تقارير متضاربة وتصريحات غامضة صدرت عقب زيارة وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” لإسرائيل حول الموقف الأمريكي المنتظر من إعلان إسرائيل نيتها ضم الضفة الغربية المحتلة في يوليو المقبل. سفير الولايات المتحدة في إسرائيل “ديفيد فريدمان” كان قد صرح بأن بلاده ستؤيد قرار الضم، فيما ذكرت تقارير أمريكية بأن زيارة “بومبيو” ربما استهدفت في الواقع إقناع إسرائيل بتأجيل القرار على الأقل الآن. تصريحات “بومبيو” أثناء الزيارة لم تأتِ بموقف معلن وواضح من القضية؛ بل بدت واشنطن مصممة على المضيّ في محاولة جذب الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل في إطار خطة “ترامب” للسلام التي طرحها منذ شهرين، حيث دعا “بومبيو” إلى التقدم في تنفيذ الاقتراح الأمريكي للسلام الإسرائيلي–الفلسطيني، ولكنه -كما لاحظ موقع “إسرائيل تايمز” الإخباري– لم يصل إلى حد تحديد توقيت ضم إسرائيل لأجزاء كبيرة من الضفة.
الغموض والتناقض يسيطران أيضًا على التصريحات والتقارير من داخل إسرائيل نفسها؛ فزعيم حزب إسرائيل بيتينو “أفيغدور ليبرمان” كان قد صرح في فبراير الماضي بأنه: “قبل بضعة أسابيع بدأ نتنياهو بجولة في أوساط السكان وتحدث عن الضم. لم أفهم سبب عدم تقديم ذلك للتصويت مع وجود أغلبية مطلقة بدعم منا، إلى أن تبين لي قبل بضعة أيام بأن نتنياهو، في موازاة هذه الأقوال، نقل رسالة عبر جهاز الأمن إلى الملك عبدالله ملك الأردن تقول: عليه ألا يقلق، لأن الأمر يتعلق بانتخابات، ولن يكون ضم”.
أما وزير الاقتصاد الإسرائيلي في الحكومة الجديدة “عمير بيرتس” فقد عبر عن معارضته لضم أحادي الجانب. مضيفًا أنه يتعين على إسرائيل الإصغاء لما يجري في السلطة الفلسطينية. وقال إنه يؤيد الحوار مع الجانب الفلسطيني ومبدأ حل الدولتين. وبحسب قناة “كان” العبرية، لفت “بيرتس” إلى وجود أغلبية في الكنيست لتطبيق السيادة الإسرائيلية في مناطق الضفة الغربية، ولكنه أشار إلى أنه نجح في تضمين الاتفاق الائتلافي آلية من شأنها أن تغير إجراءات الضم إلى حد كبير!
في ظل هذا التضارب لا يمكن الجزم بأن واشنطن –حتى الآن– قد منحت إسرائيل الضوء الأخضر لتمرير مخطط الضم. كما يمكن القول إن مشكلة “نتنياهو” ستكون بالدرجة الأولى هي إقناع واشنطن بتأييد ضم إسرائيل لمساحة أكبر في الضفة الغربية من تلك التي احتوتها خطة “ترامب” للسلام (صفقة القرن)، فهل يمكن لإسرائيل أن تضمن هذا التأييد؟ وما هي الشروط الأمريكية للقبول بمطالب نتنياهو؟ وهل يواصل نتنياهو مخططه حتى لو عارضت واشنطن؟
خريطة الدولة الفلسطينية في “صفقة القرن”
بعد اعتراف الولايات المتحدة بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة، وبالقدس عاصمة لإسرائيل، جاءت “صفقة القرن” لتعلن إمكانية إقامة دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل خلال أربع سنوات من طرح الخطة (يناير 2020). وخلال هذه السنوات -وبموجب الخطة- تمتنع إسرائيل عن توسيع المستوطنات القائمة أو بناء مستوطنات جديدة. وفيما يخص منطقة غور الأردن، نصت خطة “ترامب” على أنه في حالة إصرار إسرائيل على ضمها إلى حدودها فيجب عليها في هذه الحالة منح الفلسطينيين أراضي مساوية في المساحة على الحدود مع قطاع غزة وفي مناطق من شرق الحدود الإسرائيلية عام 1967، فيما يشبه صيغة تبادل أراضي قسرية لا يمكن للفلسطينيين الاعتراض عليها. وفيما يخص القدس فإنها تبقى تحت السيادة الإسرائيلية باستثناء الأحياء العربية فيها التي يمكن أن تتصل بمنطقة أخرى تقام فيها عاصمة للدولة الفلسطينية المقترحة.
رفض الفلسطينيين للصفقة بدا مفهومًا، فهي تلتهم قرابة 30٪ من مساحة الضفة، وتسمح لإسرائيل بالسيطرة الأمنية الكاملة على الدولة الفلسطينية بأكملها، كما أنها تقضي على مطلب الفلسطينيين بإقامة عاصمة دولتهم في القدس الشرقية. وبالنسبة لإسرائيل كانت خطة “ترامب” غير مقبولة أيضًا لكونها تسمح بإقامة دولة فلسطينية، وهو ما يعتبر أمرًا مرفوضًا بشكل مطلق من جانب اليمين المتشدد الذي عبّر عنه “نفتالي بينت” زعيم حزب يمينا الحالي عندما أعلن أنه سيؤيد أي قرار يتخذه “ترامب” بضم الضفة الغربية أو معظم أراضيها بشرط ألا يوافق “نتنياهو” على إقامة دولة فلسطينية في أي مكان بجوار إسرائيل. أيضًا بالنسبة لنتنياهو فهو يريد ضم غور الأردن دون الالتزام بتعويض الفلسطينيين في مناطق داخل إسرائيل في حدود ما قبل يونيو 1967، كما يريد أن يعلن ضم الأراضي التي يريدها في الضفة قبل انقضاء المدة التي حددتها خطة “ترامب” (أربع سنوات) لكي ينضم الفلسطينيون خلالها إلى مفاوضات الحل النهائي مع إسرائيل.
هل يستطيع “نتنياهو” إقناع “ترامب” بقبول خطة الضم المزمع إعلانها في يوليو القادم؟ أم إن “ترامب” لن يقبل بوأد خطته بهذه السرعة وقبل مضيّ أشهر قليلة على طرحها؟. البعض يعتقد أن فرص “ترامب” في الفوز بولاية رئاسية ثانية في نوفمبر القادم باتت متراجعة بسبب التأثير الكارثي لوباء كورونا على الاقتصاد الأمريكي الذي كان الورقة الرابحة لترامب للاحتفاظ بالبيت الأبيض لفترة ثانية، وأنه (أي ترامب) قد يضطر لمغازلة اللوبي الإنجيلي (الداعم لإسرائيل) كي يضمن تأييده الكامل له في الانتخابات المقبلة لتعويض خسارته لشعبيته بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية. لكن هذا الطرح يبدو أنه قد تأسس على فرضية غير صحيحة، وهي أن “ترامب” صاغ خطته دون أن يتشاور مع قادة اللوبي الإنجيلي!
والواقع أن “ترامب” الذي يدين للوبي الإنجيلي بجزء من فوزه في انتخابات 2016، لم يكن ليصوغ خطته بعيدًا عن قادة هذا اللوبي، خاصة أنه تحدث معهم في وقت مبكر غداة فوزه بالانتخابات عن رغبته في عقد صفقة تاريخية تُنهي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أي إنهم ربما كانوا على بينة بتفاصيل خطة “ترامب”، وأنهم أيدوها بالفعل قبل أن يطرحها “ترامب” رسميًّا. أيضًا ربما يتحسب “ترامب” للوعود التي أطلقها خصمه ومنافسه على البيت الأبيض “جو بايدن” –المرشح المحتمل للحزب الديمقراطي– والذي أعلن أنه يرفض خطة “ترامب” ويؤيد التفاوض على أساس حل الدولتين، وأنه يعد بإلغاء هذه الخطة إذا فاز في الانتخابات المقبلة. ويدرك “ترامب” أن عين “بايدن” على لوبي آخر وهو لوبي الـj-street، وهو لوبي يقوده شباب يهود ينتمون للحزب الديمقراطي، ولهم تأثير واسع على التوجهات السياسية للشباب الأمريكي بشكل عام، ولا يريد “ترامب” توسيع الصدام مع هذا اللوبي الذي يؤيد حل الدولتين، ويرفض الاعتراف بشرعية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، خاصة وأن هذا اللوبي يقيم علاقات جيدة مع العديد من المنظمات الإسلامية بالولايات المتحدة القادرة على حشد أصوات المسلمين هناك لصالح هذا المرشح أو ذاك.
في ظل هذه البيئة المعقدة، هناك احتمالات مفتوحه، منها أن يؤجل “نتنياهو” قرار الضم لأبعد من شهر يوليو المقبل، ربما تحت الضغوط التي تمارسها دول عربية عدة على “ترامب” لكي يمنع “نتنياهو” من اتخاذ خطوة الضم، مع وعد من هذه الدول لترامب بأنهم سيبذلون أقصى جهدهم للتعامل مع “صفقة القرن” بشكل مبدئي، مع حقهم في إبداء تحفظات على بعض تفاصيلها. لكن يبقى أيضًا احتمال غير مستبعد بأن يتجاهل “نتنياهو” اعتراضات “ترامب” أو رغبة إدارته في تأجيل إسرائيل قرار الضم، نظرًا لخصائص شخصية “نتنياهو” وخبراته الكبيرة التي لم تمنعه من الاصطدام بالولايات المتحدة في السابق.
“نتنياهو” قد يكون مستعدًّا للصدام مع “ترامب”
أحد عشر عامًا متتالية قضاها “بنيامين نتنياهو” رئيسًا للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 2009، بالإضافة إلى ثلاث سنوات أخرى شغل فيها المنصب نفسه لثلاث سنوات خلال الفترة (1996-1999)، وبمقتضى الاتفاق الائتلافي الذي وقّعه مع خصمه وشريكه الحالي في الحكومة الجديدة “بيني جانتس”، سيقضي “نتنياهو” عامًا ونصف أخرى كرئيس للحكومة، مما يجعله أكثر زعيم سياسي في تاريخ إسرائيل يشغل منصب رئيس الحكومة متجاوزًا المدة التي قضاها “ديفيد بن جوريون” أول رئيس حكومة بعد تأسيس الدولة.
الخبرات التي راكمها “نتنياهو” في فن المناورات السياسية خلال كل هذه السنوات منحته شعورًا هائلًا بالثقة في النفس، الذي أوصله إلى كسر ثوابت في العقيدة السياسية لمن حكموا الدولة العبرية لم يجرؤ أحد على كسرها من قبله، حتى “بن جوريون” أو الشخصيات الأكثر يمينية التي شغلت نفس المنصب، مثل “مناحم بيجن” و”إسحاق شامير” و”أرئيل شارون”. أحد أهم هذه الثوابت هو الامتناع عن الصدام مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعتبر الضامن الحقيقي والوحيد لأمن إسرائيل.
“بن جوريون” الذي أعلن عقب احتلال إسرائيل لسيناء في عام 1956 ضمها إلى حدودها ورفض أي محاولة لإخراجها منها، رضخ بعد أربعة أشهر فقط للضغوط التي مارسها عليه الرئيس الأمريكي “أيزنهاور” وخرج من سيناء. كذلك “مناجم بيجن” الذي صمم على عدم إخلاء المستوطنات الإسرائيلية في سيناء، عاد ورضخ لضغوط الولايات المتحدة في عهد الرئيس “جيمي كارتر” بعد أن أدرك الأخير أن مصر لن تقبل التفريط في شبر واحد من أرضها مهما كانت المغريات أو التحديات. أما “إسحاق شامير” الذي هدد بأن تقوم إسرائيل بالرد على أي ضربات صاروخية عراقية بعد أزمة احتلال الكويت عام1990، أذعن في النهاية للضغوط الأمريكية في عهد إدارة الرئيس “بوش الابن”، التي حذرته من تنفيذ تهديده. ويتذكر الجميع في إسرائيل كيف وقفت إسرائيل صامتة وهي تتلقى 39 صاروخًا باليستيًّا أطلقها العراق ضدها في يناير 1991. “شارون” بدوره لم يقوَ على مواجهة الضغوط الأمريكية عليه التي منعته من قتل الزعيم الفلسطيني “ياسر عرفات” المحاصر بواسطة الجيش الإسرائيلي في رام الله عام 2004.
على عكس كل أسلافه، غامر “نتنياهو” بالدخول في صدام عنيف مع إدارة الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” عام 2015، حيث هاجم “نتنياهو” حينها مشاركة الولايات المتحدة في توقيع الاتفاق النووي مع إيران، ووصل به التحدي إلى الذهاب إلى الكونجرس الأمريكي مباشرة وبدون اتفاق مع البيت الأبيض لكي يحذر النواب الأمريكيين من خطورة ما فعله “أوباما”. وكان نجاح “نتنياهو” في انتخابات نفس العام بالرغم من المحاولات التي بذلها “أوباما” لإسقاطه بمثابة شهادة على جسارته (أي نتنياهو) وعلى قدرته على تحدي الثوابت الاستراتيجية الإسرائيلية التي وضعها الآباء المؤسسون للدولة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي.
بهذه الخبرات وبتلك الثقة في النفس يدخل “نتنياهو” معركة ضم الضفة الغربية أو معظمها لإسرائيل في يوليو القادم، في ظل أجواء تبدو في نظره أفضل إقليميًّا ودوليًّا لصالحه، ولصالح مشروعه الذي يهدد بنهاية حل الدولتين؛ حيث إن إدارة الرئيس “ترامب” تبدي تفهمًا أكبر بما لا يُقاس مع إدارات سابقة لطموحات إسرائيل العدوانية. كما أن التداعيات الاقتصادية الكارثية لوباء كورونا وضعت الحكومات والشعوب العربية التي كان يمكن أن تتحسب إسرائيل لردود فعلها على قرار الضم في موقف اختيار صعب بين تركيز جهودها على مواجهة كارثة الوباء، وبين الانشغال بقضايا خارجية قد ترتب أعباء عسكرية وأمنية خطيرة عليها.
ورغم الإقرار بأن مثل هذا الوضع يمكن أن يشكل فرصة لنتنياهو لكي يمرر قرار الضم دون خشية من أي تكلفة كبيرة لمثل هذا القرار سياسيًّا وأمنيًّا، ورغم استعداد “نتنياهو” لتحمل تبعات الصدام مع الإدارة الأمريكية كما فعل في السابق؛ إلا أن المفاجآت ليست مستبعدة، حيث إن الغموض الذي يسيطر على مصير الاقتصاد العالمي وردود الأفعال غير المعروفة من قبل دول وشعوب على أزماتها الداخلية، يفرض على الجميع التحسب لإمكانية مرور “البجعة السوداء” –كما يشير “نسيم طالب” في كتابه الشهير المعنون بالاسم نفسه- خلف سرب كامل من البجعات البيضاء.