الانقلابات فى المواقف والسياسات التركية أمر معتاد. اللاجئون السوريون الذين كانوا محل ترحيب قبل ثلاثة أعوام، ومنحت لهم بطاقات إقامة وحرية حركة والعمل والعلاج فى المستشفيات الحكومية مجاناً، وقيل فى ذلك إنه دليل على الأخوة الإسلامية التى تطبع سياسة الرئيس أردوغان تجاه الأشقاء فى سوريا، أصبحوا الآن عبئاً كبيراً. كبار المسئولين الأتراك باتوا يرون فى اللاجئ السورى نموذجاً للعشوائية، حسب كلمات ياسين أقطاى، مستشار أردوغان نفسه، وأنهم ينافسون المواطنين الأتراك فى لقمة عيشهم ومسئولون عن تفشى البطالة وتدهور قيمة الليرة التركية، هكذا مرة واحدة. كما أنهم ينشرون الجريمة فى المجتمع الذى يعيشون فيه، حسب تصريحات مسئول أمنى فى إسطنبول.
مشاهد الفيديو التى تجسد معاناة السوريين فى تركيا آخذة فى الانتشار، وتعكس وحشية تصرفات أفراد الأمن التركى تجاه لاجئين عزل دفعتهم الخديعة التركية للهروب من وطنهم ظناً أنهم سيجدون جنة عدن فى ربوع تركيا الأردوغانية. التصرفات اللا إنسانية من أصحاب عمل أتراك استغلوا اللاجئين السوريين أسوأ استغلال صارت شائعة، ومقاطع الفيديو فى وسائط التواصل أكثر من أن تُعد أو تحصى. الجميع يريدون طرد اللاجئين والتخلص منهم بعد تعذيب من يتمكنون منه. بالقطع هذه التصرفات اللا إنسانية ذات الطابع الجماعى ليست بعيدة عن تعليمات رسمية وحزبية لتحويل حياة اللاجئين السوريين إلى عذاب يدفعهم إلى أحد تصرفين؛ إما العودة إلى سوريا، أياً كان الوضع الأمنى، وإما محاولة عبور الحدود فى اتجاه بلد أوروبى أو فى اتجاه البحر حيث اللا مكان واللا حياة.
الطابع الرسمى لإجبار اللاجئين السوريين على الفرار من تركيا وكأنه خيار حر للاجئين أنفسهم يظهر فى عدة مواقف متشابكة؛ أولها أن التركيز الأكبر هو على اللاجئين السوريين فى إسطنبول التى هزمت «أردوغان» وحزبه مرتين فى الانتخابات البلدية، وأتت بأكرم أوغلو من حزب الشعب الجمهورى المعارض رئيساً لبلدية إسطنبول، فيما كشف حجم التراجع فى تأييد الأتراك لحزب العدالة والتنمية وللرئيس أردوغان شخصياً. وهنا بدأ التركيز على اللاجئين السوريين وتصويرهم السبب الأول لاحتقان مواطنى إسطنبول، ما أدى بهم إلى التصويت الاحتجاجى وهزيمة مرشح «أردوغان» هزيمة ساحقة. هكذا يريد «أردوغان» وحزبه تصوير الهزيمة كنتيجة لسبب خارجى وليس لسوء سياساته. فضلاً عن إثارة قضية إنسانية أمام رئيس البلدية الجديد وتوريطه باعتباره المسئول عن النزعة اللا إنسانية التى سادت فجأة بين رجال الأعمال الأتراك تجاه من كانوا يرحبون بهم فى السابق.
الموقف الثانى يتمثل فى إعادة التركيز على إنشاء منطقة عازلة فى الشمال السورى تحت حماية تركية مباشرة وبتعاون كامل من الولايات المتحدة، وحسب تهديد وزير الخارجية التركى تشاوش أوغلو، فإن بلاده ستطلق عملية عسكرية فى شرق الفرات إذا لم تتأسس المنطقة العازلة. مثل هذا التهديد ليس جديداً، ولكنه يكتسب وضعاً خاصاً فى ظل الظروف الجارية الآن فى إدلب حيث فشلت تركيا فى الوفاء بتعهداتها لروسيا بإنهاء وجود المسلحين والإرهابيين فى غضون ثلاثة أشهر، وبعد أكثر من عشرة أشهر تبين أن تركيا وظفت هؤلاء الإرهابيين ليكونوا جيشاً تحت إمرة مخابراتها لإفساد أى تطور سلمى فى سوريا. وبالتالى يكون التهديد بإنشاء منطقة عازلة موجهاً أيضاً إلى كل من روسيا والحكومة السورية، فى الوقت نفسه موجهاً إلى الولايات المتحدة التى عارضت من قبل إنشاء تلك المنطقة لاقتناعها بأنها ستؤدى إلى مواجهات غير مأمونة العواقب بين الأكراد والقوات التركية إذا سُمح لها بالامتداد فى شرق الفرات.
الموقف الثالث هو التهديدات التركية الرسمية لأوروبا بفتح الحدود أمام اللاجئين السوريين، ما يهدد بسقوط تلك الحكومات الأوروبية فى غضون ستة أشهر، حسب ما قاله مسئول تركى بارز. الأمر على هذا النحو لا يخلو من ابتزاز مباشر للأوروبيين على النحو الذى حدث من قبل، وخضع له الاتحاد الأوروبى ومنح تركيا عدة مليارات من الدولارات لكى تحتفظ باللاجئين السوريين لديها. ومن غير المستبعد أن تهدف «أنقرة» إلى ابتزاز جديد لأوروبا، لا يقف فقط عند الحصول على عدة مليارات من الدولارات لإنقاذ الاقتصاد التركى المتراجع، وإنما أيضاً لدفع الأوروبيين للتوقف عن فرض أى عقوبات نتيجة قيام تركيا بالتنقيب عن النفط فى المياه الإقليمية القبرصية.
الموقف الرابع وهو امتداد للضغط على الأوروبيين ولكنه فى اتجاه «الناتو» الغاضب بسبب حصول تركيا على منظومة الدفاع الجوى «إس 400» الروسية، ويهدف إلى منع الحلف من اتخاذ أى إجراء من شأنه أن يؤثر على عضوية أو مكانة تركيا فى «الناتو» أو يخرجها من بعض الخطط العسكرية الجماعية بسبب اعتقاد «الناتو» أن «أنقرة» خالفت بذلك القواعد العامة للأمن الجماعى التى يلتزم بها أعضاء الحلف. ويلاحظ هنا مسألتان؛ الأولى أن الموقف الوحيد الذى تم اتخاذه هو القرار الأمريكى بوقف مشاركة تركيا فى برنامج الطائرة «إف 35» والمعتمدة باعتبارها طائرة الحلف الرئيسية فى العقدين المقبلين، وبما يكلف تركيا خسارة قدرها 9 مليارات من الدولارات. وهو قرار أمريكى وليس قرار حلف الناتو، الذى لا يمكنه اتخاذ أى قرار إلا بموافقة أمريكية. والمسألة الثانية هى تردد الولايات المتحدة أو بالأحرى رفض الرئيس ترامب توقيع أى عقوبات على تركيا بشأن شرائها منظومة «إس 400» الروسية رغم التحذيرات الأمريكية السابقة. وتبدو المفارقة الكبرى فى بدء مباحثات رسمية بين مبعوث أمريكى ورئيس القوات الأمريكية فى سوريا ومسئولين أتراك لبحث المطلب التركى الخاص بإنشاء المنطقة العازلة شرق الفرات. إذ بدلاً من معاقبة «أنقرة» تبدو الأمور متجهة إلى التوافق الأمريكى مع رغباتها فى احتلال شمال سوريا رسمياً إلى مدى لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
هذه المواقف المتشابكة تفسر تلك التحولات الدرامية فى موقف الأتراك تجاه اللاجئين السوريين، استناداً إلى افتراض أنه كلما ظهر أن هناك أزمة إنسانية، بدا التوافق على إنشاء منطقة عازلة يتم دفع اللاجئين السوريين إليها بزعم أنها لحمايتهم ولتسهيل عودتهم إلى قراهم ومدنهم. وكلما تم توجيه الأنظار نحو ما يقلق أمن البلدان الأوروبية تراخى هؤلاء وقبلوا الابتزاز التركى وتماهوا معه. وفى الحالتين فإن وجود اللاجئين السوريين فى تركيا ليس سوى ورقة توظفها «أنقرة» والرئيس أردوغان وحزبه لمصلحتهم الخاصة جداً. أما المبادئ والشعارات والأخوة الإسلامية التى طالما تشدق بها «أردوغان» وحزبه فهى ليست أكثر من بدعة للاستهلاك المحلى وقد انقضى أوانها.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٢٤ يوليو ٢٠١٩.