تعددت المسارات التي سلكتها الدولة للتعامل مع الأزمة العالمية وتخفيف حدتها؛ فجاءت إجراءات السياسة النقدية تهدف إلى كبح جماح موجات التضخم وتحاول الحفاظ على قيمة العملة المحلية، وجاءت إجراءات تيسير الحصول على قرض صندوق البنك الدولي لتوفير النقد الأجنبي، كما عملت الدولة على توفير وإتاحة السلع الاستراتيجية بالأسوق ومواجهة مشكلات الإفراج الجمركي للسلع بالموانئ، فضلًا عن حزم الحماية الاجتماعية لتخفيف الضغوطات المادية على المواطنين خاصة الطبقات الفقيرة.
وقد استحوذ هدف جذب الاستثمار على جانب كبير من اهتمام الدولة خلال المرحلة الراهنة، فتم الإعلان عن منح الرخصة الذهبية لبعض المشروعات، ثم تم الإعلان عن منحها لكافة المشروعات لمدة 3 أشهر، وتم تنظيم العمل بين القطاع الخاص والدولة في نطاق وثيقة ملكية الدولة لمنع أثر المزاحمة وإتاحة فرصة أكبر للقطاع الخاص، فضلًا عن الإعلان عن مبادرة دعم القطاعات الإنتاجية من خلال إتاحة قروض بأسعار فائدة ميسرة. وعلى الرغم من أهمية تلك الإجراءات التحفيزية لتنشيط جانب العرض وإتاحة السلع بالأسواق، والحد من ارتفاع المستوى العام للأسعار، فإن فاعلية تلك الإجراءات تتسم بعدم اليقين في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.
أهمية تحفيز الاستثمارات للخروج من الأزمة
تمثل الاستثمارات أهمية كبرى لدفع معدلات النمو الاقتصادي وتحقيق أهداف الاقتصاد الكلي، ولا سيما في أوقات الأزمات المدفوعة بصدمات جانب العرض. فمع اضطراب سلاسل الإمداد العالمية منذ عام 2021 في أعقاب جائحة كورونا، ثم حصار مواطن الإنتاج في أوكرانيا وفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، الأمر الذي هدد العرض العالمي من السلع الاستراتيجية، فضلًا عن اضطراب الظروف المناخية في بعض الدول بما هدد الإنتاج الزراعي العالمي. ومع تناقص المعروض من عدد كبير من السلع ارتفعت أسعارها بصورة مضاعفة، وانتقلت موجات التضخم العالمية لكافة الدولة من خلال عمليات الاستيراد فيما يعرف بالتضخم المستورد، وعليه فقد كان لزامًا على الدول البحث عن بدائل محلية لتعويض نقص الإمدادات المستوردة مرتفعة السعر، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال زيادة الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية المختلفة.
وعلى نقيض ذلك، فقد جاءت البنوك المركزية الرئيسية، وعلى رأسها البنك الفيدرالي الأمريكي، بسياسات نقدية تشددية لمواجهة موجات التضخم العالمية، وتبعها في ذلك معظم البنوك المركزية حول العالم؛ إلا أن تلك السياسات عملت على تقييد جانب الطلب وليس معالجة نقص المعروض، فضلًا عن تأثير تلك السياسة على تراجع قيم العملات المحلية بالدول النامية والاقتصادات الناشئة مقابل الدولار الأمريكي، وأصبحت الاستثمارات المباشرة مرتفعة التكلفة، وتراجعت معدلات النمو والتشغيل مع محدودية التأثير على معدلات التضخم، فزادت الضغوطات المحلية بصورة مضاعفة.
ومن جهة أخرى، فان الحفاظ على الأسعار المحلية وتعزيز قيمة العملة المحلية يأتي من خلال زيادة الإنتاج المحلي ورفع قيمة الصادرات، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تحفيز وجذب الاستثمارات، خاصة في القطاعات الإنتاجية التي تواجه انخفاض العرض عن الطلب بالسوق المحلية، وتلك القطاعات التي توجه نحو التصدير، أو القطاعات التي تولد عملة أجنبية مثل السياحة.
إجراءات الدولة لتعزيز الاستثمارات الخاصة
أدركت الدولة المصرية أهمية تحفيز وجذب الاستثمارات المباشرة لمواجهة تداعيات الأزمة الحالية، فقامت باتخاذ عدد كبير من الإجراءات والقرارات من بينها تخفيض الحد الأدنى لرؤوس أموال الشركات، وتفعيل نظام الرخصة الذهبية والتي تضمن تسريع وتسهيل البدء في الاستثمارات الخاصة من خلال الحصول على رخصة واحدة فقط لإقامة المشروعات وتشغيلها وإدارتها. كما تمت إعادة تشكيل المجلس الأعلى للاستثمار برئاسة رئيس الجمهورية في نوفمبر من العام الماضي، وذلك بعد انقطاع اجتماع المجلس الأعلى للاستثمار بتشكيله القديم منذ يناير 2017. واستحداث وثيقة ملكية الدولة التي تحدد دور الدولة في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، سواء من خلال الاستمرار في بعض القطاعات الاستراتيجية وغير الجاذبة للقطاع الخاص، أو التخارج من بعض القطاعات الإنتاجية لمنع التزاحم مع القطاع الخاص. وكذلك تم إطلاق مبادرة إصلاح مناخ الأعمال “إرادة” والتي تستهدف إصلاح الإطار التشريعي والتنظيمي لضمان تحفيز الأعمال التجارية. كما عملت الدولة منذ عام 2016 على إعادة تأهيل البنية التحتية وإنشاء شبكة من الطرق والكباري لربط المدن الجديدة بكافة أنحاء الدولة من خلال عدد من المحاور الرئيسية الكبرى. وكذلك تم طرح عدد من الشركات المملوكة للدولة في البورصة وفقًا لبرنامج الطروحات الحكومية الذي تم العمل به منذ عام 2018، ثم توقف مع عدم مواتاة الظروف الاقتصادية ثم عاد مرة أخرى خلال الربع الأخير من عام 2021، ويُعد برنامج الطروحات الحكومية إحدى آليات تمكين القطاع الخاص وتعزيز دوره في العملية الإنتاجية والحياة الاقتصادية، وجذب استثمارات محلية وأجنبية في الاقتصاد المصري، وتوسيع قاعدة الملكية في الشركات المطروحة وإتاحة سيولة بالأسواق. وكذلك إطلاق مبادرة ابدأ والتي تهدف الى تشجيع القطاع الخاص للنهوض بالصناعة الوطنية من خلال ضخ استثمارات جديدة ومساعدة أصحاب المصانع المتعثرة.
فاعلية جهود جذب الاستثمارات في ظل الأزمة الراهنة
على الرغم من أهمية جذب وتحفيز الاستثمارات الخاصة لمواجهة الأزمة الاقتصادية وتخفيف تبعاتها المضاعفة على الاقتصاد المحلي، وعلى الرغم أيضًا من تعدد جهود الدولة لدفع وتعزيز الاستثمارات الخاصة؛ إلا أنه في ظل التحديات الاقتصادية والاضطرابات الجيوسياسية فإن المناخ العام للاستثمار غير محفّز لضخ رؤوس الأموال الخاصة في استثمارات جيدة، ومن ثمّ فلم تعد الإجراءات والحلول التقليدية وحدها كافية لخلق حافز لدى القطاع الخاص للمخاطرة بأمواله دون ضمان عائد صافي للمشروع يتضمن علاوة مخاطر محفزة. ومع وضع وثيقة ملكية الدولة في صورتها النهائية بعد طرحها للنقاش المجتمعي من قبل الخبراء في المجالات ذات الصلة، والتي تتضمن تخارج الدولة من عدد من القطاعات، إلا أنه قد يكون من الأفضل، على الأقل خلال العام الحالي، التركيز على تنويع فرص الشراكة بين القطاعين العام والخاص دون التخارج التام للدولة من بعض القطاعات بما يبعث برسالة طمأنينة للمستثمر ويضمن تحقيق مستويات أرباح أعلى ويعزز من كفاءة تشغيل الأصول. وفي سبيل تنشيط المشروعات الصغيرة والمتوسطة يقترح أن تتولى إحدى الجهات الحكومية ذات الصلة شراء منتجات الشركات الصغيرة والمتوسطة والتسويق لها، بما يحفز صغار المستثمرين على الدخول في النشاط الاقتصادي بعد ضمان فرصة تصريف المنتجات، فضلًا عن أهمية ذلك في ضم وحدات القطاع غير الرسمي للاقتصاد الرسمي. وفي محاولة لجذب الاستثمارات فهناك ضرورة لتحديث الخريطة الاستثمارية والخريطة الصناعية بإضافة فرص استثمارية حقيقية متنوعة وجاذبة للمستثمرة ومعد لها دراسات جدوى مسبقًا من قبل الخبراء بالهيئة العامة للاستثمار وتقدم بالمجان للمستثمر بما يخفض من تكاليف ما قبل التأسيس. كما يقترح أيضًا تخفيض، بل وإلغاء، عدد كبير من الرسوم التي يتحملها المستثمر قبل البدء في مشروعه الخاص، والتي تمثل عبئًا قد يدفع المستثمر للتوجه لدولة أخرى تسهل إجراءات بدء ممارسة الأعمال. وبجانب جهود تحفيز الاستثمارات، فهناك أهمية كبرى لتفعيل إجراءات الرقابة على الأسواق، ومنع الممارسات الاحتكارية التي تُعد أحد معوقات دخول الاستثمارات الخاصة لبعض القطاعات الإنتاجية، مع ضرورة ضمان نزاهة العمل بالجهات الحكومية المختلفة لمنع الفساد ومواجهة البيروقراطية.
ولا شك في أن تحفيز الاستثمارات الخاصة من شأنه زيادة قدرة الدولة على مواجهة الأزمة الاقتصادية الراهنة من خلال زيادة الحصيلة الضريبية، وكذلك تخفيف العبء عن المواطنين من خلال إتاحة فرص عمل، بجانب أهمية الاستثمارات في تخفيض الأسعار المحلية من خلال زيادة العرض الكلي، وتدعيم قيمة العملة المحلية عن طريق تخفيض فاتورة الواردات ورفع قيمة الصادرات. وقد تدفع كافة تلك العوامل معدلات النمو الاقتصادي بما يحقق الأهداف النهائية للاقتصاد المحلي.