تحتل قضية الأمن البحري مكانة متقدمة على جدول أعمال العديد من الدول والمنظمات الدولية والجهات الفاعلة. والنقاشُ حول الأمن البحري ليس جديدًا، لكن تصاعد تهديدات الأمن البحري في مناطق مختلفة من العالم مؤخرًا زاد من الاهتمام العالمي بالقضية.
وخلال السنوات الأخيرة، أصبح خليج غينيا أكثر مناطق العالم تعرضًا لحوادث تهديد الأمن البحري، حيث استحوذ على 40% من إجمالي الحوادث المبلّغ عنها في الشهور التسعة الأولى من عام 2018، وفقًا لبيانات مركز الإبلاغ عن القرصنة التابع للمكتب البحري الدولي. ويواجه خليج غينيا العديد من تحديات الأمن البحري، ما بين القرصنة البحرية، والسطو المُسلح في البحر، والقرصنة البتروكيماوية، والصيد غير القانوني وغير المُنظّم. ومن ثمّ اكتسبت منطقة خليج غينيا سمعة سيئة كأحد أخطر ممرات الشحن في العالم، الأمر الذي دفع المجموعة الدولية لمُعالجة الأزمات International Crisis Group لتسمية المنطقة باسم “منطقة الخطر الجديدة”.
الأهمية الاستراتيجية لخليج غينيا
تاريخيًّا، عُرفت منطقة خليج غينيا بساحل الرقيق، حيث تغطي المناطق الساحلية الغربية للقارة الإفريقية. وتمتد منطقة خليج غينيا من الخط الساحلي المطل على المحيط الأطلنطي الذي يبدأ من السنغال في شمال الغرب الإفريقي إلى أنجولا بما يقرب من 6000 كيلومتر من الساحل. وتشمل عددًا من الدول الإفريقية الساحلية، هي: غينيا بيساو، وغينيا، وسيراليون، وليبيريا، وساحل العاج، وغانا، وتوجو، وبنين، ونيجيريا، والكاميرون، وغينيا الاستوائية، والجابون، والكونغو، وأنجولا.
ويحظى خليج غينيا بأهمية عالمية، كونه نقطة مهمة لشحن النفط المستخرج من دلتا نهر النيجر في جنوب نيجيريا، وكذلك لنقل البضائع من وإلى وسط وجنوب إفريقيا. وتتمتع بلدان المنطقة باحتياطيات ضخمة من النفط والغاز تعد ضرورية لتلبية الطلب العالمي على الطاقة؛ حيث تُعد هذه الدول مصدرًا لحوالي 70٪ من إنتاج إفريقيا للنفط، كما تُقدر احتياطياتها بحوالي 5٪ من إجمالي احتياطي النفط في العالم. هذا بجانب ما تمتلكه المنطقة من احتياطيات كبيرة من الموارد المعدنية الأخرى، مثل: الماس، والذهب، والبوكسيت، وخام الحديد.
علاوةً على ذلك، تُعد المنطقة مصدرًا رئيسيًّا لمخزون الغذاء العالمي وإمداداته، وتزخر ببعض من أغنى الأسماك في العالم وأكثرها وفرة، وهي مصدر لما يقرب من ربع استهلاك البروتين العالمي. وعلى المستوى الملاحي يتمتع خليج غينيا بالاتساع، وبالتالي فهو غير معرّض للحصار.
المُهدِّدات المتنامية للأمن البحري في خليج غينيا
يشهد خليج غينيا منذ عقود تصاعدًا للمُهدِّدات الأمنية المختلفة، وفي مقدمتها أعمال القرصنة في منطقة دلتا النيجر، حيث وفرت الممرات المائية ملاذًا آمنًا لعصابات القراصنة. وتشمل القرصنة البحرية في خليج غينيا اختطاف السفن. وتختلف القرصنة في خليج غينيا عنها قبالة سواحل الصومال، فالقراصنة في الصومال يستهدفون السفن كجزء من مخططات الاختطاف مُقابل الفدية، في حين يختطف قراصنة غرب إفريقيا بشكل أساسي السفن لاستهداف النفط الخام تمهيدًا لبيعه في السوق السوداء، ويتبع القراصنة في خليج غينيا استراتيجية شن الهجوم في المياه الإقليمية لإحدى الدول، ثم الفرار إلى المياه الإقليمية لدولة مجاورة، لاستغلال ثغرات التنسيق والتعاون بين حكومات دول الإقليم وقواتها البحرية.
ووفقًا للمكتب البحري الدولي، ارتفعت حوادث القرصنة في خليج غينيا بنسبة فاقت 50% بين عامي 2018 و2019، حيث لا تزال المنطقة الواقعة قبالة سواحل نيجيريا الغنية بالنفط هي الأخطر في العالم بالنسبة لطواقم السفن. وقد تزايدت أعمال القرصنة على النقل البحري في خليج غينيا بشكل مطرد، ففي السادس عشر من ديسمبر 2019 تعرضت ناقلة نفط لهجوم في خليج غينيا، واختُطف معظم أفراد طاقمها أثناء إبحارها من أنجولا إلى توجو. وفي الحادي والثلاثين من ديسمبر 2019 تعرضت ناقلة نفط يونانية تُدعى “السيدة السعيدة” التي كانت تبحر من ميناء ليمبو في الكاميرون، وتم اختطاف ثمانية من أفراد طاقم الناقلة. وفي الثاني من يناير 2020، تعرضت سفينة ترفع علم نيجيريا، وكانت تبحر في خليج غينيا، لهجوم أسفر عن اختطاف ثلاثة أشخاص ومقتل أربعة آخرين.
ووفقًا للاتحاد الإفريقي، يتعرض خليج غينيا لهجوم واحد على الأقل أسبوعيًّا من قبل القراصنة، مما يتسبب في انخفاض سنوي بنسبة 4.1٪ في الشحنات التجارية المارة بالإقليم. وتشكل حالة انعدام الأمن البحري الحالية في منطقة خليج غينيا مُعضلة أمنية أساسية لنطاقها البحري الحيوي، مما يعطل سبل العيش والاستقرار في دول المنطقة.
آليات الاستجابة لمهدِّدات الأمن البحري في خليج غينيا
تعددت طرق مُواجهة عمليات القرصنة وحماية الأمن البحري بمنطقة خليج غينيا عبر آليات وأدوات متعددة انتهجتها دول منطقة خليج غينيا، سواءً بالتنسيق بين دول الإقليم أو بالتعاون مع أطراف خارجية، ويمكن توضيحها على النحو التالي:
1- استجابة سياسية
خلال الفترة من السابع إلى التاسع من أكتوبر 2019 عُقد بالعاصمة النيجيرية أبوجا مؤتمر بعنوان “الأمن البحري العالمي” بمُشاركة مسئولين نيجيريين وأفارقة وأجانب، وممثلين عن الأمم المتحدة، ودبلوماسيين، بدعوة من الحكومة النيجيرية للتعاون في مجال تطوير نظام قوي للأمن البحري لمُكافحة التهديدات الأمنية في خليج غينيا، ووضع حد لأعمال القرصنة في المنطقة. وبحث المؤتمر طبيعة ونطاق الاستجابات الإقليمية لانعدام الأمن البحري في ظل التدخلات من قبل الجهات الفاعلة والشركاء الخارجيين، وتقييم مدى أهمية وتأثير مختلف التدخلات التي بدأت بالفعل لمُعالجة انعدام الأمن البحري في خليج غينيا بهدف تنقيحها لمواجهة التحديات الحالية.
2- استجابة إقليمية
اتّبعت دولُ خليج غينيا خطوات لتسيير دوريات بحرية مُشتركة، ومنها اتفاق تعاون لمُكافحة القرصنة بين نيجيريا والكاميرون، وتعمل الدول على إنشاء عمليات مشتركة بين الوكالات للإدارة البحرية، وتطوير وتنفيذ استراتيجيات بحرية وطنية. وفي الخامس والعشرين من يوليو 2019 تم توقيع مذكرة تفاهم للعمليات البحرية المُشتركة في المنطقة البحرية للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “الإيكواس”. ومن المفترض أن تمهد هذه المذكرة لاستجابة إقليمية فاعلة للتهديدات التي يتعرض لها الأمن البحري في منطقة خليج غينيا، والتي يفترض أن تسهم في تغطية الاحتياجات اللوجستية لمواجهة القرصنة في خليج غينيا من خلال توفير معدات الاتصالات وقدرات الطيران البحري لاستكمال الجهود المبذولة على المستوى الإقليمي.
3- استجابة دولية
تمثّلت هذه الاستجابة في مظاهر عدة؛ حيث دعت الرابطة الدولية لمالكي السفن BIMCO من الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي لإرسال قوات دولية إلى خليج غينيا. ومع ذلك، فإن نيجيريا والدول الأخرى التي تشكل الساحل الخليجي كانت غير متحمسة بشأن قيام القوات الأجنبية بدوريات في مياهها، كما لم يُبدِ المجتمع الدولي اهتمامًا كبيرًا بتفعيل المقترح؛ إلا أنه يُعد من المقترحات الجاهزة للتطبيق حال تصاعد أعمال القرصنة في الإقليم، خاصة مع تعدد مشاركة قوات دولية في تنفيذ عمليات لإنقاذ السفن المتعرضة للتهديدات في حالات سابقة في الإقليم. ومن ناحية أخرى، عُقدت المناورة البحرية Obangame Express 2019 من جانب قوات متعددة الجنسيات بقيادة القوات البحرية الأمريكية. وشارك في هذه المناورة 2500 جندي و95 سفينة و12 طائرة بمشاركة من حلفاء الناتو و20 دولة من غرب إفريقيا. كما شهدت المناورة أيضًا نشر عناصر من خفر السواحل الأمريكي في خليج غينيا.
أما فيما يتعلق باستراتيجية الأمن البحري للاتحاد الأوروبي لعام 2018، وخطة عمل خليج غينيا للاتحاد الأوروبي؛ فإن الاستراتيجية تدعم المبادرات الإقليمية والدولية الأخرى مع ضمان تنسيق مشاريع الاتحاد الأوروبي في المنطقة. ويلتزم الاتحاد الأوروبي بتعزيز الأمن البحري في خليج غينيا، ويساهم في تنمية القدرات المحلية للدول الساحلية في المنطقة. وتركز مجموعة البرامج والمشروعات التي يقوم بها على بناء القدرات. ومن هذه المشروعات الشبكة الإقليمية لخليج غينيا لتحسين السلامة والأمن البحري، وآلية مُراقبة ودعم الطرق البحرية الحرجة CRIMSON، ومشروع تحسين أمن الموانئ في غرب ووسط إفريقيا، ومشروع التعاون في الموانئ البحرية SEACOP. بالإضافة إلى ذلك، تلقّت دول خليج غينيا دعمًا في مجال بناء القدرات والدعم الفني من جانب المنظمات متعددة الأطراف، مثل: مجموعة الدول الصناعية السبع G7، ومجموعة أصدقاء خليج غينيا، والشركاء والدول الغربية (مثل: بلجيكا، وبريطانيا، والدنمارك، وفرنسا، والولايات المتحدة، وبعض الدول الأخرى).
4- استجابة قانونية ومؤسسية
لا يزال عدم كفاية الأطر القانونية من أهم العوائق الأساسية بمنطقة خليج غينيا، ولذا يتعين على العديد من بلدان المنطقة استيعاب الأحكام ذات الصلة من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. ووفقًا للتقييمات القانونية التي أجراها مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالجريمة والمخدرات في 12 دولة في وسط وغرب إفريقيا بين عامي 2014 و2019، لم يُلبِّ سوى عددٍ قليلٍ من الدول متطلبات الاتفاقية من حيث تجريم القرصنة وإقامة ولاية قضائية عالمية. ولا تمتلك دول منطقة خليج غينيا التشريعات والقدرة القضائية لمقاضاة الجرائم البحرية، مثل القرصنة والسطو المُسلح في البحر، بسبب مجموعة من العوامل ومنها العجز في القدرات اللوجستية، وعدم كفاية الموظفين والموارد.
وقد أنشأت دول المنطقة العديد من المؤسسات، مثل المنظمة البحرية لغرب ووسط إفريقيا، ولجنة خليج غينيا وحرس خليج غينيا. وتم التوقيع على مدونة قواعد السلوك لعام 2013 بشأن قمع القرصنة والسطو المسلح على السفن والنشاط البحري غير المشروع في غرب ووسط إفريقيا، المعروفة بشكل غير رسمي بمدونة ياوندي للسلوك، حيث تنص المادة 2 من المدونة: “يعتزم الموقعون التعاون إلى أقصى حد ممكن في قمع الجريمة المنظمة عبر الوطنية في المجال البحري، والإرهاب البحري، وصيد الأسماك غير القانوني، وغيرها من الأنشطة غير القانونية في البحر”.
ختامًا، لكي تمنع الدول الأخطار البحرية بما في ذلك التهديدات المُستقبلية الناشئة، يتعين تعزيز الوعي بأهمية قضية الأمن البحري، وهو ما يُعد أمرًا أساسيًّا لتنظيم استجابات فعالة للمهدِّدات المختلفة. ولا بد من الموازنة بين المصالح الجيوستراتيجية للأطراف الدولية مع حكومات دول خليج غينيا، من خلال تحديد المجالات التي تتوافق فيها المصالح الاستراتيجية والسياسية في الجوانب الرئيسية للأمن والتدابير الدفاعية في المنطقة من أجل تحقيق التكامل في مُكافحة القرصنة والأنشطة غير المشروعة بالمنطقة.