لم يكن بوسع الولايات المتحدة الأمريكية الابتعاد عن الصراع العربي-الإسرائيلي أو أفكار تسويته فيما بعد، وظلت المشكلة الأساسية في تعاملها مع ذلك الصراع أو تلك التسوية هي انطلاقها من مقاربة الملف برمته من وجهة النظر الإسرائيلية، والحفاظ على أمن تل أبيب ووجودها في المنطقة، حتى في اللحظات التي انتصرت فيها. فبعد عشرة أيام تقريبًا من حرب 1967، خرج الرئيس الأمريكي “ليندون جونسون” بخطابٍ ضمّنه رؤيته للسلام في الشرق الأوسط لم يذكر فيه بشأن فلسطين مباشرة إلا مسألة ضرورة حل مشكلة اللاجئين، والأهم أنه رفض تمامًا العودة إلى خطوط ما قبل تلك الحرب، ورفض حرمان إسرائيل من كل ما أحرزته في تلك الحرب.
دور الوسيط في عملية السلام
بصفةٍ عامةٍ ظلت السياسة الأمريكية في خانة الوسيط بين العرب وإسرائيل بما لا يضر بمصالح الأخيرة. وفي هذا السياق، قال “آرون ديفيد ميلر”، المفاوض في عملية السلام، إن “الولايات المتحدة قد لا تكون وسيطًا صادقًا، لكن بإمكانها أن تكون وسيطًا فعّالًا”. ومع ذلك كانت هناك بعض الاستثناءات ليس على قاعدة الانحياز لتل أبيب، ولكن على قاعدة الاكتفاء بدور الوسيط، حيث قام بعض الرؤساء الأمريكيين بطرح تصورات لكيفية التسوية، ودعوا الأطراف المعنية للنقاش أو التفاوض حولها، وجميعها لم يكتب لها النجاح على الأرض.
وفي رؤيته لدور الولايات المتحدة في الصراع العربي-الإسرائيلي، يقرر “جيرمي آر. هاموند” في كتابه “عقبة أمام السلام: دور الولايات المتحدة في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي” أن الرؤساء الأمريكيين في العقود الأخيرة سعوا بكل جهدهم إلى وضع عوائق أمام عملية إنهاء الصراع، والحكومة الأمريكية انضمت إلى إسرائيل في جهودها لنبذ كل أشكال الضغوط الدولية لتغيير واقع الاحتلال.
وفي بداية سبتمبر 1982 وعقب خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، طرح الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” الذي عُرف بعرّاب السلام في المنطقة، مشروعًا أو مبادرة أمريكية للسلام في الشرق الأوسط، لم تبتعد كثيرًا عن مشروع أو أفكار الرئيس “جونسون”، ولم تتجاوز القواعد الأمريكية المتعلقة بالانحياز إلى إسرائيل وضمان أمنها، فأكد في المبادرة أن تطلعات الشعب الفلسطيني مرتبطة بحق إسرائيل في مستقبل آمن، ولكنه مع تأكيده على أنه لا عودة لحدود 1967 قرر أن المسألة الفلسطينية أكبر من مسألة اللاجئين، ومن ثم اقترح إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة والقطاع مرتبط بالأردن، وطالب بتجميد المستوطنات، وأكد أن الصراع يجب أن تتم تسويته عن طريق التفاوض على قاعدة الأرض مقابل السلام، وأن وضع القدس يقرر بالتفاوض أيضًا. وبينما لم يهتم العرب بإبداء موقف من تلك المبادرة فإن تل أبيب رفضت تلك المبادرة.
ومع قدوم الرئيس “جورج بوش الأب”، استغل الموقف الدولي والإقليمي، ونجح في ممارسة دور الوسيط الفعال، فتمكن من عقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط حضره الفلسطينيون ضمن الوفد الأردني، تمخّض عنه في عام 1993 التوصل إلى اتفاق أوسلو الذي ظل المحور الأساسي لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، خاصة بعدما تم التوصل إلى اتفاقية سلام بين الأردن وإسرائيل في عام 1994.
وانحصر الدور الأمريكي في محاولة ضمان سير المفاوضات التي كثيرًا ما توقفت نتيجة السياسة الإسرائيلية التي اعتمدت منهج التفاوض من أجل التفاوض واستهلاك الوقت. ومن ثمّ لم يتم الالتزام بالمواعيد المقررة لإعلان الدولة الفلسطينية رغم أن الاتفاق نحّى التفاوض حول القضايا الشائكة أو قضايا الحل النهائي، الأمر الذي يؤكد خطأ المراهنة الأمريكية على أنه يُمكن التوصل إلى تسوية سلام معقولة من دون معالجة الاختلال الشاسع في القوى بين إسرائيل والفلسطينيين، وأنه يمكن إخضاع السياسة الفلسطينية الداخلية لمتطلبات عملية السلام بالمفهوم الأمريكي-الإسرائيلي.
أما الرئيس “بيل كلينتون” الذي بدأ ولايته برفض إقامة دولة فلسطينية، والتأكيد على الثوابت الأمريكية في الانحياز إلى إسرائيل، فإنه وإزاء اقتراب موعد الإعلان عن إقامة الدولة الفلسطينية في مايو 1999 طبقًا لاتفاق أوسلو، تغيرت مقاربته للصراع إلى حدٍّ ما. فزار الرئيس “كلينتون” غزة في ديسمبر 1998، وأعلن عن تأييده لتطلعات الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه، ثم أكّد التزامه بالمفاوضات طريقًا لتسوية الصراع، ودعا إلى وقف كل أعمال العنف، والتزام الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بعدم اتخاذ خطوات منفردة وذلك خلال مؤتمر شرم الشيخ في أكتوبر عام 2000.
وتتمثل الخطوة الأهم في عهد “كلينتون” في عقد مؤتمر كامب ديفيد في يوليو 2000، بحضور الرئيس الفلسطيني “ياسر عرفات” ورئيس الوزراء الإسرائيلي “إيهود باراك”. وبعد خمسة أشهر، طرح الرئيس الأمريكي على الجانبين ما عُرف بمشروع أو مقترحات كلينتون للسلام التي كانت قريبة جدًّا من تحقيق اتفاق بين الجانبين، خاصة وأنها عالجت الكثير من القضايا. فأقرّت بضرورة إقامة الدولة الفلسطينية بصرف النظر عن أن المقترحات قد أكدت على الأمن الإسرائيلي، وضرورة ألا يتأثر بإقامة تلك الدولة، ومن ثم كان الاقتراح أن تكون الدولة منزوعة السلاح، كما أدخلت مبدأ تبادل الأراضي، فالدولة الفلسطينية ستقام على 94 إلى 96% من أراضي الضفة وغزة. والغرض الأساسي من ذلك المبدأ كان إيجاد فرصة للتعامل مع المستوطنات من خلال تجميعها وحمايتها، فموقف “كلينتون” كان منحازًا تمامًا للرؤية الإسرائيلية بشأن المستوطنات، واستخدم كأسلافه الفيتو للحيلولة دون صدور قرارات من مجلس الأمن تدين الاستيطان، وكذلك فيما يتعلق باعتباره القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.
أما الرئيس “جورج بوش الابن” فقد تبنى موقفًا يؤكد على إقامة الدولة الفلسطينية مع احترام وجود إسرائيل وأمنها، وطرح رؤيته للسلام في المنطقة في يونيو 2002 التي أكّد خلالها على مبدأ حل الدولتين. ولعل أهم ما في تلك الرؤية أنها ترجمت أو أدت بعد فترة قصيرة إلى صياغة ما عُرف باسم “خارطة الطريق” التي ينتهي التفاوض خلالها في غضون ثلاث سنوات أي في عام 2005 بإقامة الدولة الفلسطينية. ومع تعثّر خارطة الطريق نتيجة الموقف الفلسطيني، وملاحظات الطرف الإسرائيلي الأربع عشرة عليها، دعت الولايات المتحدة لعقد مؤتمر أنابوليس في نوفمبر 2007 لإحياء التفاوض في مسار خارطة الطريق.
ومع مجيء الرئيس “باراك أوباما” ساد التفاؤل مرة أخرى بشأن مسار السلام، خاصة وأن “أوباما” أبدى حماسًا لافتًا للتعامل بجدية مع ملف التسوية، وأشاد بمبادرة السلام العربية. وخلال خطابه بجامعة القاهرة في عام 2009 أكد أن الولايات المتحدة ستعمل على إقامة الدولة الفلسطينية، وانتقد الاستيطان، واعتبره غير شرعي متبنيًا حل الدولتين، ولعل ذلك ما تسبب في توتر العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”.
إجمالًا، يمكن القول إن الرؤساء الأمريكيين خلال ربع القرن الأخير تبنوا بشكل أو بآخر تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي انطلاقًا من مبدأ حل الدولتين، أي إقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، على أن يتم ذلك عبر المفاوضات بين الجانبين، وأنه لا سبيل لفرض تصور أو حل معين على الطرفين، وأن مهمة الولايات المتحدة هي الوساطة وتسهيل عملية التفاوض بين الطرفين دون أن يعني ذلك تخليًا عن الانحياز للرؤية الإسرائيلية ومراعاة متطلبات الأمن الإسرائيلي. وهكذا ظلّ التفاوض جاريًا بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بصرف النظر عن وتيرته وجديته، ولكنه في الحاصل الأخير لم يؤدِّ إلى تسوية الصراع ولا إلى إقامة الدولة الفلسطينية حتى طبقًا للمفهوم الأمريكي-الإسرائيلي.
نمط أمريكي جديد لعملية السلام
الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب” الذي انتقد الكثير من قرارات وسياسات سلفه، نظر بعقلية التاجر الذي يُجيد فنّ الصفقات وتحقيق المكسب إلى مسيرة أو تعامل الرؤساء الأمريكيين مع ملف التسوية السلمية في الشرق الأوسط فاعتبرها فاشلة، كونها لم تؤدِّ إلى النتيجة التي تبنّاها هؤلاء الرؤساء، فبدا له أن تغيير نمط التعامل سيكون كفيلًا بتحقيق نتائج أفضل. ومن ثمّ بدأ بوقف مسار هؤلاء الرؤساء، وقرر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل إليها السفارة الأمريكية، ومارس ضغوطًا كبيرة على السلطة الوطنية الفلسطينية، وكلّف فريقًا برئاسة صهره “جاريد كوشنر” لإعداد خطة أمريكية للسلام “صفقة” تُعرض على الطرفين حال الانتهاء منها، وما على الطرفين سوى قبولها كاملة أو رفضها.
ويبدو أن الرئيس “ترامب” استفاد من فكرة الرئيس “جورج بوش الأب” الذي تعامل مع الصراع باعتباره أكبر وأوسع من حصره بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي حينما تعامل مع التسوية من خلال مؤتمر دولي شاركت فيه الأطراف المعنية بالصراع في الإقليم، فقرر الاستغناء عن البعد الدولي، واستبدله بالبعد الإقليمي بأن شارك دول الإقليم في تحمل تكلفة الصفقة وتهيئة الظروف لقبولها من قبل الطرفين، واستفاد أيضًا من فكرة الرئيس “كلينتون” بأن تسوية الصراع أكبر من أن تُترك لتفاوض الطرفين مباشرة، فقرر كما فعل “كلينتون” أن يتقدم هو بمقترح متكامل للرؤية الأمريكية لتسوية الصراع.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: هل تُهيِّئ العناصر الجديدة في مشروع “ترامب” (من قبيل إدخال القوى الإقليمية كطرف في المشروع، والتلويح بالعقوبات حال رفض المشروع، والغلاف الاقتصادي) له فرصة أفضل من المشروعات السابقة التي تبناها الرؤساء الأمريكيون أو تلك التي شهدها مسار التسوية خلال ربع القرن الماضي؟ أم إن مفاهيم التجارة وأسلوب الصفقات لا يمكن أن يكون فاعلًا في تسوية صراع على درجة من التعقيد لم تعرفه الكثير من الصراعات. فالرئيس “كارتر” (العراب) أكد في 24 أبريل 2019 أن اعتراف “ترامب” (التاجر) بالقدس عاصمة لإسرائيل قد دمر كل الفرص للتوصل لاتفاق سلام في الشرق الأوسط.