هل المقصود فعلياً، صناعة منطقة ما على الأراضى السورية، تظل أكثر أمناً من غيرها من المناطق، من حيث التهديد المسلح والنشاط الإرهابى لأرواح المواطنين واستقرار ممتلكاتهم وأراضيهم؟. الحقيقة أنه قبل الإجابة عن هذا التساؤل، سيكون السؤال المقابل المنطقى، يدور حول من هو صانع تلك المنطقة، وهو سيفتح الباب لمجموعة ملحقة به، ستستفهم عن موقعها ومساحتها وخصائصها، فضلاً عن نمط السيادة عليها فى حال أخرج المشهد قطعة من الأرض، يقطن عليها بشر، ولها ارتباط أكيد بما يحيطها من جوار سكانى وجغرافى.
هذه الحزمة؛ عندما تكون افتتاحية الحديث بشأنها هى «تركيا»، على المرء السورى والعربى والدولى أن يتحسس رأسه، وقبلاً يفتش فى «بنك الأطماع» المعلنة من جانب النظام التركى الحالى صانع الأزمة، وصاحب «المصطلح» منذ الشهور الأولى للأزمة السورية. على مرمى البصر من تلك المنطقة، يقبع «لواء الإسكندرونة» المقتطع من الجسد السورى والملحق بالجانب التركى، منذ العام 1939 رغم أنه يمثل المحافظة الخامسة عشرة للدولة السورية. لهذا نحن لسنا أمام منتج مستحدث جراء الأزمة الحالية، بل أمام «فكرة» من مخلفات العهد الاستعمارى وملونة اليوم بصبغة مفهوم «العثمانية الجديدة» الأردوغانى. إن كان هذا المخطط ظل حاضراً منذ بداية الأزمة، لكن تعثر تحقيقه جاء بسبب تبدلات كثيرة وعنيفة فى معادلات القوة والتحالفات على الأرض السورية. يعود اليوم ليطل تحت قناع «اتفاق» جرى تمريره مع الولايات المتحدة، والجملة فى حقيقتها غير صحيحة على مستوى تكوينها. فالواقع أن الاتفاق كان مع البيت الأبيض وحده، باعتبار القرار الأمريكى بسحب القوات العسكرية من «شرق الفرات» وما رافقه من غموض استراتيجى، أثار ضيق المسئولين فى الإدارة وفى الكونجرس، بل وأطلق انتقادات حادة ضده حتى من داخل صفوف الحزب الجمهورى. فالسيناتور «ماركو روبيو» وصف الانسحاب الأمريكى من سوريا، باعتباره «خطأ فادحاً تتجاوز تداعياته المعركة ضد داعش». وعده زميله الجمهورى «ليندسى جراهام» أنه سيكون انتصاراً كبيراً لتنظيم داعش، وإيران ونظام الأسد وروسيا، بل «سيؤدى إلى عواقب مدمرة على أمتنا والمنطقة والعالم بأسره» بحسب قوله. هذا عن داخل حزب الرئيس، وذهب من هم خارجه إلى أبعد من ذلك بكثير!
أهم أشكال الوجود العسكرى الأمريكى، الذى أمر «دونالد ترامب» بسحبها ومثلت فتحاً للطريق التركى كى يمضى إلى أطماعه، كانت مراكز المراقبة الأمريكية على طول الحدود، التى ظلت تفصل المنطقة التى يسيطر عليها الأكراد السوريون مع تركيا، بغرض تجنب أى احتكاكات بين الطرفين، ولطمأنة الجانب التركى إلى عدم حدوث أى اختراق لحدوده، كى يتفرغ كلاهما (الأمريكى والكردى) لتقويض سيطرة «داعش»، التى وصلت لحد الاستحواذ على «ثلاث محافظات سورية»، وهذا ما جرى فعلياً طوال سنوات مضت. فتقويض السيطرة تلك جرى بنجاح إلى حد كبير، والحدود التركية لم تستخدم فى تشكيل أى تهديد حقيقى على تركيا. وظل الوجود الأمريكى بفاعليته تارة وبرمزيته فى معظم الوقت، تحت مظلة ثلاثية الأهداف والأركان، هى هزيمة «داعش» واحتواء إيران، والوصول لتسوية سياسية نهائية بموجب القرار الأممى رقم 2245. لكن اليوم الأمر وفق نتائجه؛ ربما يبدو بعيداً بصورة كبيرة عن تلك المظلة، حتى بدا وكأن الحصاد يقف عارياً فى صحراء البادية خالى الوفاض، أو هكذا يبدو على الأقل فيما يخص «شرق الفرات».
الواقفون أيضاً، فى موضع العراء أو التعرى أيهما أقرب أو كلاهما معاً إن صح التعبير، هى العواصم الأوروبية الرئيسية برلين وباريس ولندن. فالمؤكد أن تلك العواصم لم يجر التشاور معهم أبداً، فيما يخص التخلى الأمريكى أو تحقيق التوازن الاستراتيجى مع الوجود الروسى الإيرانى، الذى لا يقف بالمناسبة عند حد الوجود على الأراضى السورية. فهذا هو هدف وجودهم وشراكتهم الافتراضية فى الأمر، حتى وإن كانت الحرب على الإرهاب هى من أولوياتهم أيضاً، خاصة مع تقديراتهم التى تؤكد كل يوم أن «داعش» لم يمح من الخريطة ولم تجتث جذوره بعد. وما هو حاضر لديهم جميعاً يتصل بمستقبل حضورهم العسكرى فى الشمال السورى، بعد الانسحاب الأمريكى. فالرئيس «مانويل ماكرون» بعد أن عبر عن أسفه للقرار الأمريكى، أعرب عن ملامح الأزمة التى يواجهونها بعد انكشاف التحرك التركى وتبعاته، من أنه: «لا يجوز ترك قوات سوريا الديمقراطية لمصيرها، كما لا يجوز التخلى عن الحلفاء فى منتصف الطريق». لكن تبقى صلب الأزمة الأوروبية، أن عواصمها لا تملك إجابة أو رؤية، لما تحتاجه تلك المنطقة -الشرق الأوسط- من ترتيبات تخص تلك العواصم، وتحقق الحد الأدنى من تأمين مصالحها والحفاظ على الشراكات التى توصف بـ«الاستراتيجية».
روسيا طرف مستفيد بشكل كبير مما يجرى الإعداد له، ففى النهاية تراجع الوجود الأمريكى فى سورية، وملء الفراغ الذى سيخلفه الانسحاب الأمريكى، هو هدفها من البداية. وهى بدت وكأنها كانت بانتظار موعد العملية التركية، لتتمكن من بسط سيطرة حليفها النظام السورى على مدن دير الزور والرقة، كما أكدت إشارات ميدانية ظاهرة أن روسيا هى التى دفعت أنقرة إلى تخفيف حدة التوتر على الأرض، وقيدت كثيراً من ارتكابها مذابح وعمليات تهجير كانت فى صلب خطة العمل العسكرى التركى. كى تتقدم لاحقاً لإنجاز «الدستور السورى»، وفق ما نص عليه وحظى بالتوافق عليه فى أستانا التى تجمع كلاً من روسيا وتركيا وإيران.
تبقى إيران صاحبة الموقف المعقد والأطماع المتشابكة، فهى حليف كامل لدمشق وما يسرى على الأخير تدفع هى ثمنه للنهاية. لكنها فى الوقت ذاته لا تستطيع تحمل تبعات الأضرار الجسيمة التى قد تلحق بالأكراد، هذا الارتباك الإيرانى نتيجة خشيتها من أكراد إيران، جعلت ردة فعلها مشوشة للغاية. خاصة أن لديها حافزاً آخر مهماً جداً وهو الحفاظ على مستوى الصداقة التركية فى هذه الفترة، فى ظل التوتر الشديد مع الولايات المتحدة، وفى ظل بنك أهداف لم تُفتح خزائنه بعد.
*نقلا عن صحيفة الوطن، نشر بتاريخ ٢٣ أكتوبر ٢٠١٩.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية