الإمارات لإلتزامها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها وطلب السودان من المحكمة عدة طلبات منها:
– إعلان المحكمة أن السودان والإمارات ملتزمتان بجميع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي يكونون طرف فيها وخصوصًا اتفاقية الإبادة الجماعية.
– انتهاك الإمارات اتفاقية الإبادة الجماعية.
– انتهاك الإمارات المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين وتشجيع احترام حقوق الإنسان.
– أن الإمارات ملزمة بالتوقف والامتناع عن الأفعال التي تشكل انتهاكًا لميثاق الأمم المتحدة واتفاقية الإبادة الجماعية.
– توجيه تعليمات للأشخاص الذين يرتكبون إبادة جماعية بالتوقف الفوري بشكل دائم عن تلك الأفعال.
– تقديم الإمارات تعويضات كاملة عن الأضرار الناتجة عن أفعالها غير المشروعة دوليًا، وتعويض جمهورية السودان ومواطنيها عن جميع الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن دعم الإمارات لمليشيات قوات الدعم السريع.
– تقديم ضمانات وتعهدات بعدم تكرار الخروقات لتلك الالتزامات وتطبيق اختصاص المحكمة على أساس المادة (36) والمادة (9) من اتفاقية الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها 1948.
واختتمت دولة السودان طلباتها من المحكمة بإصدار تدابير مؤقتة.
وبتاريخ 10 إبريل 2025 انعقدت الجلسة الشفوية بمحكمة العدل الدولية.
وأكدت دولة الإمارات أنها ليست طرفًا في النزاع السوداني، مشيرة إلى أن تقرير مجلس الأمن الدولي بشأن السودان يدحض بشكل كامل المزاعم وشددت الإمارات على أن محكمة العدل الدولية لا تملك الاختصاص القضائي للنظر في هذه القضية واستندت دولة الإمارات إلى تحفظها على جزء من اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948؛ مما يحد من إمكانية تقدم الدعوى قانونيًا.
وطلبت دولة الإمارات من المحكمة رفض طلب الإشارة إلى التدابير المؤقتة المقدم من قبل جمهورية السودان، وإزالة القضية من القائمة العامة للمحكمة.
التحليل القانوني
صدر حكم محكمة العدل الدولية في النزاع القائم بين جمهورية السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة في لحظة إقليمية شديدة التعقيد تتداخل فيها الأبعاد القانونية مع واقع سياسي وأمني مضطرب، لا سيما في ظل ما يشهده السودان من صراعات داخلية يؤثر بصورة مباشرة في موقعه في المجتمع الدولي، ويكتسب هذا الحكم أهمية مزدوجة من جهة كونه يعكس موقفًا قضائيًا دوليًا في نزاع بين دولتين عربيتين في سياق إقليمي حساس، ومن جهة أخرى في ظل بيئة إقليمية تتسم بالتقلبات وإعادة تشكيل التحالفات الاستراتيجية.
ففي وقت تتجه فيه دول المنطقة إلى مراجعة أولوياتها الأمنية والاقتصادية جاء هذا الحكم ليضع العلاقات القانونية بين دولتين عربيتين تحت المجهر، وليفتح الباب أمام تساؤلات قانونية أعمق بشأن الالتزامات الدولية وحدود تسوية النزاعات بين أطراف ترتبط بعلاقات وثيقة، ولكنها تختلف في التقدير القانوني أو السياسي لبعض القضايا.
فمن حق جمهورية السودان التقدم لمحكمة العدل الدولية متى رأت أن في ذلك مصلحة لها، وكذلك من حق دولة الإمارات العربية المتحدة الدفاع عن نفسها ضد كل الطلبات التي قدمتها دولة السودان للمحكمة، فقد مارست دولة الإمارات حقها المشروع في الدفاع أمام المحكمة، مستندةً إلى ما تراه من معطيات قانونية وواقعية، وهو ما يُعزز من أهمية التمسك بالمؤسسات القضائية كإطار حضاري لحل الخلافات.
ولعل من أهم ما أُثير من دفوع تبلورت في الدفع بعدم اختصاص المحكمة نظرًا لتحفظ الإمارات على المادة (9) من اتفاقية الإبادة الجماعية عند تصديقها عليها وهي النقاط نفسها التي أُسس عليها حكم المحكمة، وكذلك إصدار المحكمة تدابير مؤقتة.
أولًا: الدفع بعدم اختصاص المحكمة نظرًا لتحفظ دولة الإمارات العربية على المادة (9) من اتفاقية الإبادة الجماعية 1948.
تضمنت المادة (36) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية أنه في حالة قيام نزاع في شأن ولاية المحكمة تفصل المحكمة في هذا النزاع بقرار منها وتضمنت المادة (53) أن على المحكمة أن تثبت أن لها ولاية القضاء وفقُا للمادة (36) وأن الطلبات تقوم على صحيح الواقع والقانون قبل تطرقها لموضوع النزاع نفسه.
والأصل أن تتولى المحكمة بحث ولايتها واختصاصها بنظر النزاع المعروض عليها
قبل نظر الموضوع وهو ما أكدته محكمة العدل الدولية دائمًا على اعتبار أن مخالفة هذه القاعدة يضر بحسن إدارة العدالة الدولية.
وترتيبا على ذلك جاء دفع الإمارات العربية المتحدة بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى على اعتبار أن جمهورية السودان أقامت دعواها استنادًا إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، كذلك أكدت دولة الإمارات أنها ليست طرفًا في النزاع السوداني، مشيرة إلى أن تقرير مجلس الأمن الدولي بشأن السودان يدحض بشكل كامل المزاعم.
وهو دفع إجرائي حيث لا تنظر المحكمة في الموضوع إلا بعد بحث الدفوع الشكلية وفي حالة قبول تلك الدفوع لا تطرق المحكمة للموضوع.
حيث أقرت الاتفاقية أن الإبادة الجماعية هي جريمة دولية بمقتضى القانون الدولي وتكون الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية وتعني الإبادة الجماعية أيًا من الأفعال التالية:
– قتل أعضاء من الجماعة.
– إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء الجماعة.
– إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا.
وتضمنت المادة (8) من الاتفاقية أن لأي من الأطراف المتعاقدة أن يطلب إلى أجهزة الأمم المتحدة المختصة أن تتخذ طبقًا لميثاق الأمم المتحدة ما تراه مناسبًا من التدابير لمنع وقمع أفعال الإبادة الجماعية.
وكذلك تضمنت المادة (9) أن تعرض على محكمة العدل الدولية بناء على طلب أحد الأطراف المتنازعة النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسئولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة.
والجدير بالذكر أن صدقت جمهورية السودان على الاتفاقية في 13/10/2003 وصدقت دولة الإمارات العربية المتحدة 11/11/2005، إلا أنها تحفظت عند التصديق والانضمام للاتفاقية على المادة (9) بشأن ولاية محكمة العدل الدولية ولم تعترض أي دولة عضو في الاتفاقية على تحفظ الإمارات بما فيها جمهورية السودان.
حيث أشارت المحكمة إلى أن دولة الإمارات، عند انضمامها إلى اتفاقية منع الإبادة الجماعية، أبدت تحفظًا على المادة (9) منها، وهو تحفظ يسعى إلى استبعاد اختصاص المحكمة. والتحفظ من حيث المضمون لا يعني أكثر من تعديل كم الالتزامات بين أطراف المعاهدة فقط بحيث لا يتناول تغير المعاهدة ذاتها وأكدت محكمة العدل الدولية مبدأ راسخ بشأن التحفظ ومنها ما هو متعلق باتفاقية الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها وذلك عندما تحفظت كلا من روسيا وأوكرانيا وتشيكوسلوفاكيا على الاتفاقية؛ إذ قررت أن الدول لا يمكن أن تلتزم في علاقاتها الدولية بدون رضاها وبالنسبة لاتفاقية الإبادة لا يوجد ما يمنع من اعتبار الدولة المتحفظة طرفًا في الاتفاقية طالما لا يتعارض تحفظها مع موضوع الاتفاقية ولا يخالفها وهو ما أكدته أيضًا اتفاقية فينا للمعاهدات.
وبناءً على هذا التحفظ رأت المحكمة أن المادة (9) لا تُشكل أساسًا لاختصاصها في هذه القضية وبالتالي لا يمكنها أن تتخذ التدابير المؤقتة التي طلبها السودان وخلصت إلى أنها تفتقر إلى الاختصاص للنظر في طلب السودان بسبب هذا التحفظ وغياب أي أساس قانوني آخر للاختصاص.
ثانيًا: إصدار المحكمة تدابير مؤقتة:
أقرت المحكمة في حكمها أنه من الممكن أن تسير المحكمة إلى تدابير مؤقتة إذا كانت أسانيد مقدم الطلب قوية وتعد بمثابة أساس يمكن أن تؤسس عليه المحكمة ولايتها القضائية، ولا يلزمها أن تكون مختصة بالموضوع وجوهر القضية.
وهو ما أصدرته المحكمة في التدابير المؤقتة لقطاع غزة ضد إسرائيل.
وأكدت أن هناك فرقًا جوهريًا بين مسألة قبول الدول اختصاص المحكمة وتوافق أفعالها مع القانون الدولي، وسواء قبلت الدول اختصاص المحكمة بموجب المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية أم لا، فإنها ملزمة بالوفاء بالتزاماتها بموجب هذه الاتفاقية وتظل مسئولة عن الأفعال المنسوبة إليها والتي تتعارض مع التزاماتها الدولية، وأقرت من حيث المبدأ أنه لا تختص المحكمة بنظر القضية ويترتب على ذلك أنها لا يمكنها الإشارة إلى التدابير المؤقتة المطلوبة من السودان وهو ما ترتب عليه عدم وجود الحاجة إلى نظر باقي الطلبات.
واختتمت المحكمة حكمها برفض طلب الإشارة إلى التدابير المؤقتة الذي تقدمت به جمهورية السودان بواقع أصوات (14 مؤيدًا)، (2 معارض) وأنها لن تتمكن من الحكم في القضية من حيث الموضوع؛ مما يعني عدم إبقائها في القائمة العامة للمحكمة؛ أي عدم الحكم فيها وعدم الاختصاص بواقع أصوات (9 مؤيدين)، (7 معارضين).
وهو ما يبين أن هناك اتجاهًا لدى قضاة المحكمة لا ينظر لأي نزاع بصفة خاصة وإنما نظره بصفة عامة مجردة أنه من حق أي دولة عرض نزاع أمام المحكمة وعدم رفعه من القائمة العامة للمحكمة؛ مما يعني قابلية نظره مرة أخرى وهذا الاتجاه يمثل جوهر العدالة عمومًا لإعطاء كل طرف في أي نزاع يطرح أمام المحكمة في الدفاع بكافة الأسانيد القانونية وتعديلها حسب الحاجة لذلك.
وختامًا، يمثل الحكم الصادر في النزاع بين دولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية السودان تجسيدًا واضحًا لأهمية الالتزام بالقواعد القانونية الدولية في معالجة الخلافات بين الدول،
بعيدًا عن منطق القوة أو الضغوط السياسية، فقد أعادت المحكمة التأكيد على مرجعية القانون، وضرورة احترام الإجراءات القضائية كوسيلة عادلة وفاعلة لحسم النزاعات وفق القانون والعدل، ويُعد هذا الحكم خطوة إيجابية نحو ترسيخ ثقافة الاحتكام للشرعية الدولية بما يعزز من ثقة المجتمع الدولي في المؤسسات القضائية، ويُكرّس مبدأ سيادة القانون في العلاقات بين الدول.
دكتور القانون الدولي العام