في فبراير 2019، نشرت وكالة AleaSoft تقريرًا يوضح التأثير المباشر لزيادة أسعار الوقود الأحفوري بمختلف أنواعه على أسعار الكهرباء في السوق الأوروبية وبقية دول العالم. وركز التقرير على تحليل سلوك سوق الكهرباء الأوروبية منذ بداية عام 2019، ومحاولة تقديم نظرة مستقبلية لهذه السوق بنهاية العام. كما تضمن بعض الحقائق والبيانات الرقمية التي ربطت بين أسعار الوقود الأحفوري وأسعار الطاقة. وبرر التقرير، وتقارير أخرى عدة، زيادة أسعار الكهرباء بوصول سعر برميل النفط لأرقام تتراوح ما بين 60-63 دولارًا.
أما عن الغاز فقد تذبذبت أسعاره على مدار عام 2018 لتصعد إلى أعلى مستوياتها إلى 3.3 سنتات للكيلو وات/ ساعة في سبتمبر من العام نفسه. الأمر ذاته بالنسبة للفحم الذي كان من المتوقع نزول أسعاره عن حاجز 77 دولارًا للطن في 2018، لكنه صعد بصورة غير متوقعة ليصل في أكتوبر إلى أسعار تعدت حاجز 100 دولار للطن الواحد، قبل أن يستقر عند بداية عام 2019 عند سعر 84.8 دولارًا للطن. وقد أدى ذلك بالتبعية إلى زيادةٍ واضحةٍ في أسعار الكهرباء في الأسواق الأوروبية الأساسية في يناير 2019 مقارنة بشهر يناير 2018. ففي سوق MIBEL بإسبانيا والبرتغال تعدت الزيادة 20%، وهي نفس نسبة الزيادة تقريبًا في سوق N2EX بالمملكة المتحدة. لكنها زادت بقيم أكبر في بقية الأسواق الأوروبية؛ فوصلت الزيادة السعرية في سوق IPEX الإيطالية إلى 38%، وفي سوق EPEX SPOT الهولندية إلى 50%. أما في ألمانيا وبلجيكا فقد وصل الارتفاع إلى 65%. وكانت السوق الفرنسية هي الأكثر تضررًا لأسباب متعددة من أهمها الظروف السياسية والاقتصادية الأخيرة على خلفية احتجاجات السترات الصفر فتعدت الزيادة السعرية نسبة 75%. ويوضح الشكل رقم (1) فروق الزيادة السعرية للأسواق الأوروبية بين عامي 2018 و2019.
شكل رقم (1)فروق الزيادة السعرية للأسواق الأوروبية بين عامي 2018 و2019 (نسبة مئوية)

تلك المؤشرات وغيرها دفعت العديد من المؤسسات للمطالبة بالتحول إلى الطاقة المتجددة عوضًا عن الوقود الأحفوري. ذلك أن التصاعد المطّرد في أسعار الوقود، تزامن مع انخفاض تكلفة العديد من مصادر الطاقة المتجددة المختلفة، وذلك بسبب تحسن التكنولوجيا المستخدمة، خاصة في حالة طاقة الرياح. ويمكن القول إجمالًا إن الطاقة المتجددة تُعد الآن أرخص البدائل، في المتوسط، للحصول على طاقة كهربائية جديدة في جميع أنحاء العالم. وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) أن العالم سيحتاج إلى مضاعفة مصادر الطاقة المتجددة على مستوى مختلف القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية بحلول عام 2030، حتى نستطيع استبقاء الاحتباس الحراري أقل من درجتين مئويتين، الأمر الذي يتطلب تدخلًا من الحكومات بالاستثمار المباشر في برامج الطاقة المتجددة.
ومن المتوقع أن يستغرق تحويل إمدادات الطاقة في العالم لأخرى متجددة عقودًا طويلة، وإن كان التحول قد بدأ بالفعل مع استمرار أسعار الطاقة المتجددة في الانخفاض. على سبيل المثال، شهدت أسعار طاقة الرياح انخفاضًا ضخمًا وصل إلى 22 مرة أقل منذ عام 1980 عندما كان سعر الكيلو وات/ ساعة 55 سنتًا، ليصل إلى 2 سنت ونصف فقط، وهو ما يجعل طاقة الرياح هي الأرخص على الإطلاق عالميًّا بعد حساب تكلفة السعر الأولي وتكلفة التشغيل، وهو ما ترتب عليه مضاعفة كمية الكهرباء المنتجة منها إلى أكثر من 10 مرات منذ بداية الألفية الجديدة. ويوضح الشكل رقم (2) تطور أسعار طاقة الرياح مع التقدم التكنولوجي خلال الفترة (1980-2013).
شكل رقم (2)
انخفاض أسعار طاقة الرياح مع التقدم التكنولوجي خلال الفترة (1980-2013) (سنت/ كيلو وات ساعة)

وفيما يتعلق بالطاقة الشمسية، ورغم هبوط أسعارها بصورة ضخمة تصل إلى 150 مرة منذ عام 1977، إلا أنها لا تزال أغلى من طاقة الرياح، حيث يبلغ متوسط تكلفة الوحدة حوالي 0.5 دولار لكل كيلو وات ساعة. وإن كان هذا الرقم معرضًا للنزول أكثر في المستقبل، خاصة بعدما كان يصل إلى 77 دولارًا في بداية تطبيق هذه التقنية، وهو ما كان يعطي الأفضلية الأكبر لطاقة الرياح دومًا، إذ كانت الكهرباء المنتجة من الطاقة الشمسية لا تتجاوز عُشر تلك المنتجة من طاقة الرياح، قبل أن يتبدل الوضع في القرن الحالي لتصل إلى نصفها خلال فترة قصيرة. وفي المجمل، كان نمو الطاقة الشمسية والرياح مذهلًا، حيث تخطى توقعات وكالة الطاقة الدولية (IEA) ووزارة الطاقة الأمريكية والوكالات الأخرى المهتمة بالبيئة والطاقة، والذين توقعوا في العقد الفائت أن تتقلص القدرة الكهربائية الإجمالية لهما في دول عدة، أو أن تستقر في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا، وهو ما أثبت الواقع عكسه تمامًا لاحقًا، إذ أغفلت تقاريرهم البحوث العلمية الهندسية الحديثة، والتي ساهمت في تطوير التقنيتين جذريًّا، خاصة تلك المتعلقة ببطاريات أيونات الليثيوم، حيث نتج عن تلك الأبحاث تقليص في أسعار تلك البطاريات إلى العشر خلال الفترة (1990-2005). ويوضح الشكل رقم (3) أسعار الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية دون دعم (دولار لكل 1000 كيلو وات ساعة).
شكل رقم (3)أسعار الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية دون دعم (دولار لكل 1000 كيلو وات ساعة)*

* يرجع التباين في السعر إلى اختلاف حجم المحطة، حيث تستطيع المحطات الكبيرة إنتاج الوحدة بتكلفة أقل من الوحدات الأصغر. * يرجع التباين في السعر إلى اختلاف حجم المحطة، حيث تستطيع المحطات الكبيرة إنتاج الوحدة بتكلفة أقل من الوحدات الأصغر.
أعلنت العديد من دول العالم خططها للاعتماد على الطاقة المتجددة، ومن بينها مصر التي تخطط للوصول بنسبة الكهرباء المولدة عن طريق المصادر النظيفة إلى 20% بحلول عام 2022. ومن بين أهم المشروعات المصرية في هذا الإطار محطة “عيون موسى” لتوليد الطاقة الكهرومائية بسيناء بطاقة 2640 ميجا وات، ومحطة “جبل الزيت” لطاقة الرياح الأكبر عالميًّا على الإطلاق بمحافظة البحر الأحمر بطاقة 580 ميجا وات، ومحطة “بنبان” الأكبر من نوعها أيضًا للطاقة الشمسية بطاقة تتراوح بين 1.6 إلى 2 جيجا وات.
وفي السياق ذاته، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة عن استراتيجية ترمي إلى تقليص استخدام الكربون بنسبة 70٪ في قطاع توليد الكهرباء بحلول عام 2050. وتستهدف هذه الاستراتيجية إنتاج 44٪ من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة، و6٪ من الطاقة النووية، و38٪ من الغاز الطبيعي، و12٪ من الطاقة الأحفورية، وذلك بحلول عام 2050. وقد ترافقت تلك السياسة مع بدء حكومة الإمارات في إلغاء دعم الوقود والمياه، مما نتج عنه ارتفاع أسعار الكهرباء ومضاعفة أسعار المياه ثلاث مرات.
وفي المملكة العربية السعودية، ورغم أنها من أكثر الدول إنتاجًا واعتمادًا على النفط، إلا أن ذلك لم يمنعها من الدخول في هذا السباق نحو التحول للطاقة الخضراء. في هذا الإطار، تم الإعلان عن فوز شركتي “مصدر” و”EDF” بمناقصة لبناء مزرعة للرياح بطاقة 400 ميجاوات في المملكة لتوفير الطاقة، بتكلفة 2.13 سنت لكل كيلو وات في الساعة. وسيكون هذا المشروع، الذي تبلغ تكلفته 500 مليون دولار، أول مزرعة رياح في المملكة. ويساهم المشروع في تنفيذ خطط الحكومة لتوليد 9.5 جيجا وات من الطاقة المتجددة بحلول عام 2023 في إطار برنامجها الجديد للطاقة المتجددة المحلية.
أما عن الدول الكبرى، فقد أعلنت الصين أنها تخطط لاستثمار 360 مليار دولار في مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2034، وتوقفت عن البناء أو التخطيط لأكثر من 100 مصنع للفحم. وهذه الخطوة لا يمكن تفسيرها استنادًا إلى اعتبارات حماية البيئة فقط، وإنما يمكن القول إنها تستند إلى اعتبارات اقتصادية بالدرجة الأولى، وتتعدى مشكلة الأسعار لما هو أبعد من ذلك. فوفقًا لبحث نشرته الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، هناك 9.5 ملايين شخص يعملون في مصادر الطاقة المتجددة في جميع أنحاء العالم في عام 2017، وهو ما يعني زيادة مقدارها 1.4 مليون عن عام 2015، منهم 400 ألف شخص في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، مقابل 85 ألف شخص فقط يعملون في صناعة الفحم في نفس البلد. وهو ما يوضح الزيادة المطردة في اتجاه الدول المتقدمة إلى الاعتماد على الطاقة المتجددة في السنوات الأخيرة.
***
التحول إلى الطاقة المتجددة بديلًا عن الطاقة الأحفورية لم يعد ضربًا من الرفاهية البيئية، كما كان عليه الحال لعقود طويلة. بل أصبح من الواضح أن مصادر الطاقة المتجددة هي المستقبل، ليس فقط كونها تُعد الأرخص، لكنها أيضًا تخلق عددًا أكبر من الوظائف. الواقع الحالي يشهد تنافسًا بين الحكومات والمؤسسات على الاستثمار في تحديث التقنيات المتعلقة بقطاع التكنولوجيا الخضراء، إذ إن المتوقع منها أن تقدم حلولًا أكثر فاعلية وفائدة في مجالات كانت شديدة الاستنزاف للطاقة، كتحلية مياه البحر، ومعالجة الصرف الصحي، والزراعة، والتدفئة، وغيرها. المشكلة في الطاقة الأحفورية لا تنحصر في كونها غالية السعر، بل أصبح خطر نفادها هاجسًا يطارد العديد من الدول المعتمدة عليها بصورة جذرية دون استراتيجية واضحة للتحول. وفي المقابل، فإن صفة الاستدامة التي تميز الطاقة المتجددة تحفز على المزيد من الحماسة في دعمها.