منذ الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، لم تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية عن دعمها بكافة السُبل، ولم يشكل تغيّر الرؤساء الأمريكيين واختلاف توجهاتهم عائقًا أمام تقوية وتطور العلاقات بين الدولتين، حتى وإن حدثت بعض الخلافات حول بعض القضايا والملفات. ولأن علاقة إسرائيل بواشنطن تُعتبر عنصرًا أساسيًّا في بقائها؛ لم يَبْدُ غريبًا أن يتحول ذلك كله إلى تأثيرات متبادلة سياسيًّا، قد يكون أحد جوانبها تدخل كل منهما في الانتخابات التي تجري في كلتا الدولتين. فمن المعهود أن نرى تقارير ودراسات تشير إلى حجم نفوذ اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة على العمليات الانتخابية بكل أنواعها، سواء كانت انتخابات الكونجرس أو الرئاسة، لكن يبدو أن مدى تأثير الولايات المتحدة وتدخلها في الانتخابات الإسرائيلية لم يكن مدروسًا بالقدر ذاته، وهو ما سنحاول بحثه هنا.
المحاولات الأمريكية السابقة للتأثير في الانتخابات الإسرائيلية
تعددت محاولات الولايات المتحدة للتأثير في الانتخابات الإسرائيلية في السابق، وبالرغم من ذلك فقد فشلت في التأثير في بعض الأحيان؛ فكانت البداية مع رفض الرئيس الأمريكي “جورج بوش الأب” الموافقة على منح قروض بقيمة 10 مليارات دولار لإسرائيل -بعد طلب “إسحاق شامير” المرشح آنذاك هذا المبلغ- لمساعدتها في التعامل مع موجة المهاجرين القادمين من الاتحاد السوفيتي سابقًا، وطالبها في وقت لاحق بتجميد بناء المستوطنات قبل الموافقة على هذا الطلب. وقد ترتب على ذلك حدوث أزمة في العلاقة بين الدولتين، وساهم ذلك في فوز حزب العمل برئاسة “إسحاق رابين” في الانتخابات التي أعقبت تلك الأزمة في 1992. وتمكن “رابين” من إنهاء الأزمة بعقد اتفاق مع إدارة “بوش”، تعهد فيه بالحد من بناء المستوطنات، دون التوقف عن بنائها، مقابل الحصول على ضمانات القروض.
ثم ارتبطت التدخلات الأمريكية الأخرى برئيس الوزراء الحالي “بنيامين نتنياهو” حين كان مرشحًا في انتخابات سابقة، حيث قام الرئيس “كلينتون” بالتدخل في الانتخابات عام 1996 من خلال دعم “شيمون بيريز” للفوز على “نتنياهو”، وبالرغم من ذلك فإن “نتنياهو” قد فاز في تلك الانتخابات. وقد اعترف “كلينتون” في وقت لاحق بمحاولته التلاعب في الانتخابات لصالح “بيريز”، وذلك اعتقادًا منه أنه الأصلح لعملية السلام. وفي انتخابات عام 1999 أيضًا، قام الرئيس الأمريكي “كلينتون” بدعم المرشح “إيهود باراك” آنذاك في مواجهة “نتنياهو”؛ إلا أن التدخل الأمريكي فشل وفاز “نتنياهو” في تلك الانتخابات أيضًا.
وفي انتخابات الكنيست عام 2015، جاء الحديث مجددًا عن تدخل الإدارة الأمريكية للتأثير على الانتخابات، فوفقًا لتقرير أعدّهُ مجلس الشيوخ الأمريكي عام 2016، تم الكشف عن تدفق مبالغ كبيرة من إدارة “أوباما” إلى حركة OVM أو “الصوت الواحد”، التي تعاونت مع منظمة V15 ، التي تتخذ من إسرائيل مقرًّا لها، والتي كان شعارها “أي شخص باستثناء بيبي”، في إشارة إلى “نتنياهو”. فقد دفعت وزارة الخارجية الأمريكية نحو 350 ألف دولار للحركة على أمل الإطاحة برئيس الوزراء. وقد اتهم “نتنياهو” آنذاك إدارة “أوباما” وأجهزة الاستخبارات وحركة V15 وزعيم “المعسكر الصهيوني” “يتسحاق هرتسوغ” والإعلام الإسرائيلي بالتواطؤ للإطاحة به. وقد جاء ذلك وسط توترات متصاعدة بين “أوباما” و”نتنياهو” في أعقاب خطاب الزعيم الإسرائيلي المثير للجدل في عام 2015 أمام الكونغرس -الذي رتبه حلفاؤه الجمهوريون دون إبلاغ البيت الأبيض- والذي انتقد فيه “نتنياهو” الصفقة النووية الإيرانية الناشئة. وفي أعقاب ذلك، رفض “أوباما” مقابلة “نتنياهو” بعد هذا الخطاب، مُرجعًا ذلك إلى المبادئ الديمقراطية الأمريكية التي تُقر بـ”عدم لقاء رؤساء الدول أو المرشحين قبيل إجراء انتخاباتهم، لتجنب التأثير على الانتخابات الديمقراطية في بلد أجنبي”. وقد عزا البعض تصرفات “أوباما” إلى دعم “نتنياهو” الواضح لميت رومني في الانتخابات الأمريكية في عام 2012.
تدخُّل أمريكي غير مباشر في ظل إدارة “ترامب”
منذ تولّى الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” رئاسة الولايات المتحدة، تتوالى المواقف الأمريكية المؤيدة لإسرائيل بصورة ملحوظة، فبالإضافة إلى التحالف الاستراتيجي القوي بين الدولتين؛ فإن هناك توافقًا كبيرًا بين “نتنياهو” و”ترامب” من حيث الاستراتيجية التي يتبعها كل منهما، وانتماؤهما إلى جناح اليمين، ومهاجمتهما وسائل الإعلام، فضلًا عن تركيزهما على مكافحة الإرهاب، والتركيز على العامل الأمني كوسيلة للنجاح في الانتخابات. وفوق كل ذلك، فإن “ترامب” يسعى إلى إبعاد الناخبين من مؤيدي إسرائيل عن الحزب الديمقراطي الأمريكي، وقد ظهر ذلك من خلال وصف “ترامب” للحزب الديمقراطي صراحةً بأنه أصبح معاديًا لإسرائيل بعد انتقاد النائبة “إلهان عمر” تدخل اللوبي اليهودي في السياسة الأمريكية، وذلك سعيًا منه لكسب أصوات الإسرائيليين في الداخل الأمريكي.
كما أن “ترامب” قد عمل على تنفيذ وعوده الخاصة بإسرائيل منذ توليه مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، وكان أبرزها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس باعتبارها عاصمة إسرائيل، كما أكد في عدة مناسبات أنه سيواصل دعمه لإسرائيل، وذلك فضلًا عن انسحاب بلاده من الاتفاق النووى الإيراني الذي عارضه “نتنياهو” معارضة شديدة لاعتباره إيران العدو الأكبر لدولة إسرائيل. وقد ظهر “نتنياهو” بعد القرار الأمريكي في فيديو بثه التلفزيون الإسرائيلي متباهيًا فيه بأن إسرائيل هي المسئولة عن قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
ومع قرب الانتخابات الإسرائيلية، اتخذت إدارة “ترامب” العديد من الخطوات التي من الممكن تفسيرها كنوعٍ من الدعم الأمريكي غير المباشر لنتنياهو للفوز في الانتخابات القادمة، فالعديد من التصريحات والقرارات التي تم إصدارها من قبل الإدارة الأمريكية مؤخرًا قد حملت جليًّا إشارات على التأييد الأمريكي لإعادة انتخاب “نتنياهو” كرئيس للحكومة الإسرائيلية لكونه -من وجهة النظر الأمريكية- الأنسب لإسرائيل ولتحقيق المصالح الأمريكية. وقد جاء رد “نتنياهو” على مساندة “ترامب” له من خلال استخدام حزبه الليكود لوحة دعائية ضخمة تم وضع صورة للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عليها وهو يبتسم ويصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ضمن الحملة الانتخابية. ففي ظل ما يواجهه “نتنياهو” من اتهامات بالفساد واحتمالات إدانته، يأتي الدعم الأمريكي ليعزز مكانته في الانتخابات المقبلة.
وفيما يلي أهم القرارات والتصريحات الأمريكية التي تشير إلى دعم “ترامب” غير المباشر لنتنياهو لتشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة:
1- تأجيل صفقة القرن إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية: يُدرك الرئيس الأمريكي “ترامب” جيدًا أن صفقة القرن قد تُمثل عائقًا أمام إعادة انتخاب “نتنياهو” كرئيس للحكومة الإسرائيلية، وبناء على ذلك، فقد صرح “جاريد كوشنر”، كبير مساعدي الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، بأن واشنطن ستكشف عن خطتها المعروفة بـ”صفقة القرن” بعد الانتخابات الإسرائيلية، حيث إن طرح تفاصيل الصفقة قبل انتهاء الانتخابات قد يُدخل رئيس الوزراء الإسرائيلي في مواجهة مع الجناح اليميني بإسرائيل الذي لن يقبل تقديم أية تنازلات من قبل “نتنياهو”، خاصة فيما يتعلق بتقسيم القدس.
وفي هذا الإطار، كشف موقع “ديبكا” الاستخباراتي الإسرائيلي، في شهر فبراير، أن خطة السلام الأمريكية في الشرق الأوسط، المعروفة إعلاميًّا باسم “صفقة القرن” لن تنشر قبل نهاية الصيف المقبل، ولن تتخطى نهاية العام الجاري. وأورد الموقع أن “بنيامين نتنياهو”، قد صرح خلال حضوره مؤتمر “وارسو” وفي جلسة مغلقة، بأنه من الأفضل نشر “صفقة القرن” بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية، بما لا يقل عن شهرين أو ثلاثة أشهر كاملة، وهي انتخابات الكنيست، كما أشار الموقع إلى أن تأجيل الإعلان الأمريكي عن “صفقة القرن” يأتي لأسباب سياسية لترجيح كفة “نتنياهو” في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
2- دعوة “ترامب” للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان: ذكر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في تغريدة له بحسابه على تويتر: “بعد 52 عامًا، حان الوقت لتعترف الولايات المتحدة بشكل كامل بسيادة إسرائيل على الجولان التي لها أهمية استراتيجية وأمنية بالغة لدولة إسرائيل وللاستقرار الإقليمي”، حيث جاء إعلانه الاعتراف بسيادة إسرائيل الكاملة على الجولان ليضرب بعرض الحائط مبادئ الشرعية الدولية، متجاهلًا بذلك القرار 242 الصادر عن الأمم المتحدة، والذي يؤكد على عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب.
وبشكل عام، فإن اعتراف “ترامب” بشأن منح إسرائيل السيادة الكاملة على الجولان يمثل هدية لنتنياهو قبيل الانتخابات، حسبما وصفها مؤيدوه، وبلا شك سيدعم ذلك حظوظ رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في الانتخابات العامة المقبلة ليحظى بفترة جديدة في رئاسة الوزراء، وهو ما يطمح إليه “ترامب”.
3- زيارة “بومبيو” للقدس قبيل الانتخابات: بالرغم من نفي وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” سعي الولايات المتحدة للتدخل في الانتخابات الإسرائيلية؛ إلا أن “بومبيو” -المنتمي للطائفة الإنجيلية الداعمة لليهود بشكل كبير- زار القدس وذهب برفقة “نتنياهو” إلى حائط المبكى (حائط البراق)، ليصبح بذلك أرفع مسئول أمريكي يزور هذا المكان برفقة “نتنياهو”، وهو ما يؤكد الدعم غير المباشر لنتنياهو قبيل الانتخابات بثلاثة أسابيع. كما شدد “بومبيو” على أن الزيارة تأتي تعبيرًا عن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل.
4- “ترامب” يُشيد بنتنياهو قبل إعلان “مندلبليت”: وصف الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، رئيس الحكومة الإسرائيلية “بنيامين نتنياهو” بأنه رجل “ذكي وقوي”، وذلك قبل ساعات قليلة من إعلان المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية “أفيحاي مندلبليت” قراره بتقديم لوائح اتهام ضد “نتنياهو” بشبهات فساد بينها الرشوة. وذلك في ختام قمة مع الزعيم الكوري الشمالي “كيم جونغ أون”، كما أكد “ترامب” أن “نتنياهو” قد قام بعمل رائع كرئيس للوزراء. وقد حمل ذلك في طياته تأييدًا لإعادة انتخاب “نتنياهو”، كونه الشخص المثالي لهذا المنصب وفقًا لمنظور “ترامب”.
5- البيت الأبيض يستضيف “نتنياهو”: أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” سيستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في البيت الأبيض بعد وصوله للولايات المتحدة للمشاركة في مؤتمر “إيباك” السنوي. وجاء ذلك على عكس ما فعله الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” الذي رفض استقبال “نتنياهو” قبل انتخابات 2015، حتى لا يتم تفسير استقباله كتدخل في سير العملية الانتخابية في إسرائيل، ومساندة طرف على حساب آخر بما يخالف مبادئ الديمقراطية؛ ما يعزز القول بأن تلك الخطوة تعتبر بمثابة دعم لجبهة رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” في الانتخابات المقبلة.
هل تُسهم سياسات “ترامب” في حشد أصوات اليهود الأمريكيين؟
مما لا شك فيه أن سياسات “ترامب” تجاه إسرائيل تهدف بشكل كبير لضمان حشد أصوات الإسرائيليين ممن لهم حق التصويت في الداخل الأمريكي لصالحه في الانتخابات القادمة، ولكسب المزيد من ناخبي الحزب الجمهوري المؤيدين لإسرائيل، إلا أنه في الواقع لم يعد ذلك مضمونًا، حيث أثبتت بعض استطلاعات الرأي أن سياسات “ترامب” إزاء إسرائيل لا تؤثر على معظم اليهود الأمريكيين. فقد أظهر استطلاع رأي أجرته “مجموعة ميلمان” أن 51% من اليهود الأمريكيين الذين شاركوا فيه يوافقون على نهج الرئيس الأمريكي إزاء العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، لكن 6% منهم فقط قالوا إنهم سيصوتون له بسبب سياساته إزاء إسرائيل على الرغم من اختلافهم معه في قضايا أخرى. بالإضافة إلى ذلك، قال 20% منهم إنهم يتفقون مع “ترامب” حول إسرائيل، لكنهم لن يقوموا مع ذلك بالتصويت له.
كما أظهر استطلاع أجراه “المعهد الانتخابي اليهودي” بالولايات المتحدة أن 74 بالمائة من اليهود يعتزمون التصويت للمرشحين الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي المقبلة للكونغرس الأمريكي في نوفمبر المقبل، بينما أكد 6 بالمائة فقط أن سياسات “ترامب” قد تدفعهم للتفكير في دعمه أو دعم مرشح جمهوري. ورفض أكثر من 60 بالمائة كيفية تعامل “ترامب” مع الفلسطينيين.
وقال منظمو الاستطلاع إنه يؤكد إخلاص الناخبين اليهود الحصين للحزب الديمقراطي، وأن لديهم “تقييمات سلبية” بشأن “ترامب”، كما يظهر أنهم “يضعون على قمة أولوياتهم قضايا داخلية في اتخاذ قرار أي مرشح يدعمونه”، وبناء على ذلك، فإن سياسات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في الغالب لا تضمن له الحصول على أصوات اليهود كما يطمح.
وبشكل عام، فلا شك أن “نتنياهو” هو المرشح المفضل لترامب، وبالرغم من عدم إفصاح الإدارة الأمريكية عن دعم “نتنياهو” بشكل صريح؛ إلا أن كل المؤشرات تدل على دعم غير مباشر لنتنياهو، كونه الرجل الأنسب والأقوى الذي يضمن تحقيق المصالح الأمريكية ويحافظ على إسرائيل وفقًا للرؤية الأمريكية. وعلى أية حال، فإن الدعم الانتخابي المتبادل كان وسيظل أحد الجوانب المهمة في العلاقة بين الدولتين.