يسهل على المتفحص في خريطة إثيوبيا أن يدرك ما منحته الطبيعة لهذه الدولة من مميزات فيما يخص وفرة المياه، لدرجة أن البعض يطلق عليها “برج المياه في إفريقيا”، حيث تتدفق من مرتفعاتها المياه في جميع الاتجاهات. فمن الشمال والغرب تتدفق المياه إلى “نهر النيل” في السودان ثم مصر. ومن الجنوب يتدفق نهر “أومو” إلى “بحيرة توركانا” في كينيا، و”شبيلي وجوبا” في الصومال. ومن الشرق إلى “بحيرة عسل” في جيبوتي. وتعد مياه الأمطار هي مصدر المياه السطحية لمعظم الأراضي الإثيوبية، حيث يصل متوسط الأمطار السنوية هناك إلى 936 مليار متر مكعب، ويبلغ حجم المياه السطحية في أحواض الأنهار 122 مليار متر مكعب يتدفق منها 97 مليار متر مكعب خارج أراضي الدولة، على النحو التالي: 80 مليار متر مكعب نحو نهر النيل، 8 مليارات متر مكعب نحو بحيرة توركانا، 7 مليارات متر مكعب نحو الصومال، ومليارا متر مكعب إلى جيبوتي.
ورغم هذه الكمية الضخمة من المياه؛ إلا أن إثيوبيا لم تستغل أكثر من 3% من كمية الأمطار السنوية لأسباب عديدة، أهمها حدة التضاريس، حيث تضم جبالا شاهقة يصل ارتفاعها إلى أكثر من 2000 متر فوق سطح البحر تغطي ثلث مساحة الدولة، وعددًا من القمم البركانية، بالإضافة إلى انخفاض مجاري الأنهار بنحو 80 مترًا عن الأماكن الزراعية في بعض المناطق، وارتفاع معدلات البخر التي تتسبب أحيانًا في جفاف الأنهار خصوصًا في شرق البلاد.
وتؤمن الحكومة الإثيوبية بأن هذه الكمية الهائلة من المياه هي ملك لها تتصرف فيها كيف تشاء دون النظر إلى حقوق الدول المجاورة، لذلك لجأت الحكومة الإثيوبية إلى بناء عدد كبير من السدود من أجل تخزين المياه والاستفادة منها في توليد الطاقة لتغطي احتياجات الدولة، وتحقق فائضًا يتم تصديره للدول المجاورة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إثيوبيا تحتل حاليًّا المركز الثاني إفريقيًّا في إنتاج الطاقة الكهرومائية بقدرة إنتاجية تصل إلى 45000 ميجاوات، وتستهدف إضافة 14 سدًّا جديدًا تسهم بحوالي 3070 ميجاوات في شبكة الكهرباء المحلية.
ونظرًا لكون نهر أومو Omo هو الأكثر ملاءمة لتشييد مشروعات مائية تخزينية كبرى، فقد قامت الحكومة الإثيوبية بإقامة سلسلة من السدود لتوليد الكهرباء هي “جيبي 1” (184 ميجاوات)، “جيبي 2” (420 ميجاوات)، “جيبي 3” (1870 ميجاوات)، وتخطط لإقامة سد “جيبي 4″ (2000 ميجاوات) و”جيبي 5”. وبإقامة كل هذه المشروعات على نهر واحد، حققت إثيوبيا عددًا من المكتسبات التي تستهدفها الحكومة لتحقيق أهداف تنموية، لكنها تسببت أيضًا في أضرار جسيمة لم تقتصر على الداخل الإثيوبي، وإنما اكتسبت بعدًا إقليميًّا بعدما امتدت هذه الأضرار إلى كينيا المجاورة.
وتتعدد هذه الأضرار ذات البعد الإقليمي المترتبة على سياسة السدود الإثيوبية، إذ تشمل أَضرارًا بيئية تمتد تأثيراتها لفترات زمنية طويلة، وأخرى معيشية تجعل من الصعب استمرار الحياة في المناطق المتأثرة، بالإضافة للأضرار الأكثر فداحة والمتعلقة بما تتسبب فيه من تغير في أوضاع المجتمعات المتضررة بما يُعد دافعًا أساسيًّا للصراعات الأهلية بين الجماعات المتضررة المتجاورة. وفيما يلي عرض لأهم الأضرار المترتبة على بناء سلسلة سدود جيبي على نهر أومو والتي تأثرت بها المجتمعات المحيطة ببحيرة توركانا الواقعة في شمال كينيا.
1- الأضرار المائية والبيئية
تعد بحيرة “توركانا” الكينية أكبر بحيرة صحراوية في العالم وموطنًا مهمًّا للتنوع البيئي الغني في قلب الصحراء، ومصنفة ضمن مواقع التراث العالمي، وتعد المورد الرئيسي لحياة نصف مليون من السكان الكينيين. ويمثل نهر “أومو” أهمية كبيرة لبقاء هذه البحيرة، إذ إنه يمدها بحوالي 90% من المياه التي تصب فيها سنويًّا.
وعلى إثر إقامة سدود جيبي وامتلاء خزاناتها بالمياه، تأثرت بحيرة “توركانا” بالسلب على المستويين الكمي والنوعي. فمن ناحية، انخفض منسوب المياه بالبحيرة بمعدل مترين بعد انخفاض كمية المياه المتدفقة من النهر إلى البحيرة بنسبة 50% بسبب تبخرها خلف السدود. من ناحية أخرى، ارتفعت نسبة ملوحة مياه البحيرة، الأمر الذي أثر سلبًا على النظام البيئي في البحيرة وعلى السكان هناك. كما انحسر شاطئ البحيرة بالفعل، وتراجع إلى 1.7 كم في خليج فيرجسون الذي يُعد منطقة حيوية لصيد الأسماك الذي يعتمد عليه المجتمع المحلي المقيم على شواطئ البحيرة.
وفي الوقت الذي يواجه فيه سكان منطقة توركانا موجات جفاف طبيعية موسمية، تصر إثيوبيا على التوسع في زراعة قصب السكر من خلال “مشروع كوراز” الذي يستهلك كميات هائلة من مياه نهر أومو، الأمر الذي يقلل من احتمالات وصول المياه إلى البحيرة بما يزيد من درجة ملوحتها، كما يقلل من وصول المياه الكافية إلى أراضي الجماعات المقيمة على ضفاف النهر مما يؤدي إلى تلاشي الأنشطة الاقتصادية لهذه الجماعات كالزراعة والرعي في هذه المناطق. وتُشير بعض التقارير إلى أن الحكومة الإثيوبية تُجبر هؤلاء السكان داخل إثيوبيا على إتاحة المجال للمزارع التجارية الكبيرة دون تعويض مناسب أو توفير بدائل تضمن لهم سبل العيش الكريم، بينما لا تلتزم بأي شكل من أشكال التعويض للجماعات الأكثر تضررًا في كينيا.
2- الأضرار المعيشية والاقتصادية
يُعد حوض بحيرة “توركانا” من أكثر مناطق العالم عزلة، وهو موطن لمجموعة صغيرة من المجتمعات المحلية التي تضم نصف مليون نسمة من المزارعين والرعاة وصيادي الأسماك الذين يعتمدون بصورة شبه كاملة في نشاطهم الاقتصادي على بحيرة “توركانا”. ومع تراجع معدلات تدفق مياه نهر “أومو” تضاءل مخزون البحيرة من الأسماك منذ بداية العمل في أول السدود الإثيوبية.
وساهم ضعف تدفق المياه بعد تشغيل سد “جيبي 3” في انتشار الجوع في المجتمعات المحلية في حوض بحيرة “توركانا” بما سببه من تقلص لمساحة مراعي الماشية وارتفاع نسبة جفاف التربة، الأمر الذي أدى بالضرورة إلى تراجع الإنتاجية الزراعية بصورة غير مسبوقة. ونتيجة لصعوبة الوصول إلى مناطق مغطاة بالأعشاب اللازمة للرعي، فقد اضطر السكان المحليون للتحرك بعيدًا ومغادرة أرضهم التي أصبحت غير قادرة على توفير سبل العيش لهم.
3- الأضرار الأمنية
أتاحت كل التغيرات السابقة، من تقلص مساحة الأراضي الزراعية، وضعف تدفق المياه، والتغيرات البيئية، وتيارات الهجرة؛ الفرصة أمام ظهور نزعات صراعية بين سكان حوض بحيرة “توركانا” وبعضهم بعضًا، وبينهم وبين الجماعات المجاورة، وبينهم وبين السلطات الكينية، الأمر الذي أكد خطورة العواقب السياسية والأمنية المترتبة على سياسة السدود الإثيوبية.
وفي ظل وقوع بحيرة “توركانا” في منطقة الوادي المتصدع الكينية التي تعد مركزًا لصراعات محتدمة بين الجماعات الكينية وبعضها بعضًا؛ من المتوقع أن يؤدي أي تدافع سكاني يتسبب فيه انخفاض منسوب المياه في البحيرة إلى تأجيج الصراعات بين الجماعات الكينية، وتعريض السلام الهش في كينيا لأخطار داهمة.
على مستوى آخر، من المرجح أن تبحث الجماعات المحلية التي أُجبرت على ترك مصادر رزقها وأماكن إقامتها الأصلية عن موارد أخرى في المناطق الحدودية بين كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان. ونظرًا للتاريخ الطويل للصراعات بين المجتمعات المحلية في هذه المنطقة؛ فمن المتوقع أن يتصاعد معدل العنف في المنطقة بصورة كبيرة، حيث ستفاقم هذه الأوضاع الجديدة من حدة صراعات قديمة قائمة. ومع اضطرار القبائل الكينية إلى التحرك عبر الحدود الدولية لتقترب من منطقة “مثلث إليمي” Ilemi Triangle وهي منطقة متنازع عليها تمتد مساحتها بين 10 و14 ألف كم مربع في منطقة التقاء حدود كينيا وجنوب السودان وإثيوبيا وأوغندا، فإن ذلك قد يُكسب الصراع بُعدًا دوليًّا بالغ الخطورة.
من كل ما سبق، يتضح أن استمرار الحكومة الإثيوبية في سياستها الخاصة ببناء المزيد من السدود لن يؤدي فقط إلى حرمان بعض السكان من أبسط حقوقهم المعيشية داخل الدولة، أو خلق خلافات مع حكومات الدول المجاورة، بل سيتخطى الأمر ذلك إلى خلق صراعات مسلحة على الأرض بين السكان المحليين وبعضهم بعضًا، وبينهم وبين القوات الرسمية، بالإضافة لما قد يثيره ذلك من صراعات أخرى على الحدود بين دول حوض النيل قد تنتهي بحروب تُخلف وراءها كمًّا كبيرًا من الخراب والدمار وعددًا لا يستهان به من الضحايا، وتبتلع جهود الحكومات الرامية إلى تحقيق التنمية، وفي مقدمتها جهود الحكومة الإثيوبية ذاتها.
رئيس وحدة دراسات القضايا الاجتماعية