أصدر البنك المركزي المصري تقريره الدوري للسياسة النقدية عن الربع الثاني من عام 2025، في ظل التحديات الاقتصادية العالمية والمحلية خلال عام 2025 والتحولات المتسارعة، سواء على صعيد النمو أو التضخم أو تدفقات رءوس الأموال العالمية.
تحليل إطار السياسة النقدية في مصر في ضوء ما جاء بالتقرير
- الهدف الأساسي الذي يسعى له البنك المركزي هو التحكم في التضخم واستقرار الأسعار وليس فقط الخفض، ويبرز التقرير وجود توجه واضح للتحول إلى استهداف التضخم بشكل مرن منذ 2017؛ مما يعني استعداد السياسة لتكييف أدواتها مع الواقع بدلًا من التشدد الجامد.
- دور لجنة السياسة النقدية: الاجتماع 8 مرات سنويًا يوضح متابعة واستجابة مستمرة وسريعة للأوضاع. القرار الأخير كان في يوليو 2025 وقد أقرت لجنة السياسيات النقدية بالبنك المركزي الإبقاء على أسعار العائد دون تغيير تفضيلًا للاستقرار ومراقبة مؤشرات التحرك الاقتصادي حتى التأكد من استقرار الأوضاع الاقتصادية قبل اتخاذ خطوة جديدة من التيسير النقدي.
وبهذا المقال نلقي الضوء على بعض النقاط الحيوية للتقييم المتعمق والموضوعي للوضع الاقتصادي الحالي وتطورات السياسة النقدية والمؤشرات الاقتصادية، والأوضاع النقدية والمالية بشكل مفصل.
أولًا: الوضع الاقتصادي الحالي
تباطؤ النمو عالمي ومحاربة التضخم وتخفيض التوقعات
أظهر الربع الثاني من عام 2025 استمرارًا في تباطؤ النمو العالمي؛ مما دفع المؤسسات الدولية إلى خفض توقعاتها للنمو العالمي إلى نحو 2.4% مقابل 2.7% في الربع الأول. وهنا وجب التنويه إلى أن هذا التباطؤ ناتج عن عدة عوامل؛ ليس فقط التوترات الجيوسياسية (مثل حرب روسيا/أوكرانيا أو صراع غزة) بل أيضًا قيود السيولة وارتفاع أسعار الفائدة العالمية. وفي المقابل، فإن البنوك المركزية الكبرى اتبعت نهجًا حذرًا في التيسير، وذلك مع استقرار مؤقت في أسعار الفائدة، ترقبًا للتطورات.
تطورات الديناميكيات المحلية بين تباطؤ التضخم وتحسن خارجي رغم ضغوط الأسعار
- تراجع التضخم العام السنوي إلى 15.2% في الربع الثاني مقابل 16.5% في الربع الأول.
- انخفاض التضخم الأساسي إلى 11.6% مقابل 13.6% في الربع الأول.
ورغم ذلك، فإن التضخم الشهري في أبريل 2025 شهد قفزة محليًا بفعل:
- رفع أسعار الوقود والغاز.
- زيادة تكاليف النقل.
- تعديل أسعار المنتجات والسلع المدعومة.
- استمرار ضعف الاستثمارات العامة.
النمو الاقتصادي: القطاعات غير البترولية تقود
يتناول تقرير البنك المركزي بواقعية عودة النشاط الاقتصادي إلى مستواه ما قبل الصدمات وتباطؤ فجوة الناتج السلبية تدريجيًا؛ حيث تشير التقديرات الحالية للبنك المركزي إلى نمو الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 4.8% في الربع الثاني، مدعومًا بالآتي:
- الصناعات التحويلية غير البترولية.
- قطاع السياحة.
- تحسن صافي الصادرات.
- سوق العمل والأجور: تحسن معدل البطالة إلى 6.3% هو انعكاس إيجابي، لكنه أوضح تأكيدًا على أن الأجور الحقيقية لا تزال أقل من اتجاهها التاريخي رغم نموها. يشير ذلك إلى ضعف الضغوط التضخمية عبر الأجور، وأيضًا إلى أن التعافي في معدلات الأجور لا يزال هشًا.
إجمالا لما سبق، لا تزال فجوة الناتج السالبة قائمة لكنها تتقلص تدريجيًا، بمعنى أن الاقتصاد يعمل دون استغلال كامل لطاقته الإنتاجية؛ مما يحد من تضخم الطلب. وأن الاستثمارات العامة تشهد تراجعًا نسبيًا في حين ينمو الاستثمار الخاص، في سياق جهود إعادة الهيكلة والحث على إسهام القطاع الخاص.
القطاع الخارجي وميزان المدفوعات
أظهر التقرير تحسنًا ملحوظًا شهده الحساب الجاري الذي انخفض عجزه إلى 0.7% من الناتج المحلي في الربع الأول 2025، بدعم رئيسي من ارتفاع حاد في تحويلات المصريين العاملين بالخارج (+87%)، وزيادة إيرادات السياحة، وتراجع العجز في الميزان التجاري غير البترولي بفضل نمو الصادرات.
على الرغم من توسع العجز في الميزان البترولي نتيجة زيادة واردات الغاز الطبيعي لتغطية الطلب المحلي، فإن التحسن في الحساب الجاري ساعد على تخفيف الضغوط التضخمية ورفع صافي الاحتياطيات الأجنبية إلى 48.7 مليار دولار -مما يكفي لتغطية أكثر من 6 أشهر من الواردات.
في حين أن الحساب المالي أظهر عجزًا بسبب تسجيل زيادة في صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك التجارية، لكنه تعويض جزئي من تدفقات استثمار أجنبي مباشر واستثمارات محفظة مالية يشير إلى تحسن ثقة المستثمرين وسط تحديات بيئة التمويل العالمية.
السيولة والسياسة النقدية
في ناحية إيجابية أظهرت السيولة المحلية تباطؤًا في النمو لتسجل 24.8% في المتوسط، مع استقرار صافي الأصول الأجنبية للبنوك التجارية، جزء منها ناتج عن تحويل استثنائي في هيكلة التدفقات، وارتفاع تدريجي في الاحتياطيات النقدية الأجنبية؛ مما يبرز نجاح السياسة النقدية في احتواء التضخم النقدي، مع الأخذ في الاعتبار أن المعدل لا يزال مرتفعًا جدًا مقارنة بالمعايير الدولية في هذا الشأن؛ مما يدل على أن المخاطر التضخمية لم تنتهِ بعد.
انخفضت نسبة الدين العام للناتج المحلي من 95.7% في 2023 إلى نحو 85% في يونيو 2025، نتيجة لفاعلية إدارة الدين وتحسن الإيرادات، مع دعم من إصدارات الصكوك والسندات الدولية التي تساعد على خفض تكلفة التمويل إلى مستويات أقل؛ مما يعزز من قدرة السياسة النقدية على مكافحة التضخم دون تعريض الاستقرار المالي للخطر.
ثانيًا: النظرة المستقبلية للتقرير: تفاؤل مشروط بالحذر
التضخم المتوقع (فهم عام ومراقبة عن كثب)
وفقًا للتوقعات الواقعية من قبل البنك المركزي المصري يشير التقرير إلى استمرار التضخم في نطاق 15-16% لعام 2025 ثم الهبوط وصولًا إلى أهداف الـ 11-12% في عام 2026، مع الإشارة إلى مخاطر من اتجاهين؛ آثار خفض الدعم الجارية، ومن اتجاه آخر صدمات خارجية محتملة تعيد التضخم للصعود المؤقت. وهذه الإشارة تبين أن القائمين على إدارة السياسة النقدية مراقبين عن كثب الأوضاع العامة المؤثرة على أداء الاقتصاد المصري بشكل عام بشكل مترابط.
النمو المتوقع (نمو مشروط وتفاؤل حذر)
تشير التوقعات في التقرير إلى نمو في الناتج المحلي الإجمالي بـ 4.8% في 2025/2026 بناءً على النمو المتوقع للناتج المحلي الحقيقي بنسبة 4.3% في 2024/2025، و5.1% في 2026/2027. مدعومًا بانتعاش تدريجي للصناعات التحويلية المتضررة سابقًا وارتفاع إيرادات قناة السويس، مع ربط التعافي ببقاء الأوضاع العالمية هادئة وعدم حدوث صدمات مالية أو جيوسياسية.
ثالثًا: ماذا نرى لمعدلات التضخم وأسعار الفوائد البنكية
بناءً على ما جاء أعلاه في التقرير، وما هو على أرض الواقع من أحداث، فقد يحدث ارتفاع في معدلات التضخم قبل الاستقرار وختام العام الحالي، ونتوقع أن تُختتم معدلات التضخم في 2025 حول 14%، وذلك إذا تم السيطرة على الأسعار محليًا في حال مضي الحكومة بقرار زيادة أسعار المحروقات في الربع الأخير من 2025 كما هو معلن، بالإضافة إلى التعديل الإضافي في تسعير الأدوية.
وما يساعد على الوصول لتلك المعدلات المتوقعة أعلاه بعض العوامل الخارجية والداخلية معًا، منها استقرار أسعار النفط العالمية وداخليًا السيطرة على أسعار الغذاء محليًا وتخفيف ضغوط التضخم في السلع غير الغذائية والخدمات. وهو من جانب آخر ما قد يدفع لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي المصري للمضي قدمًا في طريق التيسير النقدي وإتاحة الفرص للنظر في معدلات الفائدة البنكية، مدعومًا باحتمالية خفض الفائدة في جميع البنوك المركزية حول العالم.
وأخيرًا، فإن تقرير السياسة النقدية للربع الثاني يظهر رؤية شاملة متزنة وموضوعية للتحديات والفرص التي تواجه الاقتصاد المصري، وتبين نجاحًا نسبيًا في الانتقال من مرحلة تشديد نقدي عنيف إلى تيسير حذر ومدروس، مع تأكيد على التزام البنك المركزي المصري بسياسة نقدية متوازنة تستهدف استقرار الأسعار وتمكين النمو المستدام ومراقبة عن كثب للمستجدات اجتماعًا بعد اجتماع مع استعداد لاستخدام كل أدواته عند الحاجة.
ويظهر التقرير تركيزًا عميقًا على التفاصيل الاقتصادية والمالية بالإضافة إلى ضبط السياسات المالية والنقدية لتوفير بيئة مستقرة جاذبة للاستثمار ومتجاوبة مع المتغيرات العالمية والمحلية.
فقد استعرض التطورات وأظهر التحديات دون إغفال النجاحات. فقد شخص مصادر القوة (التحسن في الحساب الجاري ونمو الاحتياطيات وتخفيض الدين) ومواطن الضعف (تباطؤ نمو الأجور الحقيقية، استمرار الضغوط التضخمية غير الغذائية، ضعف الاستثمارات العامة، المخاطر العالمية الدائمة).
وقد ربط التعافي ببقاء الأوضاع العالمية هادئة وعدم حدوث صدمات مالية أو جيوسياسية وتقلب في حجم السيولة واحتياج الحكومة المتكرر للاقتراض، ولم يغفل أن زيادة الأصول الأجنبية لدى البنوك التجارية جزء منها ناتج عن تحويل استثنائي في هيكلة التدفقات وليس جاذبية استثمارية دائمة. وقد أظهر التقرير بواقعية شديدة احتمالية انتقال آثار التضخم المستورد لمصر إذا حدثت تطورات سلبية عالميًا وإقليميًا.
فهذا التحول في السياسة النقدية، رغم كونه محدودًا نظرًا للظروف الاقتصادية المحيطة، فإنه جيد؛ حيث إنه يضع الأساس لاستقرار اقتصادي أوسع، خاصة إذا ترافق مع إصلاحات هيكلية في القطاع الحقيقي، وزيادة في تنافسية الإنتاج المحلي.









