تشكل دعوات الحوار مع الجماعات المسلحة في دول الساحل الإفريقي ساحةً للجدال الحادِّ بين من يعدونها إضعافًا لفكرة الدولة، وصكًّا مجانيًّا يمنح أولئك المسلحين الغطاء على ما مارسوه من عنف وإرهاب بحق المجتمع، وبين مَن ينظرون لها كمدخل براجماتي لإنهاء النزاعات المسلحة، في ظل الشكوك حول فعالية الخيار العسكري في اجتثاث المسلحين، بخلاف إمكان عزل المقاتلين المحليين عن الأجانب الذي تغلغلوا بالمنطقة، في سياق حركات الإرهاب العالمي كـ”القاعدة” و”داعش”.
لقد أخذت تلك الدعوات زخمًا متصاعدًا خلال العام الجاري، مع إعلان وزير الإعلام النيجيري “لاي محمد”، في نهاية مارس الماضي، أن مفاوضات جارية مع “بوكو حرام” للتوصل إلى وقف دائم للعمليات القتالية، خاصة في أعقاب الإفراج عن الفتيات المختطفات في دابتشي شمال شرقي البلاد. ولم تكن تلك المرة الأولى التي تظهر فيها دعوات حوار أو تفاوض بالساحل الإفريقي، إذ سبق أن دعا مؤتمر وطني للسلام في إبريل من العام الماضي لفتح الطريق لإجراء محادثات في مالي، مع كلٍّ من “إياد أغ غالي” زعيم أنصار الدين، و”إمادو كوفا” زعيم جبهة تحرير ماسينا. بل إن الحوار مع الجماعات المسلحة في ليبيا مثّل بندًا أساسيًّا في مراحل الخطة الأممية التي طرحها المبعوث الأممي “غسان سلامة” في سبتمبر 2017، وإن ظلّ ذلك الحوار مجمدًا بفعل تعثر المراحل الأولى للخطة المتعلقة بتعديلات اتفاق الصخيرات الموقّع في ديسمبر 2015.
عوامل مفسرة:
صحيح أن دعوات الحوار مع المسلحين في الساحل الإفريقي لم تأخذ تطبيقًا عمليًّا باستثناء مؤشر التفاوض النيجيري الذي لم يمنع استمرار العمليات العسكرية، سواء الحكومية أو الإقليمية (القوة متعددة الجنسيات)، ضد “بوكو حرام”، إلا أن ثمة عوامل قد تفسر ظهور تلك الدعوات بين حين وآخر في دول المنطقة.
أولًا- بروز حالة الإنهاك الصراعي جراء عدم حسم النزاعات عسكريًّا بالكامل وطول أمدها، وغياب القدرة على منع الهجمات المؤثرة على المدنيين، ما يعني كلفة مرتفعة للحكومات. فالإعلانات المتكررة لحكومة نيجيريا حول الانتصار على “بوكو حرام” خلال العامين الماضيين لم تَحُلْ دون خطف الجماعة لفتيات دابتشي في فبراير الماضي، في مشهد مشابه لما حدث مع فتيات تشيبوك قبل أربعة أعوام. بل إن هجمات تلك الجماعة الإرهابية استمرت طيلة هذا العام على القرى النيجيري في شمال شرقي البلاد.
وبالمثل، فإن الحشد العسكري، سواء الحكومي أو الأممي أو الفرنسي في شمال مالي منذ عام 2013، لم يمنع كذلك المسلحين من مواصلة هجماتهم، بل وتمديدها جغرافيًّا من الشمال والوسط إلى الجنوب، وكذلك باتجاه كل من بوركينا فاسو والنيجر، وهو ما أثار شكوكًا حول فعالية اتفاق السلام الموقّع بين الحكومة والمتمردين في عام 2015 في تحقيق الاستقرار والتنمية بالمنطقة.
وبرغم أن الخيار العسكري الذي يقوده الجيش الوطني الليبي منذ عملية الكرامة في مايو 2014 حقق نجاحًا كبيرًا ضد الجماعات الإرهابية (مثل مجلس شورى مجاهدي بنغازي في شرقي البلاد)، إلا أن حكومة الوفاق الوطني لم تستطع تحجيم انتشار المسلحين والميليشيات الأخرى المنتشرة في غرب البلاد كما برز في القتال خلال الشهرين الماضيين بين ميليشيات العاصمة وأخرى من خارجها، وذلك في ظل مراوحة سياسية مزمنة منذ توقيع اتفاق الصخيرات لم تؤدِّ إلى تقدم المسار السياسي، حيث ظلت البلاد منقسمة بين حكومتين إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب.
ثانيًا- تهديد الاستحقاقات السياسية والتنموية، حيث إن استمرار الصراع المسلح في الساحل الإفريقي يهدد الاستحقاقات السياسية التنموية، ومن ثمّ شرعية الحكومات. فمثلًا، ترتبط محاولات توصّل الحكومة النيجيرية لوقف العمليات القتالية مع “بوكو حرام” بأمرين أساسيين؛ أحدهما يتعلق بالتحدي التنموي في منطقة شمال شرقي البلاد التي تُشكّل مجال عنف “بوكو حرام”؛ حيث تُعاني المنطقة ترديًا معيشيًّا وفقرًا بلغت معدلاته 76%. أما الأمر الآخر فيتعلق بإدراك الرئيس “بخاري” أن استمرار الخيار العسكري دون القدرة على إخضاع “بوكو حرام” سيؤثر على وعده بتحسين الأمن، مع قرب انتهاء ولايته الأولى، وإعلان نيته الترشح لولاية ثانية من المقرر عقدها في الانتخابات الرئاسية في فبراير 2019.
أيضًا فإن تصاعد هجمات المسلحين يُبرز عدم فعالية اتفاق السلام في مالي، ويثير تحديًا أمنيًّا أمام الرئيس “إبراهيم أبو بكر كيتا”، خاصةً مع فوزه بولاية ثانية في أغسطس الماضي. كذلك فإن الحوار مع الكيانات المسلحة الموالية لحكومة الوفاق في غرب ليبيا قد يكون أحد المداخل لتوفير الشرط الأمني المطلوب لأي خيار انتخابي محتمل، أو على الأقل استعادة الاستقرار في غرب ليبيا، بعد قتال طرابلس الأخير.
ثالثًا- تغير تكتيكات الجماعات الإرهابية للتكيف مع الضغوطات العسكرية للحكومات والقوى الدولية بالمنطقة بغية إضعاف الخيار العسكري. ومن تلك التكتيكات توسيع التحالفات الميدانية، كما الحال مع تشكيل “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” في مارس 2017، والتي تضم: أنصار الدين، المرابطين، إمارة منطقة الصحراء، وكتائب تحرير ماسينا. ومنذ تشكيل هذه الجماعة تصاعدت الهجمات، سواء ضد فندق في مالي في يونيو 2017، ومطعم في بوركينا فاسو في الشهر الذي يليها، فضلًا عن هجمات أخرى ضد القوات الحكومية أو الفرنسية في هذين البلدين.
أضف إلى ذلك استغلال الجماعات الإرهابية للصراعات القبلية حول موارد المياه والرعي، كما الحال مع الصراع بين الرعاة من الطوارق والفولاني على الحدود مع النيجر لتوسيع رقعة العنف من شمال إلى جنوب مالي. بخلاف نقل المعارك مع الحكومات إلى الإقليم ككل؛ إذ ارتبط انحسار النفوذ الميداني لبوكو حرام في شمال شرقي نيجيريا، خلال العامين الماضيين، بتوسع هجماتها في منطقة بحيرة تشاد، سواء ضد الكاميرون أو تشاد أو النيجر، كما شن تنظيم “داعش” في الصحراء الكبرى هجومًا على وحدة أمريكية ونيجرية في شمال النيجر على الحدود مع مالي في أكتوبر 2017، وتسبب في مقتل خمسة نيجريين وأربعة أمريكيين.
رابعًا- التجارب الدولية في الحوار مع المسلحين، إذ بدت دعوات الحوار مع المسلحين في الساحل الإفريقي، فيأحد جوانبها، مدفوعة بتجارب حكومات سابقة حول العالم، كما الحال في تعامل بريطانيامع مسلحي أيرلندا الشمالية، وإسبانيا مع حركة إيتا الانفصالية، بل إن القوةالعسكرية الإسرائيلية لم تمنعها من اللجوء للتفاوض مع الفلسطينيين، أو حتى حلفشمال الأطلسي (الناتو) مع حركة طالبان في أفغانستان. هذه التجارب حفزت الدبلوماسيالبريطاني “جوناثان باول” في كتابٍ له صدر في عام 2014 حول الحوار معالمسلحين لاقتراح تلك الآلية للتعاطي مع حركات أخرى إرهابية، كالقاعدة وداعش، ماعرّضه لانتقادات حادة بسبب الخلط بين حركات مسلحة ذات أهداف وطنية، وأخرى إرهابية.
“
إن استمرار الصراع المسلح في الساحل الإفريقي يهدد الاستحقاقات السياسية التنموية، ومن ثمّ شرعية الحكومات
“
عوائق وإشكاليات:
بيد أن دعوات الحوار مع المسلحين تواجه عوائق وإشكاليات تحد من إنفاذها على أرض الواقع في منطقة الساحل الإفريقي، منها مثلًا:
أولًا- الخلط بين آليات مثل الحوار والتفاوض والمصالحة. صحيح أن تلك الآليات تعكس نوعًا من الاتصال بين الحكومات والمسلحين؛ إلا أنها تختلف من حيث أهدافها ومشروطياتها السياسية وما قد ترتبه من التزامات. فآلية الحوار أقرب ما تكون إلى النمط الاستشكافي وتبادل الآراء لفهم قناعات الأطراف الأخرى، بغية التوصل إلى نقاط مشتركة، لكنها ليست ملزمة من حيث نتائجها. أما التفاوض، فيعد آلية لحل نزاع محدد بغرض الوصول إلى نتائج محددة ملزمة تتضمن مكاسب وخسائر، كما حال المفاوضات الأخيرة التي جرت مثلًا بين الحكومة النيجيرية و”بوكو حرام” لإطلاق سراح الفتيات المختطفات. بينما تستهدف المصالحة بناء تعايش سياسي وقبول مجتمعي بين أطراف النزاع بعد توقف العنف، كما الحال مثلًا في التجربة الرواندية بعد توقف الحرب الأهلية الدموية بين الهوتو والتوتسي في التسعينيات.
هذه الأطر تبدو غير مطروحة عمليًّا حتى اللحظة في الساحل الإفريقي، خاصة أنها تخلق معضلة للحكومات تتعلق بالاعتراف الضمني بأولئك المسلحين، وحتى بالنظر إلى تفاوض الحكومة النيجيرية ومسلحي بوكو حرام، فيمكن فهمه في سياق اضطرار السلطة للخروج من مأزق خطف الفتيات في دابتشي والذي شكك في دعاوى الانتصار على الجماعة من حكومة بخاري.
ثانيًا- غياب التوافق على الحوار مع المسلحين، فأي حوار أو حتى تفاوض يستلزم قبولًا سياسيًّا ومجتمعيًّا. ففي مالي مثلًا، رفض الرئيس “إبراهيم أبو بكر كيتا” أي حوار مع مع “إياد أغ غالي” أو “أمادو كوفا”، لذلك لم تنلْ دعوات التفاوض مع الجهاديين بالمنطقة دعمًا إلا من أغلبية بسيطة من المواطنين (55,8%) أظهرها استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “فريديرش إيبرت” في نوفمبر 2017. كذلك الحال في نيجيريا، إذ إن دعوات الحوار والعفو ترفضها أحزاب المعارضة، ومنها حزب الشعب النيجيري ومنظمات حقوقية تجد من أنه الصعوبة تجاوز المحاسبة القانونية على جرائم “بوكو حرام” في مقتل أكثر من 20 ألف شخص، وتشريد 2.5 مليون شخص في شمال شرقي البلاد.
ثالثًا- الالتباس القائم في تحديد الفارق بين الإرهابي المسلح المدفوع بخلفية هوياتية متطرفة، والمتمرد المنطلق من قضية مجتمعية ووطنية، نظرًا للطبيعة الهجينة للجماعات المسلحة التي تجمع سمات القبلية والدينية والمناطقية وتختلط بالجريمة المنظمة والاتجار بالبشر. ولعل جماعات مثل: أنصار الدين، وجبهة تحرير ماسينا، تمثل تعبيرًا عن تلاقي عوامل قبلية (كالطوارق، والفلان) وهوياتية دينية جهادية، مع مظالم تنموية محلية، مضافًا لها قضية استقلال إقليم أزواد في مالي. هنا من الملاحظ أن الواقع العملي اتجه لاستبعاد الجماعات المسلحة المصنفة كإرهابية، فالخطة الأممية في ليبيا ذهبت -على ما يبدو- أكثر للحوار مع الكيانات والميليشيات المؤثرة، سواء المناطقية والقبلية التي نشأت لاعتبارات غياب قوة مركزية أمنية بعد سقوط القذافي، ولم تتضمن أي جماعات مسلحة مصنفة إرهابية، مثل تنظيم داعش والقاعدة ومستنسخاتهما في الداخل.
رابعًا- معضلة بناء أجندة الحوار مع المسلحين، فبينما كان انضمام الجماعات المسلحة في إقليم أزواد إلىاتفاق السلام في مالي عام 2015 على أرضية مناقشة أزمات التهميش السياسي، وعدالةالتنمية مع التخلي عن استقلال الإقليم عن الدولة المالية؛ فإن استبعاد الاتفاق ذاتهلجماعات مصنفة كإرهابية، مثل “أنصار الدين” و”جبهة تحرير ماسينا”،جاء في سياق غياب التوافق معها على فكرة الدولة الوطنية، حيث تؤمن تلك الجماعاتبفكرة الخلافة، وتطبيق الشريعة، وتكفير الآخر.
“
تعطي التجربة الجزائرية خلال العهدة العشرية الدموية في التسعينيات، درسًا مهمًّا لحكومات الساحل الإفريقي في التعاطي مع المسلحين
“
خامسًا- توقيت الحوار مع المسلحين وشروطه، حيث تذهب بعض الاتجاهات إلى أن اللجوء للحوار مع المسلحين، حتى بما فيهم الجماعات الإرهابية، ولو بغرض تغيير قناعاتها المتطرفة؛ يفترض أن يرتبط بلحظة الغلبة الميدانية للحكومة في مناطق النزاع، كي لا يفسر الحوار على أنه ضعف للدولة، وكذلك ليكون جاذبًا للمعتدلين مقارنة بالمتشددين.
ولعل الانشقاق المتصاعد داخل “بوكو حرام” إلى فصيلين أحدهما يقوده “أبو بكر شيكاو” والآخر “أبو مصعب البرناوي” (الذي عين من قبل داعش منذ عام 2016)؛ ربما يشكل محفزًا للحكومة النيجيرية للتفاوض الراهن مع الجماعة، على عكس الحال في عام 2014، عندما أعلنت إدارة الرئيس النيجيري السابق “جوناثان جودلاك” وقف إطلاق النار، لكن الجماعة رفضته، حيث كانت آنذاك أكثر سيطرة ميدانية مما هي عليه الحال الآن.
في هذا السياق، تعطي التجربة الجزائرية خلال العهدة العشرية الدموية في التسعينيات، درسًا مهمًّا لحكومات الساحل الإفريقي في التعاطي مع المسلحين، إذ تفاوضت الحكومة بالفعل مع الجيش الإسلامي (الجناح المسلح لجبهة الإنقاذ المحظورة)، واستطاعت إنهاء دوره، لكن كانت لها اليد الطولى في المعارك الميدانية، بل إنها فككت ذلك الجيش دون مقابل سياسي، حيث ظلت جبهة الإنقاذ محظورة منذ أزمة الانتخابات التي فجرت العنف. بل يلاحظ أيضًا أن الحكومة الجزائرية طرحت ميثاق المصالحة والعفو في عام 2005 للاستفتاء الشعبي بعد أن استطاعت القضاء على عنف المسلحين، وقرنته بشروط إلقاء السلاح، وإنهاء الملاحقات القضائية، باستثناء المتورطين في المذابح. إضافة إلى إدماج الأحزاب الإسلامية المعترفة بشرعية النظام، كي توسع الحكومة الفجوة مع المتشددين المسلحين.
سادسًا- مواقف القوى الدولية الرافضة للحوار مع المسلحين، خاصة المصنفين كإرهابيين، حيث تمثل قيدًا على حركة حكومات الساحل الإفريقي لتنفيذ أي دعوات للحوار مع الجماعات المسلحة، خاصة المصنفة كإرهابية. ففي العام الماضي مثلًا رفضت باريس على لسان وزير خارجيتها آنذاك “جان مارك إيرولت” أي حوار مع الإرهابيين في مالي، كما أن الولايات المتحدة ذاتها ترفض مبدأ الحوار مع الإرهابيين بسبب قانون باتريوت الذي يمنع أي مسئول أمريكي من التواصل مع أي جماعة مسلحة إرهابية.
ويصعب عمليًّا أن تخرج حكومات المنطقة عن القيد الفرنسي أو الأمريكي، وتغرد منفردة في الحوار مع المسلحين، خاصة وأن باريس ساندت مالي في طرد الجهاديين من شمالي البلاد عبر عملية سيرفال في 2013، كما أطلقت بعدها عملية برخان، ثم رعت العام الماضي قوة الساحل الإفريقي الخمس لمكافحة الجهاديين والجريمة المنظمة بالمنطقة. في الوقت نفسه، فإن واشنطن تعزز نفوذها في الساحل الإفريقي، سواء عبر قاعدتها في شمال النيجر، أو حتى ملاحقة قوات الأفريكوم للإرهابيين بالمنطقة، كما الحال مثلًا عندما قتلت قياديين بالقاعدة في مارس الماضي في مدينة أوباري جنوبي ليبيا المرتبط بالتفاعلات ضد الإرهابيين في دول الساحل الإفريقي.
وإجمالًا، يمكن القول إنه بينما تُحاط قضية الحوار مع المسلحين في الساحل الإفريقي بعوائق وشروط، فإن الاتجاه الممكن ربما يكون الحوار مع المجتمعات المحلية في المناطق التي أفرزت تلك الجماعات المسلحة لحل أزماتها التنموية والسياسية، جنبًا إلى جنب مع طرح سياسات للعفو للتائبين ومن يلقون أسلحتهم لإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع.