استهدفت إسرائيل مقر عدد من قيادات المكتب السياسي لحركة حماس في الساعة 3:46 خلال انعقاد المفاوضات في الدوحة حول وقف إطلاق النار في غزة، وشارك في الهجوم الإسرائيلي نحو 15 طائرة، ووقعت عدة انفجارات في حي كتارا في 9 سبتمبر الجاري، وقد أعلنت إسرائيل أنها أبلغت الولايات المتحدة مسبقًا بالضربة، وأعلنت حماس نجاة قيادتها من هذا الهجوم، لكن قُتل ستة أشخاص من بينهم نجل القيادي في حماس “خليل الحية”، ومدير مكتب الحية، وأحد أفراد قوات الأمن الداخلي القطرية. الأمر الذي دفع إلى التساؤل حول دلالات استهداف مسئولي حماس في الدوحة؟
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” أن الهجوم كان عملية مستقلة، وأن إسرائيل بادرت به، ونفذته، وهي تتحمل مسئوليته الكاملة، وكانت تستهدف قادة حماس في قطر، بينما أكدت حماس مقتل بعض الأعضاء وليس قادتها منهم “همام الحية” نجل خليل الحية، “جهاد لباد” مدير مكتب الحية، وبعض المرافقين الأمنيين “عبدالله عبدالواحد”، مؤمن حسونة”، “أحمد المملوك”، بالإضافة إلى مقتل أحد أفراد قوى الأمن الداخلي في قطر الوكيل “عريف بدر سعد محمد الحميدي الدوسري”.
كانت إسرائيل تستهدف خلال هذه الضربة كلًا من “زاهر جبارين”، و”خليل الحية”، و”خالد مشعل”، وجاء هذا الهجوم ردًا على استهداف محطة حافلات في القدس، ومقتل ستة إسرائيليين، وإصابة آخرين في 8 سبتمبر الجاري. بحسب الرواية القطرية الرسمية، فإن الدوحة لم تتلقَّ إخطارًا من الولايات المتحدة، قبل وقوع الهجوم الإسرائيلي، وتلقت اتصالًا من أحد المسئولين الأمريكيين بعد عشر دقائق من وقوع الهجوم، بأن الولايات المتحدة تلقت للتو رسالة تفيد بوقوع الهجوم عند الساعة الثالثة وست وأربعين دقيقة عصرًا، بينما ورد أول اتصال من مسئول أمريكي عند الساعة الثالثة وست وخمسين دقيقة، أي بعد عشر دقائق من وقوعه.
وعقب الهجوم أوضح بيان البيت الأبيض أن هذا الهجوم غير خادم لا لأهداف إسرائيل أو الولايات المتحدة، وكونه فرصة للسلام، وعكس هذا البيان المنظور الأمريكي والإسرائيلي الهادف إلى إجبار حماس على التنازل في مسار المفاوضات أو القضاء عليها، لكن ربما يقود هذا الهجوم إلى التعنت في مسار المفاوضات، خاصة أن هذا الاعتداء الإسرائيلي يعزز من موقف حماس، في ظل الموقف الإقليمي والدولي الرافض لمثل هذا الهجوم.
أولًا- دلالات الضربة:
تعكس الضربة الإسرائيلية التي كانت تستهدف اغتيال مسئولي قادة حماس في قطر عدة دلالات كالتالي:
• انتهاك السيادة:
كشفت هذه الضربة الإسرائيلية، والضربة الإيرانية في 23 يونيو الماضي على قاعدة العديد الجوية، انتهاكًا لسيادة قطر وتحولها إلى ساحة للصراع بين الأطراف المختلفة، بالرغم من الدور القطري في استضافة المباحثات بين إسرائيل وحماس منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وفي الوساطة الممتدة لسنوات ما قبل الحرب، كما أن الدوحة تستضيف مقر المكتب السياسي لقادة حماس منذ العام 2012، وساهمت في تقديم المساعدات المالية والإنسانية لغزة، ولعبت دورًا في تحرير بعض الرهائن الإسرائيليين والتوصل إلى هدنة لوقف إطلاق النار في بداية الحرب، لكن يبدو من الهجوم على قيادات حماس في الدوحة أن إسرائيل غير راضية عن الدعم السياسي والمالي الذي تقدمه قطر لحماس، والدور الذي تقوم به قناة الجزيرة القطرية في الحرب على غزة.
وقد تجاوز الهجوم الإسرائيلي حدود العرف الدولي، ومثّل انتهاكًا للقانون الدولي وللسيادة القطرية. فكان أول هجوم إسرائيلي ضد سيادة قطر الشريك الهام للولايات المتحدة، والتي تصنف حليفًا رئيسيًا من خارج حلف الناتو منذ العام 2022، وتستضيف أكبر قاعدة جوية أمريكية في الشرق الأوسط، وتعد قاعدة العديد موطنا للمقر الأمامي للقيادة المركزية الأميركية، ومركز العمليات الجوية المشتركة CAOC، الذي يشرف على كل حركة جوية عبر الشرق الأوسط، من أفغانستان إلى البحر الأحمر، علاوة على علاقات الصداقة بين قطر والرئيس “دونالد ترامب”، وهو ما تبين خلال زيارته للدوحة في مايو2025، بتقديم هدية له طائرة بوينج 747.
• عدم موثوقية الولايات المتحدة:
بالرغم من إعلان الرئيس “ترامب” أن الهجوم الذي قامت به إسرائيل هو قرار فردي من قبل نتنياهو، لكن عكست مؤشرات الضربة الإسرائيلية منح الولايات المتحدة الضوء الأخضر لإسرائيل، بما يقوض من صورتها كشريك أمني للدول الخليجية، ودلالة على استمرار دعمها للجموح الإسرائيلي في المنطقة، وربما يكشف عن ازدواجية في الموقف الأمريكي ما بين محاولات إنهاء الحرب في غزة، وما بين منح إسرائيل حق التوغل في المنطقة.
وتُثير الضربة الإسرائيلية بالقرب من قاعدة العديد الجوية، دون قيام القاعدة بدورها في الردع وكشف التهديدات الجوية، وعدم الدفاع عن الدوحة من قبل الدفاعات الجوية الأمريكية أو إخطار قطر بهذا الهجوم، العديد من التساؤلات، ويدلل على عدم موثوقية الولايات المتحدة كشريك للأمن، وعلمها وموافقتها المسبقة بهذه الضربة، وتكشف بعض التقارير وفق موقع The Canary عن مشاركة بريطانيا في الضربة الإسرائيلية بعد رصد طائرة تزويد بالوقود تابعة لسلاح الجوي الملكي البريطاني، كانت تحلق في السماء أثناء القصف الإسرائيلي على الدوحة، وتبلغ المسافة من إسرائيل إلى الدوحة نحو 2200 كم، وهي المسافة ذاتها للطائرة F35 التي استخدمتها إسرائيل، بما يعني احتمالية تزويد هذه الطائرة بالوقود من قبل قاعدة العديد الجوية.

• تقويض التفاوض:
جاء هذا الهجوم بعد وصول المفاوضات إلى المراحل الأخيرة، والتي دعمت فيها الولايات المتحدة ضرورة بحث مقترح ترامب بشأن إنهاء الحرب في غزة، وقد تضمن المقترح الأمريكي إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين بنحو 50 في اليوم الأول من هدنة مدتها 60 يومًا، وانسحابًا تدريجيًا للقوات الإسرائيلية من غزة، بما يمهد للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. لكن مثلت الضربة الإسرائيلية محاولة لتقويض فرص السلام في المنطقة، وتقويض عملية التفاوض إذ وجهت الضربة للوفد المفاوض لقيادة حماس، بينما كان يجتمع في الدوحة لمناقشة الرد على مقترح ترامب، بما دلل على رغبة إسرائيلية في إنهاء مسار التفاوض، ومحاولة للضغط على حماس للاستسلام إما للتنازل وقبول المقترح الأمريكي، أو القضاء على حماس، ومن ثم قد تعرقل هذه الضربة خطوات الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وعودة الأسرى.
وتحاول إسرائيل تعطيل مسار المفاوضات وجهود الوساطة، والاستمرار في تحركاتها التوسعية سواء بالسيطرة على غزة أو تهجير الفلسطينيين، واستكمال المخطط الإسرائيلي وتشتيت حماس في هذا الوقت، ولم يكن الهجوم مفاجئًا، فقد تم التلويح باستهداف قادة حماس في قطر وتركيا ولبنان بحسب تصريح رئيس الشاباك “رونين بار” في ديسمبر 2023. وفي فيديو لرئيس الكنيست “أمير أوحانا” قائلًا: “هذه رسالة إلى الشرق الأوسط بأكمله”، بما يعني أن أيَّ دولة عربية حليف أو غير حليف هي في مرمى النيران الإسرائيلية، كما أن الهجوم على الدوحة مؤشر على جموح إسرائيلي إقليمي دون الأخذ في الاعتبار الدولة كونها حليفًا أم لا، وربما تمدد الخطر الإسرائيلي إلى منطقة الخليج. وهو ما يعكسه تصريح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي “إيال زامير” بتعبيره: “نحن نعمل في جميع أنحاء الشرق الأوسط ولن يكون لحماس مكان تختبئ فيه”.
يفاقم هذا الهجوم من المخاوف الإقليمية من التدخلات الإسرائيلية في مختلف الدول، واستهداف الرؤى التنموية في المنطقة، لذلك يتم تنسيق موقفي عربي لمناقشة الهجوم الإسرائيلي على سيادة قطر وسبل الرد، وعقب الضربة تواصلت معظم الدول العربية مع الدولة القطرية، وطالب رئيس الوزراء القطري بضرورة وجود رد من قبل المنطقة بأكملها لمجابهة التصرفات الإسرائيلية، وعدم الاستناد إلى القانون الدولي الذي ضرب به نتنياهو عرض الحائط، ومخالفة المعايير الأخلاقية والإنسانية لا سيما أن قطر دولة وسيطة تستضيف المفاوضات رسميًا، وبحضور جميع الوفود سواء إسرائيل أو حماس.
ثانيًا- الموقف القطري:
وفق بيان الخارجية القطرية عقب الهجوم، فإن إسرائيل استخدمت أسلحة لم تتمكن الرادارات القطرية من كشفها، بما جعل الهجوم غادرًا ولم يكن هناك علم مسبق به، واتخذت الدوحة قرارًا بتعليق المفاوضات عقب الهجوم الإسرائيلي، وسبق وعلقت قطر جهودها للوساطة في نوفمبر 2024، نتيجة تعنت الأطراف.
وبحسب كلمة رئيس مجلس الوزراء “محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني”، فقد تمثل الموقف القطري في وصف الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف مقر قيادات المكتب السياسي لحركة حماس أثناء انعقاد المفاوضات في الدوحة بكونه هجومًا في سياق إرهاب الدولة، ومن ثم سيتم الرد على انتهاك سيادتها، وتشكيل فريق قانوني برئاسة “محمد بن عبد العزيز بن صالح الخليفي” وزير الدولة بوزارة الخارجية لاتخاذ كافة الإجراءات القانونية للرد على هذا الهجوم المارق.
وبحسب مقابلة لرئيس الوزراء القطري مع شبكة “سي إن إن” فإنه سيتم يتم عقد قمة عربية إسلامية في الدوحة خلال الأيام القادمة بهدف بحث الرد، مع عزم قطر على إعادة تقييم مشاركتها في أي محادثات مستقبلية لوقف إطلاق النار، واستمرارها في تشاورها مع الولايات المتحدة حول هذا الدور، لا سيما أن الرئيس ترامب حاول عبر الدبلوماسية في كلماته رفض مثل هذا الهجوم على دولة حليف للولايات المتحدة، في سبيل الحفاظ على علاقته مع حلفائه في الخليج، ولا يرغب ترامب في خسارة الدول الخليجية خلال السنوات القادمة من إدارته، وقال إن الهجوم قرار فردي اتخذه نتنياهو، وإن القضاء على حماس هدف يجب السعي وراءه. وقد تم توجيه المبعوث الخاص “ستيف ويتكوف” لإبلاغ قطر بالهجوم لكن جاء ذلك بعد وقوع الهجوم، وعد هذا الهجوم بكونه فرصة للسلام، وعدم تكرار هذا الهجوم مرة أخرى وذلك في حديثه مع أمير قطر “تميم بن حمد آل ثاني”، ورئيس الوزراء القطري “محمد بن عبد الرحمن” مشيرًا إلى تكليف وزير الخارجية الأمريكية “ماركو روبيو” باستكمال اتفاقية التعاون الدفاعي مع قطر.
ختامًا، من غير المرجح تخلي قطر عن دورها في الوساطة، بعد إعلان وزير الخارجية القطري مواصلة جهود الدوحة لإنهاء الاعتداءات على القطاع، وقد تم تعليق المفاوضات في ظل استمرار الهجوم الإسرائيلي، لكنّ الوساطةَ القطرية جزء أصيل من هوية السياسة القطرية.









