الانشغال بقراءة الكتب القديمة، بحثا عن أصول الأشياء، هو من أجمل العادات في رمضان؛ وعبد الرحمن الجبرتي هو من أجمل ما يمكن قراءته في الشهر الكريم. عاش الجبرتي في الفترة 1753 – 1825، فوقف على الجسر الرابط بين القديم والجديد في تاريخ مصر. عاش الجبرتي في القسم الأخير من القرن الثامن عشر، وشهد اضمحلال النظام العثماني المملوكي؛ ثم عاصر الاضطراب الكبير الذي أحدثته الحملة الفرنسية، وما أتت به من مظاهر الحضارة الحديثة إلى المجتمع المصري الغارق في ركود العصور الوسطى؛ وشهد جانبا من التغيرات الكبرى التي أدخلها محمد علي إلى البلاد، والتي ساهمت في إدخالها إلى عالم الحداثة، ذلك الدخول المتعثر، الذي مازالت أقسام من مجتمعنا تقاومه.
الجبرتي مؤرخ رائع، اتسمت ملاحظاته بالدقة وكتاباته بالموضوعية، وحرص على التمييز بين رواية الوقائع التي شهدها، ورأيه الشخصي فيها. والجبرتي مثقف مستنير، له آراء في الإصلاح، وكأي مصلح أصابه من الناس سوء الفهم، فهو يرفض مسايرة هذا الاتجاه أو ذاك، إلا بعد عرضه على ميزان الإصلاح والحقيقة الدقيق. لهذا انتقد المصريون الجبرتي بسبب تقديره لبعض مما جاء به الفرنسيون، فاتهموه بالولاء لهم والتعاون معهم. فيما اتهمه الفرنسيون بالتعصب ضد مظاهر الحضارة الحديثة، بسبب حرصه على القيم والأعراف والشرائع الإسلامية.
الجبرتي مثقف كبير، وليس مجرد حكاء يقص علينا ما وصله من أخبار. في تقديمه لكتابه الأهم “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، يرصد الجبرتي قائمة طويلة من كتب التاريخ التي اطلع عليها، والتي تبين أنه كان قارئا نهما لا يكف عن المطالعة، في زمن لم تكن فيه مطابع، أو كتب مجانية متاحة على شبكة الإنترنت. لكن الجبرتي لم يكن مجرد حامل كتب يقرأ ويرصد، لكنه كان أيضا ناقدا يقيم الكتب التي يقرأها، فنجده يكتب عن كتاب تاريخ ابن خلدون، المكتوب في ثمان مجلدات ضخام، بالإضافة إلى المجلد المعروف بمقدمة ابن خلدون، أن “من اطلع عليها رأب بحرا متلاطما بالعلوم، مشحونا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم”.
كتب الجبرتي مذكرا بفضائل تدارس التاريخ، وهو أمر مازال المثقفون والمصلحون يحاولون إقناع الناس به إلى اليوم، وكيف أن إهمال التاريخ هو من علامات النكوص، ودليل على أن الأمور أصبحت مقلوبة بلا منطق أو حساب، بعد أن كف الناس عن كتابة الوقائع وضبطها وتسجيلها. كتب الجبرتي أن الأمم “لم تزل ماضية من حين أوجد الله هذا النوع الإنساني تعتني بتدوينه سلفا عن سلف وخلفا بعد خلف، إلى أن نبذوه وعدوه من شغل البطالين، وقالوا أساطير الأولين. ولعمري إنهم لمعذورون، وبالأهم مشتغلون، ولا يرضون لأقلامهم المتعبة في مثل هذه المنقبة، فإن الزمان قد انعكست أحواله، وتقلصت ظلاله، وانخرمت قواعده في الحساب، فلا تضبط وقائع في دفتر ولا كتاب”.
يلاحظ الجبرتي ما طبع عصره من خمول وفساد أخلاق، لكنه يمتلك من الموضوعية ما يعفيه من تعميم ذلك على الناس كافة، ومن السقوط في هاوية نوستالجيا مميزة للمزاج الثقافي لأمتنا، فنجده يكتب أن “ما ظهر في هذا الزمان من الاختلال، في حال البعض من حب الجاه والمال، والرياسة والمنصب، والحسد والحقد، لا يقدح في حال الجميع، لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم، وإن كثر المبطلون، ولكنهم أخفياء مستورون تحت قباب الخمول”.
لدى الجبرتي فلسفة للتاريخ تقوم على أن صلاح الحكم هو أساس كل صلاح، وأن الملك يبقى على الكفر والعدل، ولا يبقى على الجور والإيمان. كتب الجبرتي في مقدمة كتابه أن معاوية سأل الأحنف بن قيس: “كيف الزمان”، فقال “أنت الزمان إن صلحت صلح الزمان، وإن فسدت فسد الزمان”. كتب الجبرتي أن “سبب هلال الملوك، إطراح ذوي الفضائل، واصطناع ذوي الرذائل، والاستخفاف بعظة الناصح، والاغترار بتزكية المادح، من نظر في العواقب ، سلم من النوائب، وزوال الدول باصطناع السفل، ومن استغنى بعقله ضل، ومن اكتفى برأيه زل، ومن استشار ذوي الألباب، سلك سبيل الصواب، ومن استعان بذوي العقول، فاز بدرك المأمول، ومن عدل في سلطانه، استغنى عن أعوانه، عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان، الملك يبقى على الكفر والعدل، ولا يبقى على الجور والإيمان”.
وجه الجبرتي كلامه للحكام، فنصح من ملكه الله على عباده، وحكمه في بلاده ، أن يكون لنفسه مالكا، وللهوى تاركا، وللغيظ كاظما، وللظلم هاضما، وللعدل في حالتي الرضا والغضب مظهرا، وللحق في السر والعلانية مؤثرا، وإذا كان كذلك ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرف بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه”.
لكن الجبرتي لم يضع كل العبء والمسئولية عن الفساد وتدهور الأحوال على الحكام، فهناك مجتمع ونخب متنوعة تتحمل نصيبها أيضا، وأن صلاح السلطان يؤدي إلى صلاح الرعية، بالضبط كما أن صلاح الرعية يؤدي إلى صلاح السلطان، تطبيقا للحديث الشريف “كما تكونوا يولى عليكم”. كتب الجبرتي في مقدمة كتابه أن “آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء خبث السريرة، وآفة الجند مخالفة القادة، وآفة الرعية مخالفة السادة، وآفة الرؤساء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة، وآفة القضاء شدة الطمع، وآفة العدول قلة الورع، وآفة القوي استضعاف الخصم، وآفة الجرئ إضاعة الحزم، وآفة المنعم قبح المن، وآفة المذنب حسن الظن، والخلافة لا يصلحها إلا التقوى، والرعية لا يصلحها إلا العدل، فمن جارت قضيته، ضاعت رعيته، ومن ضعفت سياسته بطلت رياسته، ويقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر، السلطان والرعية”.
فلسفة للتاريخ، وفلسفة للسياسة، بالإضافة إلى التأريخ الدقيق والموضوعي. هذا ما نجده لدى عبد الرحمن الجبرتي، أهم مصدر معتمد لدى الباحثين لتلك الفترة الحاسمة من تارخينا. ومع هذا فأظننا مقصرين في الاستفادة من الجبرتي، فلماذا لا نضم أقساما من الكثير الذي كتبه، كما وردت بنصها الأصلي، في كتب التاريخ المقررة على طلاب المدارس، فنربي لديهم الإحساس بتاريخنا الوطني، أحداثا ولغة وطرائق تعبير؛ فالتاريخ هو الهوية، وهو أقوى رابطة تصل الناس بالوطن.