فيما بدا أنه ضوء أخضر أمريكي لتركيا لبدء عملياتها العسكرية في شمال سوريا، بدأ الغزو التركي ليلة التاسع من أكتوبر الجاري. ولم تمضِ سوى أيّام قليلة، حتى بدا الموقف الأمريكي مشتتًا ومرتبكًا، فالتصريحات التي جاءت على لسان “ترامب” ووزيري الدفاع والمالية وأعضاء في الكونجرس من الحزبين،؛ أظهرت اختلافًا في مواقف المؤسسات الأمريكية حيال العملية العسكرية التركية. الخلاف لم يتمحور حول القبول بالغزو التركي أو رفضه كلية، بل دار في جوهره حول الحدود التي ستسمح بها واشنطن لأنقرة للتمدد داخل الأراضي السورية. منذ البداية، وقبل وقوع الغزو التركي، أظهر البيت الأبيض استعداده لقبول حق تركيا في إنشاء المنطقة الآمنة التي تستهدف منع إقامة كيان كردي على حدودها، على أن تقوم تركيا بإعادة جزء من الملايين الأربعة من اللاجئين السوريين في أراضيها إلى هذه المنطقة، ولكن الخلاف دار بين “ترامب” و”أردوغان” على حجم المنطقة الآمنة، فالولايات المتحدة رأت أن تركيا يمكنها أن تؤسس هذه المنطقة في حدود لا تتجاوز 20 كم في عمق الأراضي السورية، فيما كانت تركيا تريد توسيع حجمها بالوصول إلى عمق 40 كم. وفيما كانت واشنطن تطالب بعدم التوسع شرقًا، فإن العمليات العسكرية التركية أظهرت منذ البداية أن تركيا لن تلتزم بهذا الشرط أيضًا. وانعكس سوء التفاهم بين تركيا والولايات المتحدة على مسرح العمليات، فواشنطن لم تكن قد سحبت قواتها المتواجدة في شمال سوريا (قرابة ألف جندي) فيما بدا وكأنه إجراء متعمد لإجبار الجيش التركي على قصر توغله على المساحة التي حددتها واشنطن، لينقلب الحال مساء الأحد الماضي (13 أكتوبر) بعد الإعلان عن قصف تركي طال مواقع القوة الأمريكية، إذ صرح وزير الدفاع الأمريكي “مارك أسبر” بأنه بعد اجتماعه مع الرئيس “ترامب” وإطلاعه على معلومات مؤكدة عن أن الجيش التركي لا ينوي الالتزام بالحدود التي قررتها واشنطن للمنطقة الآمنة، أصدر الرئيس “ترامب” أوامره بسحب هذه القوات بشكل منظم لتفادي وقوع خسائر في صفوفها، محذرًا -في الوقت نفسه- تركيا من التمدد بأكبر مما هو مسموح لها، وإلا واجهت عقوبات اقتصادية قاسية.
في المقابل، كانت الإدانات من جانب أعضاء من الكونجرس من الحزبين لـ”ترامب” تتزايد بحجة أن القيم الأمريكية تتعرض لاختبار حقيقي، حيث تبدو واشنطن وكأنها تخون حلفاءها الأكراد الذين كان لهم دور رئيسي في تقويض دولة “داعش”. كما أن الضربات التركية في مناطق الأكراد السوريين قد تتسبب في إطلاق سجناء “داعش” لديهم، الذين يُقدر عددهم بأكثر من 12 ألف سجين، وهو ما قد يعيد المنطقة مجددًا إلى حالة عدم الاستقرار التي عاشتها منذ عام 2016، أثناء اجتياح “داعش” لمدن عراقية وسورية وبعد إقامة دولتهم التي لم تستمر سوى عامين.
وردًّا على اعتراضات أعضاء الكونجرس الذين يطالبون بفرض عقوبات على تركيا فورًا، قال وزير الخزانة الأمريكية “ستيفن مينوشن”، يجب أن يكون واضحًا أن حماية قوات الأكراد في شمال سوريا ليست من ضمن واجبات الولايات المتحدة، ولكن الرئيس “ترامب” طلب أن نكون على استعداد لفرض عقوبات على تركيا إذا استلزم الأمر، ونحن قادرون على ذلك وجاهزون لتطبيق مثل هذه العقوبات على الفور.
وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” بدا أكثر ارتباكًا، حيث أكد أن الولايات المتحدة لم تمنح الضوء الأخضر لأردوغان لغزو سوريا. وقال المسئول الصحفي في مكتب الناطق الرسمي بوزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن “آرون م. تيستا”، في تصريح لموقع “الْيَوْم” اللندني (11 أكتوبر): الهجوم التركي وصفه الرئيس ترامب بأنه “فكرة سيئة”، وقال: “إنه لا يؤيده”، وأضاف: إنه يتوقع من تركيا حماية المدنيين والأقليات الدينية، ومنع حدوث أزمة إنسانية.
حدود الارتباك الأمريكي
لا تمتلك الولايات المتحدة رفاهية الإبقاء على تشتت إدارتها طويلًا، فالتطورات على أرض الواقع ستفرض عليها حسم موقفها بأسرع وقت من أكثر من ناحية، فهناك أولًا احتمالات وقوع أزمة إنسانية كبيرة في شمال سوريا، وهو ما أكدته مبكرًا تقارير الأمم المتحدة، حيث حذّر المتحدث باسم المفوضية العليا لشئون اللاجئين “أندريه ماهسيتش” (12 أكتوبر) قائلًا: من الصعب ضمان سلامة المدنيين في منطقة ينشئها مخططون عسكريون أتراك شمال سوريا. وهناك ثانيًا مبادرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي طلبت من روسيا ونظام الأسد تسلم المسئولية عن القرى والمدن الحدودية التي تتقدم نحوها قوات الجيش التركي. وثمة اعتقاد بأن هذا المتغير لو ثبت على أرض الواقع، فسيرتب تبعات سيئة للموقف الأمريكي إذا ما قرر “أردوغان” أن يتفاوض مع “بوتين” و”الأسد” حول حدود المنطقة الآمنة أو حول سياسات تضمن له عدم إقامة كيان كردي على الحدود التركية، والتعاون في إعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى ديارهم؛ إذ سيعني ذلك إخراج واشنطن من ترتيبات الأزمة السورية وتركها لروسيا وحدها، مما يضع تساؤلات صعبة أمام “ترامب” حول مدى نجاح سياساته الخارجية، وهو مقبل على محاولات لعزله من منصبه، أو محاولات بديلة لمنعه من الحصول على ولاية ثانية في حال نجاته من العزل.
ربما يراهن “ترامب” في هذه المرحلة من الحرب التركية على الأكراد على نشوب نزاع بين تركيا وكل من روسيا وإيران، يؤدي عمليًّا إلى عودة تركيا عن المسار الذي اتّخذته في الفترة الماضية، والذي أوصل العلاقات الأمريكية-التركية إلى حافة الخطر بسبب إقدام “أردوغان” على عقد صفقة شراء منظومة الصواريخ S-400 مع روسيا، وتقوية علاقاته التجارية مع إيران رغم خلافها الحاد مع واشنطن. لكنّ مثل هذا الرهان يبقى احتمالًا ضعيفًا في ظل يقين “أردوغان” بأن تحقيق أطماعه في أن تكون تركيا هي القوة العظمى الإقليمية الأولى في المنطقة، لن يكون مقبولًا، لا من واشنطن ولا من جانب أهم حلفائها وهي إسرائيل وبعض الدول العربية، ومن ثم لن يكون أمام “ترامب” سوى الوفاء بوعده بفرض عقوبات على تركيا تزيد من أزمتها الاقتصادية التي تعيشها منذ عامين على الأقل، ويزيد معها تباعد أنقرة عن التحالف الغربي. وفِي هذا الصدد، وفِي ظل تواتر أنباء عن دعوة “ترامب” لـ”أردوغان” للقائه في البيت الأبيض في منتصف نوفمبر القادم، فإن “ترامب” يبدو كما لو كان يمنح “أردوغان” مهلةً محدودةً للمضيّ في حملته العسكرية، وتحقيق أهدافه منها خلال شهر واحد فقط، وإذا ما فشل في ذلك فلا ينبغي له (أردوغان) لوم واشنطن، بل لوم من راهن عليهم كبديل أو موازن لأمريكا (روسيا وإيران)!
في كلّ الأحوال، لا يبدو أن تركيا قادرة على السير بثقة في حملتها العسكرية في ظل البطء الشديد في تقدمها داخل الأراضي السورية، حيث يفسر البعض هذا البطء بأهداف أبعد لتركيا كما يقول المحلل العسكري “متين غوركان” على موقع “تويتر” في 11 أكتوبر: يبدو أن القوات التركية تتحرك ببطء أكبر بكثير منذ بداية العملية مقارنةً بالتوغلات السابقة في سوريا (مثل “عملية غصن الزيتون” في يناير 2018). ويعود سبب ذلك على الأرجح إلى أن أنقرة تأمل في تقويض “وحدات حماية الشعب” من خلال وجودها العسكري المستمر، وهي المرحلة الأخيرة في حملتها الأوسع ضد “حزب العمال الكردستاني”. وخلال السنوات القليلة الماضية، تخلّصت قوات الأمن التركية من جزءٍ كبير من تواجد الحزب داخل أراضيها، ونجحت في استهداف أهم قادته في جبال قنديل بالعراق. ومن وجهة نظرها، فإن ذلك يترك الفروع السورية للجماعة كالهدف المنطقي التالي. ولكن بافتراض صحة هذا التحليل، فإن بطء توغل الجيش التركي سيكون على حساب المهلة المحدودة التي منحها “ترامب” لـ”أردوغان” لتحقيق أهدافه من دون إحراج واشنطن. ومن ثم، وفي ظل تعقد الحسابات المذكورة آنفًا، قد يتسبب “أردوغان” في أن تجد إدارة “ترامب” نفسها محاصرة بين ضغوط الداخل، وضغوط الرأي العام العالمي في الخارج، خاصة إذا ما وقعت أعداد كبيرة من الضحايا أو تدفقت أعداد كبيرة من الهاربين من مناطق القتال إلى ملاجئ غير آمنة، وهو ما قد يُعجّل بدخولها في صدام أوسع مع تركيا قبل زيارة “أردوغان” المرتقبة لواشنطن.