أثارت إقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعدد من القادة البارزين في الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية بالجزائر في الأول من أغسطس (2018) حالة من الجدل خاصة في ظل اقتراب الانتخابات الرئاسية الجزائرية والتي يسعى الرئيس بوتفليقة إلى تمديد فترة حكمه لولاية خامسة.
وتأتى تلك الإقالات ضمن سلسلة إقالات وإنهاء المهام والتغييرات التي شرع فيها الرئيس الجزائري منذ عام 2015 حينما أقال الفريق محمد مدين المعروف باسم الجنرال توفيق في سبتمبر 2015 وإقالة مدير الأمن الوطني بالجزائر اللواء عبد الغاني عامل في شهر يونيو (2018) وتلاها إقالة قائد الدرك الوطني في الرابع من يوليو لعام 2018 في ظل تفسيرات متعددة تجاه تلك الخطوات تمثلت غالبيتها في الربط بين تلك الإجراءات والانتخابات الرئاسية المقبلة.
تحول العلاقة بين بوتفليقة و الجيش:
يعد الجيش الجزائري المؤسسة الأقوى والأكثر تنظيماً واستقراراً وهو الحارس الأول للسلطة الوطنية ويعزى ذلك للدور الذي لعبه في حرب الاستقلال عام 1954 ضد الاستعمار الفرنسي إلى جانب النجاح الملحوظ للجيش الجزائري في مواجهة الإرهاب خلال تسعينيات القرن الماضي، الأمر الذي منحه موقعاَ رئيسياً في المسعى اللاحق للسيطرة على السلطة عبر عدد من القادة آخرهم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة.
وبالرغم من تلك الأهمية البالغة والدور الذي يلعبه الجيش في الواقع الجزائري والعلاقة التي تجمعه بالرئيس عبدالعزيز بوتفليقة فقد حدث تحولاً في طبيعة العلاقة بين الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وبين المؤسسات الأمنية على رأسها الجيش الجزائري والتي بدأت في عام 2015 بهدف تحقيق الإصلاح الأمني وإبعاد الجيش عن العملية السياسية خاصة في ظل ما ينتاب المشهد السياسي الجزائري من غموض خاصة مع مرض بوتفليقة الأمر الذى خلق حالة من التنافس بين الأجنحة المدنية والأمنية الحاكمة في الجزائر في ظل تفاقم بعض الأزمات الداخلية الأخرى منها الأزمات المالية التي تشهدها الجزائر عقب انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية وتراجع قيمة العملة الوطنية الأمر الذي جعل الكثيرون يتوقعون دخول الجزائر في موجة ثانية من ثورات الربيع العربي عقب تجنبها للموجة الأولى التي اندلعت عام 2011 وطالت العديد من الدول العربية.
ولم تكن خطوة إقالة عدد من القادة العسكريين خلال شهر أغسطس 2018 بداية التوتر بين الجيش الوطني وبين بوتفليقة ولكن التوتر قائم منذ أن أدخل الرئيس تغييرات على المؤسسة العسكرية وفرعها الاستخباري. فمنذ بداية عام 2016 كانت دائرة الاستعلام والأمن مسؤولة عن إدارة وتنظيم السلطة السياسية والمالية بالجزائر وتعد جهاز المخابرات الجزائري الذي لعب دوراً في مواجهة الإرهاب وأضحت أكثر استقلالية ولكن قام الرئيس بوتفليقة بإدخال تغييرات على المؤسسة وفرعها الاستخباري وتقليص نفوذها السياسي خلال عام 2014 و2015، ثم قام بحل مديرية الأمن والاستعلام بموجب مرسوم في يناير 2016 وشكل دائرة الشؤون الأمنية بديلاً لها وتتبع مباشرة سلطة الرئيس وترفع هذه الدائرة تقاريرها إليه وليس إلى الجيش مثلما كان الحال من قبل.
دوافع الإقالة:
ثمة عدد من الدوافع وراء إقالة عدد من القادة العسكريين خلال وقت قصير ومتقارب وتتمثل تلك الدوافع في الآتي:
- محاولة بوتفليقة تصدير صورة للرأي العام والمعارضة بقدرته على اتخاذ القرارات وممارسة الصلاحيات التي منحها له الدستور حتى لو كان ذلك على حساب علاقته بالرموز العسكرية بالجيش الجزائري، وتحقيق ما تطمح إليه المعارضة وهو الانتقال نحو الدولة المدنية، كما تشير تلك الإقالات إلى تسارع وتيرة الإصلاح الأمني التي بدأت منذ عام 2015 لتحويل الجيش المنخرط في السياسة إلى هيئة أكثر مهنية.
- تعد التغيرات الأخيرة التي طرأت على مستوى القيادات في الجيش الوطني الشعبي الجزائري آلية نحو تكريس التداول على الوظائف والمناصب وذلك اعتماداً على مقاييس الجدارة والاستحقاق.
- الإطاحة بالقادة العسكريين ممن لهم نفوذ داخل المجتمع وإبعادهم عن الساحة خاصة في ظل تنامي أدوارهم داخل الدولة وتعزيز مكانتهم الأمر الذي بات يُشكل تهديداً في تفرد بوتفليقة في تحقيق الفوز بولاية خامسة في سباق الانتخابات الرئاسية وذلك عقب تردد أخبار حول اعتزام عبدالغني هامل للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة 2019
- ربما تعود بعد الإقالات إلى قضية تهريب المخدرات والتي تعد أحد العوامل المباشرة التي يُعزى لها إقالة الجنرال عبد الغني هامل مدير الأمن الوطني حيث يرى البعض أن هناك علاقة بين إقالة قائد الأمن الوطني وقائد الناحية العسكرية الأولى والثانية وبين قضية تهريب الكوكايين في ميناء وهران خلال شهر مايو (2009) خاصة بعد ضبط السائق الخاص لهامل ضمن المهربين لتلك الشحنة.
- تغيير القيادات العسكرية النافذة التي لها ارتباطات سياسية قد يأتي ضمن ترتيب البيت السياسي، استعدادا لأي متغير قد يحدث على صعيد الحكم في الجزائر خاصة في ظل التوترات التي تحدث في الجزائر خلال الفترة الحالية.
- رغبة بوتفليقة في استقطاب الرأي العام خاصة عقب حالة الاستياء لدى الجزائريين عقب الهجوم الإرهابي الذي استهدف القطاع العسكري بسكيكدة التابع للناحية العسكرية الخامسة بجبل بيسة في 30 يوليو 2018 وأودى بحياة 20 جندياً.
مسارات العلاقة بين الرئيس و الجيش
بالنظر إلى مستجدات العلاقة بين الجانبين يمكن وضع السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول “الاستمرارية و البقاء”: ينطلق هذا السيناريو من فرضية رئيسية مفادها أن الوضع السياسي في الجزائر يستمر كما هو عليه مع تنفيذ الإجراءات الإصلاحية في المؤسسة الأمنية، مع ترشح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة وما يعزز ذلك السيناريو هو دعوة الحزب الحاكم حزب جبهة التحرير الوطني) وحزب التجمع الوطني الديمقراطي بقيادة أحمد أويحيى رئيس الوزراء للترشح للفترة الخامسة والتأكيد على تقديم الدعم الكامل ، فضلاً عن الإنجازات التي حققها الرئيس الجزائري الحالي خلال حربه على الإرهاب والإصلاحات المؤسسية في المجالات المختلفة وقدرة النظام الحالي على بناء قوة من الاحتياط النقدي الأجنبي حالت دون سقوط النظام الاقتصادي أو تأثره بالتغييرات المحيطة على المستوى الإقليمي أو الدولي. كما أنه بالنظر إلى خارطة الأحزاب والقوى المعارضة الأخرى لا يوجد بها منافس حقيقي يستطيع خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى جانب رفض الجيش لعب دور الضامن للمبادرة التي أطلقتها حركة مجتمع السلم) – أكبر حزب إسلامي في الجزائر – والخاصة بوضع آليات للتوافق الوطني لإخراج البلاد من الأزمات التي تمر بها والانتقال الديمقراطي في البلاد، مع استمرارية التوجه لإفساح الجيش عن الدائرة السياسية عبر مزيد من الإقالات في صفوف القادة الأكثر هيمنة على الساحة السياسية.
السيناريوالثاني ” الصفقة“: من الممكن أن يحدث اتفاقاً داخلياً بين القوى المدنية المختلفة حيث يتم بمقتضاها دعم استمرار بوتفليقة لولاية خامسة وفي حال غيابه يتم تفعيل المادة 102 من الدستور والتي تنص على ” إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن يجتمع المجلس الدستوري وجوباً وبعد أن يتثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع”.
ولعل المبادرة التي أطلقتها حركة مجتمع السلم وتصريح رئيس حزب (الجيل الجديد) ، أحد أبرز معارضي الولاية الخامسة المرجحة الذي قال إنه «ليس هناك من شك بأن بوتفليقة يريد إنهاء أيامه في السلطة» ، إلى جانب ما أعلنه رئيس تجمع أمل الجزائر، عمار غول عن دعمه التام والمطلق للرئيس بوتفليقة، في عهدة رئاسية خامسة، في حال أعلن عن رغبته في الاستمرارية،
يدلل على أن هناك قبولاً عاماً لدى عدد من القوى المعارضة للولاية الخامسة لبوتفليقة وتهيئة للرأي العام لذلك، مع إلزام الجيش بمهامه الدستورية وعدم تدخله ي توجيه العملية الانتخابية أو صناعة السلوك السياسي للنظام القائم.
السيناريو الثالث ” ثورة الكرنفال”: هذا السيناريو يمكن أن يتضمن احتمالين الأولي تتمثل في قيام ثورة شعبية تجتاح الجزائر كأحد الموجات الثانية لثورات الربيع العربي خاصة في ظل تفاقم بعض الأوضاع الاقتصادية الداخلية عقب تغييرات أسعار النفط العالمية الأمر الذي أثر بشكل كبير على الاقتصاد الوطني الجزائري علاوة على تأجج الأزمات الداخلية خاصة الحراك الاجتماعي الذي يشهده الجنوب والسياسي مع تنامي المطالب الأمازيغية وتداعيات قضايا الفساد في محيط الرئيس. ولكن هذا الاحتمال ضعيف وذلك إذا بالنظر إلى أنه في انتخابات عام 2014 لم يظهر بوتفليقة علناً ومع ذلك تمّ انتخابه بنسبة عالية جدا بلغت 81.5 في المائة من الأصوات وهو ما يؤكد أن الرئيس الجزائري يتمتع بحضور لدى أذهان الرأي العام يرتبط بنجاحه في مواجهة الإرهاب في التسعينيات إلى جانب إنجازات الدولة الأخرى على الأصعدة المختلفة.
أما الاحتمال الآخر فيتمثل في حدوث انقلاب عسكري على الرئيس بوتفليقة خاصة في ظل اشتداد المرض على الرئيس بعد إصابته جلطة دماغية أفقدته القدرة على الحركة ومخاطبة شعبه إلى جانب تزايد تدخل دائرة الرئيس في العملية السياسية خاصة سعيد بوتفليقة الشقيق الأصغر للرئيس عبد العزيز ورجل الظل في القصر الرئاسي، بالإضافة إلى أن الإقالات المختلفة التي يشهدها الصف الثاني من قيادات القوات المسلحة الجزائرية سيؤجج الخلاف بين المؤسسة العسكرية وبين دائرة الرئيس بوتفليقة.
وبشكل عام فإن تكلفة الاحتمالين ستكون خسائر اقتصادية فضلاً عن حدوث تصدع داخل النسيج الوطني الجزائري وتصاعد الحركات الانفصالية خاصة الأمازيغية المطالبة بالاستقلال إلى جانب تصاعد حدة الضغوطات الأمنية داخلياً وخارجياً، فضلاً عن كونها فرصة تتيح لتيار الإسلام السياسي بالصعود وتصدر المشهد السياسي وهو أمر سيخلف حالة خلاف بين تلك التيارات الدينية وبين المؤسسة العسكرية.