في الحادي عشر من سبتمبر 2019، أعلنت دولة جنوب السودان عن التوصل إلى اتفاقٍ بشأن تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية. وكان من المتوقع أن يتم تشكيل هذه الحكومة في مايو الماضي، لكنها تأجلت لمدة ستة أشهر من قبل “مشار” لدواعٍ أمنية. ومن المتوقع أن يتم تشكيلها في الثاني عشر من نوفمبر المُقبل بمشاركة جميع القوى الموقعة على اتفاق السلام.
تأتي هذه الخطوة على خلفية تطورات متسارعة في جنوب السودان منذ الاستقلال في منتصف عام 2011، حيث سرعان ما اندلع الصراع بين رئيس جنوب السودان “سلفا كير” وزعيم المعارضة “رياك مشار” في ديسمبر عام 2013 بعد عامين فقط من الاستقلال. وفي عام 2014 بدأت المفاوضات بين الجانبين في أديس أبابا دون جدوى. وفي عام 2015 تم توقيع اتفاق سلام بوساطة دولية. وفي عام 2016 جرت إقالة “مشار” وفراره إلى دولة الكونغو الديمقراطية. وفي مايو من عام 2017 أعلن “كير” وقف إطلاق النار. وفي أغسطس عام 2018 تم توقيع اتفاق سلام بالأحرف الأولى بالخرطوم. وفي سبتمبر عام 2018 تم توقيع اتفاق سلام نهائي في أديس أبابا لإنهاء الحرب.
وتأتي هذه الخلفية المعقّدة لمحاولات إقرار السلام في جنوب السودان لتكشف عن عددٍ كبيرٍ من التحديات الرئيسية؛ إلا أنها تكشف أيضًا عن آفاق إيجابية يوفرها السياق الإقليمي والدولي في الفترة الحالية، لم يكن متوفرًا طوال سنوات الصراع الست الماضية.
الخطوط العامة في اتفاق السلام المُعاد تنشيطه عام 2018
تَضمن الاتفاق الموقّع في الخامس من أغسطس 2018 في الخرطوم والمعاد تنشيطه حاليًّا، عددًا من البنود الأساسية هي:
1- الوقف الفوري لإطلاق النار ونزع السلاح من الميليشيات المُسلحة وبناء جيش وطني وشرطة وطنية.
2- تقاسم السلطة على مستوى رئاسة الجمهورية، من خلال استمرار “سلفاكير” رئيسًا لدولة جنوب السودان خلال المرحلة الانتقالية لمدة ثلاث سنوات تَعقبها انتخابات عامة، على أن يتولى “رياك مشار” -زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان- منصب النائب الأول، بجانب أربعة نواب آخرين من تحالف المعارضة. وينص الاتفاق على أن يهتم النائب الأول بشئون الحكم، أما الثاني فيهتم بالاقتصاد، ويهتم النائب الثالث بالخدمات، ويهتم النائب الرابع بالبنية التحية، أما الأخير فيهتم بشئون النوع والشباب.
3- تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية، التي تتألف من خمسة وأربعين وزيرًا بدلًا من ثلاثين وزيرًا في السابق، بحيث يكون عشرون وزيرًا للحكومة ومختلف فصائلها، وتسعة للحركة الشعبية، وثلاثة لتحالف المعارضة، واثنان للمعتقلين السياسيين، وواحد للأحزاب السياسية. بالإضافة إلى عشرة نواب لوزارات الخارجية، والمالية، والإعلام، والزراعة، والتعليم، والعدل، وخمسة للحكومة.
مؤشرات خارجية إيجابية
في الحادي عشر من سبتمبر 2019 عاد “مشار” إلى جوبا في لقاء غير متوقع للمرة الأولى منذ نحو عام، حيث التقى الرئيس “سلفا كير” في محاولة لإنقاذ اتفاق السلام المتعثّر بين الطرفين. لكن بجانب هذا المتغير المهم، تظهر العديد من المؤشرات الإيجابية التي قد تدعو لقدر من التفاؤل بشأن مستقبل السلام في جنوب السودان.
فمن ناحية، تدفع تطورات الداخل السوداني إلى استقرار الجنوب تجنبًا لموجات اللجوء والنزوح وتشجيعًا للتنمية في ظل الدور الذي لعبته الخرطوم كراعٍ تاريخي لاتفاق السلام. فقد كانت أول زيارة خارجية لرئيس الوزراء السوداني “حمدوك” إلى جوبا عاصمة جنوب السودان. ووصل “مشار” برفقة “حميدتي” الذي يقود التفاوض مع الحركات المسلحة، وعلى رأسها الحركة الشعبية قطاع شمال بقيادة “عبد العزيز الحلو”، في جوبا.
وإقليميًّا، ترى منظمة “الإيجاد” ضرورة التوصل إلى توافق بين “مشار” -زعيم المتمردين- و”كير” -رئيس دولة جنوب السودان- بشأن التوزيع العادل للسلطة والثروة على خلفية استحواذ قبلية “الدينكا” على النصيب الأكبر من المقدرات السياسية والاقتصادية. ومن ثم، فإن رؤساء دول “الإيجاد” بصدد عقد اجتماع لإنهاء الإقامة الجبرية لــــ”رياك مشار” عَقب اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كما أنه ليس من مصلحة دول الجوار استمرار الصراع خوفًا من تداعياته السلبية، حيث تتأثر كل من إثيوبيا وكينيا وأوغندا سلبًا من خلال انكماش حركة التجارة مع جنوب السودان وعودة العمالة التابعة لها من الجنوب، علاوة على موجات النزوح واللاجئين. وبالنسبة لمصر فلها مصالح في إزالة أي عراقيل تعترض ملف التعاون المائي مع جنوب السودان كما حدث من قبل عندما توقف العمل بمشروع قناة “جونجلي” عام 1983 بسبب نشوب الحرب الأهلية التي كان من المقرر أن توفر 30 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا. وخلال الفترة من الثالث عشر إلى السادس عشر من سبتمبر 2019 أعلنت مصر عن إرسال شحنتين من المساعدات تشمل الأدوية والملابس والخيام في إطار جهود تنفيذ اتفاق السلام المنشط في جنوب السودان، بالإضافة إلى ثلاث شحنات أخرى. وتهدف هذه المساعدات إلى دعم إنشاء معسكرات تجميع القوات الجنوب سودانية وإعادة تأهيلها للعمل في مؤسسات الدولة بالتنسيق مع الأمم المتحدة.
ودوليًّا، تحظى جنوب السودان بالدعم الأساسي من جانب الولايات المتحدة التي لن تقبل باستمرار الصراع بسبب تأثيره على مصالحها في المنطقة برمتها. كما تُعد الصين أهم الشركاء التجاريين لجنوب السودان. ولذا تَعهد “هوا نيغ” سفير الصين بجوبا بدعم السلام والتنمية في جنوب السودان لترسل الصين في التاسع عشر من سبتمبر 2019 أكثر من 100 فرد للمشاركة في بَعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
ولم تكن الأمم المتحدة بعيدة عن دعم جهود السلام في جنوب السودان، ففي الثامن عشر من سبتمبر 2019 وصف “ديفيد شيرار” الممثل الخاص بالأمين العام للأمم المتحدة في جنوب السودان خلال إحاطته لمجلس الأمن الدولي هذه الخطوة بالإيجابية في ظل استمرار وقف إطلاق النار، وانخفاض مستوى العنف، وتَحسن حالات الأمن الغذائي، حيث عزز اللقاء الثقة بين “كير” و”مشار”. وتم الانتهاء من المشاورات الخاصة بتشكيل الحكومة في الفترة الانتقالية التي من المقرر أن تكون في منتصف نوفمبر المُقبل.
العقبات الأصعب
من بين العديد من العقبات والتحديات الكبرى التي تواجه مستقبل السلام في جنوب السودان، تظهر ثلاث قضايا رئيسية تتمثل في:
1- التقسيم الإداري الجديد وعدد الولايات المقترح
في التاسع من يناير 2019 تم تدشين لجنة لترسيم حدود الولايات في جنوب السودان والتي تعرف باللجنة المستقلة للحدود، والتي تتكون من 15 عضوًا. وتم ترشيح أعضاء اللجنة من قبل أطراف الاتفاق بجانب خمسة خبراء أجانب من دول: جنوب إفريقيا، والجزائر، وتشاد، ونيجيريا، ورواندا، بموجب اتفاق السلام المُنشط. وتتعامل اللجنة مع عددٍ من الخيارات المتاحة بالنسبة لتقسيم الولايات وهي 10 ولايات أو 21 ولاية أو 32 ولاية، ويعد البديل الأخير هو المقترح الذي تقدم به “سلفا كير” ورفضته المعارضة من قبل. وقد استكملت اللجنة عملها خلال 60 يومًا وأعدت تقريرها النهائي مستندة في ترسيم الحدود إلى الاعتبارات السكانية والقبلية، بجانب الاسترشاد بحدود الأول من يناير عام 1956. وتتجه اللجنة لتبني خيار الولايات العشر كي تحظى كل ولاية بجزء كبير من الإمكانيات الاقتصادية والصلاحيات التنفيذية الواسعة.
2- الترتيبات الأمنية وتوحيد القوات الرسمية
يُعتبر ملف الترتيبات الأمنية ذا أهمية قصوى لتنفيذ اتفاق السلام؛ إلا أنه لا يزال يشكل نقطة خلافية رئيسية في ظل تمسك الحكومة بخيار دمج قوات المعارضة في الأجهزة والهياكل الأمنية القائمة، وتمسك المعارضة في المقابل بخيار تأسيس أجهزة أمنية جديدة.
3- أزمة الثقة بين أطراف الصراع
لم يتم استئناف المفاوضات بين “كير” و”مشار” إلا بعد ضغوط خارجية من قبل مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات اقتصادية وتجميد أرصدة طرفي الصراع، واستخدام ملف حقوق الإنسان في المحكمة الجنائية الدولية. وهذا الدور الكبير للعامل الخارجي يعكس استمرار غياب الدوافع لدى الأطراف الرئيسية للصراع للتقدم في مسار السلام، وهو ما يعد نتيجة مباشرة لأزمة ثقة حادة بين الجانبين، من شأنها التأثير سلبًا على كافة الترتيبات القائمة حال تراجع الدفع الدولي في اتجاه السلام في جنوب السودان.
ختامًا، يظل الصراع في جنوب السودان يشكل واحدًا من أعقد الصراعات التي تشهدها القارة الإفريقية في العقد الأخير، والذي ارتبط كل تقدم في حله بتكثيف الضغوط الإقليمية والدولية، الأمر الذي يطرح الكثير من الشكوك حول قدرة التوافق الأخير على الاستدامة في المستقبل.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية