على مدى العقود الثلاث الماضية، ومع ارتفاع النمو السكاني بالصين، وزيادة معدلات الدخل الناتجة من النمو الاقتصادي المرتفع، تدفقت جموع السكان إلى المدن بحثًا عن فرص استثمارية، وقد كان القطاع العقاري أحد القطاعات التي على استعداد كاف لاستقبال كل تلك الأموال، وقد ساهم ذلك في خلق الملايين من الوظائف، وحفظ الملايين من مدخرات الأسر، للدرجة التي أصبح فيها ذلك القطاع يمثل أكثر من ربع النشاط الاقتصادي، وقد شهد القطاع العقاري بالصين طفرة بناء كبيرة مدفوعة باقتراض محفوف بالمخاطر، ومجازفة كبيرة في تقييم أصول القطاع، لم تكن تلك المشكلة في الأفق عندما كانت الصين تحقق معدلات نمو اقتصادي متسارعة، حيث تم التجاوز عن نسب اقتراض المطورين المتزايدة، ونسب الديون التي أثقلت كاهل ميزانيات تلك الشركات، والاقتراض الإضافي الذي تم لغرض تسديد الديون، وأعبائها، أو إعادة جدولتها.
الكورونا الكاشفة
كانت جائحة الكورونا بمثابة اختبار حقيقي لتلك الفقاعة العقارية، حيث انغلقت الصين على نفسها، وتباطأ النمو الاقتصادي، وانخفضت مدخرات الأسر الصينية، وعليه فقد انخفض الاستهلاك بالصيـن، ربما يفسر البعض الانخفاض في الاستهلاك، ويربطه بالانخفاض في تقييمات القطاع العقاري، والنشاطات المرتبطة به، والتي انخفضت بشدة، مثل : البناء، وتنسيق الحدائق، والطلاء، وبدأت تختفي، ومع وجود حالة من عدم اليقين بشأن انتشار الأزمة، أضحت الشركات، وخاصّة الشركات الصغيرة التي تخشى الإنفاق في الوقت الحالي حتى وضوح الأفق.
تمتد الأزمة العقارية بالبلاد لتشمل القطاع الحكومي، وخاصّة المحليات، والتي تعتمد في إيراداتها على مبيعات الأراضي للمطورين العقاريين، والتي كانت تمثل مصدر إيراد أساسي لتمويل البرامج الخاصة بالبلدية، ومع انخفاض ذلك الإيراد اضطرت البلديات المحلية بالصين إلى إعادة النظر في برامجها المحلية، فعلى سبيل المثال خفضت بلدية مدينة “وهان” الصينية التأمين الطبي الذي تقدمه الحكومة لكبار السن بسبب التراجع في قطاع العقارات، الذي أضر بمبيعات البلدية للأراضي، وأثّر على مصدر الدخل للبلدية، الأمر الذي دفع المتقاعدين للاحتجاج أمام مبنى البلدية على تلك السياسات.
اليوم تواجه المؤسسات المالية المعروفة باسم شركات الائتمان، أو بنوك الاستثمار، والتي تقوم بجمع أموال المودعين نيابة عن الأفراد الأثرياء والشركات، أزمة كبيرة، إذ تقدم تلك الشركات حلولًا استثمارية في شكل صناديق استثمار، تقدم عوائد، أو ما يمكن تسميتها “Shadow Banking System”، حيث يقدم ذلك النظام الاستثماري عوائد على الودائع أعلى من القطاع المصرفي، وغالبًا ما تستثمر تلك الشركات أموال المودعين بالقطاع العقاري، فعلى سبيل المثال حذر شركتان صينيتان عاملتان في مجال التأمين من أنهم استثمروا أموالًا بشركة” Zhongrong International Trust “التي تدير أصولًا بحوالي 85 مليار دولار، وتستثمر معظمها بالقطاع العقاري، وقد فشلت شركة “Zhongrong ” في سداد العوائد المستحقة لشركات التأمين على الأموال المستثمرة، ذلك الأمر شكل حالة من الغضب لدى المستثمرين، ودفعهم للتجمهر أمام مكتب شركة” Zhongrong “في بكين، مطالبين تلك الشركة بسداد الأموال المستحقة، وأسباب ذلك التأخر، واتهم المستثمرون الحكومة، والهيئات التنظيمية، والمطورين الذين سمحوا للمطورين العقاريين بالتوسع في الاقتراض بشكل كبير، لتمويل استراتيجية النمو الصينية، بأي ثمن لعقود من الزمان، قبل أن يدركوا حجم ذلك الخطر، وتدخلوا للمرة الأولى في عام 2020 لمنع حدوث فقاعة بقطاع الإسكان، وأوقفوا تمويل تلك الشركات، خاصّة أحد أكبر القطاعات العقارية بالصين ،الأمر الذي تركها تعاني من نقص في السيولة.
مسلسل الانهيار
كان لتلك السياسات الحكومية أثر كبير خلال السنوات الثلاث الماضية حيث بدأت الشركات العقارية الصينية الانهيار واحدة تلو الأخرى، بعد التخلف عن سداد فواتير ديونها، وقد وصل عدد الشركات المتخلفة في الوقت الحالي إلى 50 شركة من شركات التطوير العقاري الصينية، التي تعثرت في سداد أقساط لديونها، خلال السنوات الثلاث الماضية، تعد شركة “China Evergrande” واحدة من أكبر الشركات الصينية، التي تخلفت عن سداد ديون بقيمة 300 مليون دولار في عام 2021، وقد سبق لتلك الشركة أن اقترضت من أجل بناء مليون شقة سكنية، نجحت الشركة في تسليم 300 ألف شقة منها، لكنها لم تستكمل بناء 700 ألف شقة المتبقية، وفي ظل حالة نضوب السيولة فقد دفع ذلك الشركة إلى التقدم بطلب للحماية من الإفلاس في الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل ما يعانيه السوق العقاري الصيني من تباطؤ الطلب المحلي على العقارات، ومن ثَمَّ توقفت أسعار العقارات الصينية عن الزيادة. شركة “كأنتري جاردن” هي نموذج آخر لتعثر الشركات العقارية الصينية، حيث سبق أن قدمت الحكومة الصينية تلك الشركة كإحدى الشركات الرائدة في قطاع التطوير العقاري الصيني، لكن تلك الشركة حققت خسائر تفوق 7 مليارات دولار في النصف الأولى من العام 2023، وتواجه التحدي الأكبر في تاريخها الممتد لأكثر من ثلاثة عقود، وهو الأمر الذي دفع شركة التقييم الائتماني العالمية “ستاندرد أند بورز” لوصف النموذج الصيني لتحقيق النمو في القطاع العقاري “الاقتراض لغرض البناء”، هو نموذج لا يصلح إلا إذا استمرت أسعار العقارات في الارتفاع بشكل مستمر، وهو أمر شبه مستحيل في قواعد الاقتصاد.
تباطؤ الحكومة
مع تفاقم تلك الأزمة، ينظر لتدخلات الحكومة الصينية أنها غير جادة، ولا تتناسب مع الأوضاع الحالية لوضع الشركات العقارية بالبلاد، حيث لم تستجب الحكومة لدعوات الشركات العقارية بإتاحة حزمة إنقاذ سريعة وكبيرة لتلك الشركات، التي تعاني من نقص في السيولة، والتي تعتبر بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، وبدلًا من ذلك قدمت الحكومة تدخلات متواضعة تتمثل في تخفيف متطلبات الرهن العقاري، وخفض أسعار الفائدة ،ولا يبدو في الأفق الحالي أنه سيكون للحكومة بصمة كبيرة في علاج تلك الأزمة، إذ ترغب الحكومة الصينية في معاقبة الشركات الصينية، ومحاولة وضع حد لتلك الممارسات الخاطئة، وعدم السماح بالاستمرار في تلك السياسات حتى لا تستسهل الشركات الصينية اتباع سياسات، تذهب إلى أنه في أسوأ الظروف لن تترك الحكومة تلك الشركات في فخ التعثر والإفلاس.
لكن من جانب آخر، كانت تلك التطورات في الأحداث سببًا في انخفاض مبيعات الشركات لأكبر 100 شركة تعمل في مجال التطوير العقاري بالصين، حيث بلغت نسبة الانخفاض 33 % في حال مقارنتها بالعام السابق، وانتقلت تلك الأزمة لمناطق أخرى بالصين، مثل هونج كونج، والتي شهدت هبوطًا كبيرًا لأسهم الشركات العقارية المقيدة بها، بنسبة انخفاض بلغت 21 % منذ بداية العام، وتخارج مستثمرين بحوالي 7.5 مليارات دولار من استثماراتهم بأسهم الشركات العقارية الصينية، ذلك الانخفاض يشكل حالة من القلق، خاصّة وأنّ صانعي السياسات لا يتدخلون بالسرعة الكافية لتقديم المساندة لتلك الشركات العقارية.