دخلت المواجهة بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، شهرها الأول، ودخل الصراع على السلطة بينهما مرحلة تصعيد خطير، وهو الصراع الذي بدأ منذ صعود “آبي أحمد” للسلطة في عام 2018، حيث استمرت السياسات العدائية بين الجانبين واتخذ بعدًا أيديولوجيا وعرقيًّا، وهذا بدوره صب مزيدًا من الزيت على النار، حيث وجدت فيه العرقيات الأخرى فرصة للتعبير عن هويتها ومطالبها مثل قومية الأورومو، وشعوب جنوب إثيوبيا، التي تقف إلى صف التيجراي، وتنتظر ما سيئول إليه الصراع لتعلن عن مواقفها ونياتها.
أولًا- “آبي أحمد” وإدارة العلاقة مع الجماعات الإثنية:
على عكس المتوقع، كان صعود “آبي أحمد” وتوليه رئاسة الوزراء في إثيوبيا مصدرًا من مصادر الإخلال بالتوازن الهش الذي كان قائمًا في إثيوبيا، لأنه دفع بالصراع الداخلي خطوات للأمام، وأجج النيران التي كانت تحت الرماد. فمنذ أن تولّى رئاسة الوزراء في إثيوبيا، شهدت البلاد سلسلة من الاغتيالات السياسية، والصراعات الإثنية، تعرض فيها العديد من المدنيين من نساء وأطفال وكبار السن للعنف الممنهج، وأدى إلى حالة نزوح جماعي بأكثر من 2 مليون تشردوا نتاج الصراعات الإثنية.
إن تعامل حكومة “آبي أحمد” مع ظاهرة العنف بين القوميات ترتب عليه العديد من الأزمات، منذ المحاولة الأولى لاغتيال رئيس الوزراء في يونيو 2018، ثم مقتل مدير مشروع سد النهضة “سيميغنيو بيكيلي” Simegnew Bekele، واغتيال رئيس إقليم أمهرة، واغتيال قائد الجيش في أديس أبابا وغيره من كبار قادة الإقليم، بالإضافة إلى اغتيال الموسيقي “هاشالو هونديسا”، لا سيما العنف الموجّه إثنيًّا. وبدلًا من أن تعالج الحكومة الإثيوبية تلك الأزمات، ألقت باللوم على الانقسامات الإثنو-قومية (فيدرالية الإثنية)، وأقرت الحكومة بأن الطريقة الوحيدة للقضاء على هذا العنف هو تفكيك التسوية السياسية المتعددة القوميات، فانتقلت آلة الدعاية ومؤيدو حزب الازدهار الذي يتزعمه “آبي أحمد” إلى القضاء على مشروع الفيدرالية الإثنية متعدد القوميات، على الرغم من أنه يعلم جيدًا أن هذا المشروع الفيدرالي يحظى بدعم وشعبية لدى العديد من القوميات الإثيوبية المهمشة، ومن ضمنهم قومية الأورومو ذات الأغلبية في البلاد.
لا تزال مظاهر قوة الدولة في إثيوبيا واضحة، وربما هذه هي الرسالة الأساسية وربما الاختبار الحقيقي لبقائها خلال المرحلة الصعبة الراهنة التي تمر بها في ظل قيادة “آبي أحمد”، والممثلة في العملية العسكرية لفرض السيطرة على إقليم تيجراي والقضاء على التمرد، فالدولة هنا تبدو حاضرة ممثلة في مؤسساتها القوية، ولا يبدو أن التمرد يتسع، أو أن هناك انقسامات داخلية واسعة قد تعصف باستقرار البلاد ككل، كما أن هناك تأييدًا داخليًا للعملية العسكرية التي يقوم بها الجيش الإثيوبي في إقليم تيجراي، ويدعم هذا التحرك شعور عام بمخاطر تشجيع عملية التمرد في الإقليم، وهو ما قد يعصف ببقاء الدولة الإثيوبية التي تضرب بجذورها في التاريخ وفي العقل الجمعي الإثيوبي الذي لا يرغب في ذلك، لا سيما أن تجارب الانفصال في القارة وفي الجوار لم تكن تعطي مؤشرات إيجابية، فضلًا عن أن الاتجاه نحو الحرب الأهلية هو خيار غير مرغوب به على المستوى الشعبي، ومن ثم فإن الحكومة المركزية تجد دعمًا شعبيًا إلى حد ما، كما أن المؤسسات القوية ما تزال في قبضة الحكومة المركزية، وما تزال الدولة تبسط سلطتها على بقية الأقاليم.
ثانيًا- استنزاف قدرات الدولة:
دخلت الحرب ضد تيجراي أسبوعها الرابع، ولكن خيار نهاية الحرب ليس خيارًا سهلًا، ومع استمرارها ستتحول الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي إلى حرب العصابات، في مرتفعات إقليم تيجراي الوعرة ذات الطبيعة الخاصة التي تعطي ميزة لمقاتلي تيجراي في استخدام المدفعية من تلك المرتفعات، وأيضًا مراقبة جميع المحاور التي تتحرك فيها القوات الحكومية، مما يجعلهم صيدًا سهلًا لمدافعهم المرتكزة في الكهوف الجبلية، وهي عملية إنهاك السلطة المركزية، وهو نفس السيناريو الذي أسقطوا به نظام “منجيستو هيلي ماريام”. على مدار العقود الثلاثة الماضية، تعتبر مناطق الجبهة الشعبية في الإقليم مناطق عسكرية ممنوع الاقتراب منها، لذا عجزت الحكومة الإثيوبية عن الوصول للمخابئ والكهوف التي يستخدمونها، واستخدموها سابقًا في إسقاط آخر حكومات الأباطرة في إثيوبيا. وبعد مذبحة منطقة (ماي كادرا) في تيجراي التي راح ضحاياها عشرات، خرجت الجبهة الشعبية من المدن، كإجراء تكتيكي قديم استخدمته عندما كانت تقاتل حكومة “منجيستو” بعد ارتكابها حملة تطهير عرقي ضد شعب تيجراي في مناطقهم. عسكريًّا، ميزان القوة يميل بشكل واضح لصالح الجبهة الشعبية، من حيث القطع العسكرية المتحركة، كالمدافع والصواريخ والقوة البشرية.
في جانب آخر، تعتمد الحكومة الإثيوبية استخدام سلاح الجو الإثيوبي حول الأهداف في مدينة (ميكيلي) ومحيطها دون تحديد ماهية الأهداف التي تم قصفها، ولكنها خلفت دمارًا وجرحى من المدنيين. وأصدرت الحكومة الإثيوبية قرار اتهام بحق 64 شخصًا، من الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، من بينهم رتب من الجيش الفيدرالي، ونخب أكاديمية، تتعلق جميعها بالخيانة العظمى لانحيازهم ودعمهم لمقاتلي الجبهة الشعبية، على رأسهم الدكتور “ديبرسيون جبرميكائيل”، حاكم الإقليم، و”سبهات نيجا” الأب الروحي للجبهة الشعبية ومنظرها الأكاديمي طوال هذه السنوات، و”جيتاتشو ريدا” الناطق الرسمي لحاكم الإقليم، المتحدث العسكري للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، وعضو البرلمان “خيرية إبراهيم”.
إن العمليات العسكرية بين كل من الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، تمثل تهديدًا كبيرًا لعدم تماسك الدولة في إثيوبيا والتعايش السلمي بين مكوناتها، وأيضًا قد تمثل بداية نهاية لرؤية ومشروع “آبي أحمد”. إذ قد تستمر الحرب بينهما لسنوات طويلة، بدون أن يحقق أي طرف فيها انتصارًا ملموسًا يجعله يفرض هيبته. هذه الحرب حتمًا سوف تشجع القوميات الأخرى في الأقاليم الأخرى، التي تعارض مشروع حزب الازدهار على حمل السلاح لتحقيق حق تقرير المصير بيدها في المستقبل، وتتحول الحرب إلى عملية استنزاف للجيش الحكومي، حينها يكون “آبي أحمد” تورط في حرب طويلة الأمد ومرهقة، ومن إقليم تيجراي سوف تنتقل الحرب إلى إقليم أمهرة، ثم بني شنغول، وتكون بمثابة عدوى إلى بقية الأقاليم الأخرى. فحرب العصابات في مرتفعات شمال إثيوبيا، ستنقل الصراع العرقي إلى الوسط والغرب بفضل الاشتباك بين قوميتي بني شنقول جوموز – الأمهرة، ومن ثم ينتقل إلى الوسط والجنوب، والدخول في صراع عرقي ممتد بين جميع القوميات.
في هذا السياق، خاطبت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، جميع القوميات وأمم وشعوب إثيوبيا، للتحرك لإسقاط حكومة القوميين الأمهرة، قبل أن يدركوا حلمهم بعودة الإمبراطورية مرة أخرى. في الوقت نفسه، طالبت المجتمع الدولي لوقف الإبادة الجماعية التي تتم في حق عرقية التيجراي، وحذرت أيضًا الشعب الإثيوبي من أن نجاح قومية الأمهرة في مخططهم يمثل استدعاء التاريخ للشعوب الإثيوبية التي ذاقت ويلات حكم الإباطرة الأمهرة، وأشارت الجبهة الشعبية في خطابها إلى أن ما يحدث في إثيوبيا يمتد إلى شرق القرن الإفريقي، وأن ما يحدث الآن في إقليم تيجراي سيصنع إرهابًا جديدًا في المنطقة لن يسلم منه أحد.
ثالثًا- الدولة بين البقاء والانهيار:
تشير بعض المصادر الغربية إلى أن الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي اتّبعت في حربها الحالية مع حكومة “آبي أحمد” نفس الطرق التي دحرت بها حكومة الجنرال “منجيتسو”، بإخلائها المدن لتفادي استهداف قوميتهم من عملية تطهير عرقي من قبل الحكومة الإثيوبية، كما حدث سابقًا إبان فترة قتالهم ضد الجيش الإثيوبي في الثمانينيات.
الأزمة الحالية في إقليم تيجراي تحدد بشكل كبير مصير ومستقبل الدولة الإثيوبية، ومن ثم إعادة تعريف نظامها السياسي وعملية إدارة الدولة، ومن ثم تظهر بشكل كبير هويتها المستقبلية، وهذا مبني على من سينتصر في هذه الحرب. وبالنظر إلى القوة العسكرية بين طرفي الأزمة يتضح تفوق كبير لحكومة “آبي أحمد”، من خلال سلاح الدفاع الجوي، والقوميين الأمهرة وميليشياتهم التي تشارك بقوات كبيرة في هذا الصراع الذي بدأ سياسيًّا أيديولوجيًّا إثنيًّا، ثم تحول إلى حرب المواجهة طويلة الأمد، بين مشروع الفيدرالية الإثنية والوحدة الوطنية، وسوف تدفع الدولة الإثيوبية الثمن الباهظ الذي ترتب على تصارع النخب فيما بينهما والانزلاق في نهاية المطاف إلى حافة الهاوية، هذا الانزلاق تترتب عليه بعض من المعطيات المعقدة والمركبة معًا على النحو التالي:
أولًا: إذا انتصر مشروع حزب الازدهار، حتمًا ستكون نتائجه كارثية على بعض المجموعات مثل الأورومو، وبني شنقول، والقومية الصومالية، والقوميات المهمشة في الجنوب، حيث يمكن أن يتم شن حرب تأديبية ضدهم، بسبب عدم دعمهم لمشروع “آبي أحمد”، وهي فرصة كبيرة للقوميين الأمهرة في ممارسة عنف واسع النطاق ضد مؤيدي الفيدرالية الإثنية.
ثانيًا: إذا حققت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي انتصارًا، ودخلت في مفاوضات مباشرة مع حكومة “آبي أحمد”، سواء كان عبر ضغوطات دولية مرتبطة بالإدارة الأمريكية الجديدة أو المجتمع الدولي، فهذا يعني فرصة كبيرة لصالح القوميات التي تتمسك بمشروع الإثنو قومية، مقابل تضاؤل فرص الأمهرة الذين يطمعون في الانفراد مرة أخرى بالسلطة الكاملة.
في كل الأحوال، يبدو أن الدولة في إثيوبيا تمر بواحدة من أكثر أزماتها تعقيدًا وصعوبة، في ظل انخراط جميع الأطراف في مسار الصراع المسلح، ورفض كافة محاولات الوساطة والتسوية السلمية، بل واستدعاء دعم خارجي من دول الجوار، وهو الوضع الذي ينذر بانعكاسات بالغة الخطورة على مستقبل الدولة الإثيوبية وعلى استقرار القرن الإفريقي ككل.