على خلفية تدهور الأوضاع الأمنية فى الشمال الأفريقى، وفى القلب منه تفاقم الصراع فى ليبيا، تدرس قيادة القوات الأمريكية (AFRICOM) توسيع التعاون العسكرى مع تونس، باعتبار الولايات المتحدة «ملتزمة» بتعزيز الشراكة الحاسمة والعمل مع دولة تونس لحل المشكلات «المشتركة». هذا النص الملغم، وفق أفضل التوصيفات لكلماته، ولما ترمى إليه هذه الصياغة المغلفة بالغموض، هو نص البيان الذى صدر عقب المحادثة الهاتفية التى جرت مؤخراً، بين الجنرال «ستيفن تاونسند» قائد قوات الأفريكوم الأمريكية ووزير الدفاع التونسى السيد «عماد الحزقى». علامات التنصيص التى وضعت على التزام الولايات المتحدة بالعمل مع دولة تونس، جاءت لتسجيل قدر من الدهشة حول طبيعة هذا الالتزام وتوقيت نشأته، وامتداداً للتساؤل أيضاً حول تلك المشكلات المشتركة التى يشير إليها البيان، باعتبار الاتصال الهاتفى قد تناولها!
الألغام التى تضعها الولايات المتحدة على لسان قائد قواتها الأفريقية تبدأ من اتهام روسيا بأنها وراء تأجيج نيران الصراع فى ليبيا، ولا تقف عند حد الحديث عن المشكلات الأمنية الشائعة فى تونس، حيث تستوجب من وجهة نظرها استخدام فرق المساعدة الأمنية للقوة الأمريكية، كى تعمل من داخل دولة تونس وعلى أراضيها. السؤال المنطقى فى هذه الحالة يذهب لمحاولة الوقوف على جدية هذا التقدير الأمريكى لمكامن الخطر، الذى جرى بحثه مع وزير الدفاع التونسى وهل يتفق الأخير مع ذلك؟ فخريطة التهديدات منشورة بعرض الإقليم وطوله ولا أسرار فيها على الإطلاق، وهى تتعلق فى المقام الأول بعناصر مقاتلة تحمل السلاح خارج القانون، البعض منها تحت رايات تنظيمات إرهابية شهيرة كـ«داعش» و«القاعدة»، وأخرى وصلت حديثاً للمنطقة للعمل كمرتزقة تديرها وتعزز وجودها بليبيا جماعة «الإخوان»، من أجل إحداث قدر من التوازن الذى تهدد به بقوة أمام قوات الجيش الليبى، فى العديد من مناطق الغرب الليبى.
هذا الوضوح فى الرؤية، الذى تكاد الأطراف جميعها بالمنطقة تقف على الكثير من تفاصيله، يقابله هذا الغموض الأمريكى الذى يعكس ربما تبدلاً ما فى الموقف الأمريكى من الملف الليبى برمته، فالأوروبيون شركاء الولايات المتحدة الافتراضيون يرون الدور التركى المنخرط بقوة فى رسم خريطة التهديدات، للحد الذى دفع البعض منهم للحديث علانية عنه وبقى الصامتون منهم يعلمونه أيضاً، وظل فعل الصمت له ما يبرره من مصالح أو توازنات تخص هؤلاء، لكنه لا ينفى علمهم بالتغول المستجد الذى تقوم به تركيا متمثلاً على الأقل فى عمليات نقل المرتزقة من سوريا إلى ليبيا. ولم تكن «عملية إيرينى» العسكرية الخجولة، إلا خطوة مراقبة بحرية وإلكترونية لما يجرى ما بين السواحل التركية والليبية، حتى لا تتطور عمليات النقل إلى ارتدادات بشرية تصل إلى الشواطئ الأوروبية، وهو ما دفع البعض من الصامتين للمشاركة فى العملية. وتظل ليبيا على إثر هذا الانقسام فى الرؤى الأوروبية هى التى تدفع الثمن الباهظ، من معادلة أمنها الداخلى المتداعى بالأساس ولم يكن ينقصه إضافة آلاف المرتزقة، كى يمارسوا مزيداً من الضغط عليها لتصل إلى هذا الحد من الخلل الفادح.
الولايات المتحدة ممثلة فى قوات «AFRICOM» عندما تتحدث مع وزير الدفاع التونسى، عن مواجهة أخطار مشتركة، فهى هنا تقصد إقامة قاعدة عسكرية على الأراضى التونسية أو ربما بشكل أدق استغلال قاعدة تابعة للجيش التونسى، من أجل إرسال لواء من العسكريين الأمريكيين لتدريب وتأهيل نظراء من تونس، قد يشملون أيضاً عناصر استخباراتية وقوات من حرس الحدود التونسى، على الأقل هذا هو النموذج الذى تقوم به «أفريكوم» مع البلدان الشريكة الأخرى. وهى بهذا تكون قد أدخلت تونس والشمال الأفريقى إلى نحو 45 تمركزاً عسكرياً أمريكياً فى أفريقيا، ما بين قواعد رئيسية ووحدات دعم عسكرى فى بعض الدول، فضلاً عن بعض مواقع يجرى استخدامها فى حالات الطوارئ. أهم هذه المواقع فى الشرق الأفريقى يقع فى جيبوتى وكينيا وبروندى وجنوب السودان، كما تستخدم «أفريكوم» مطارات عنتيبى فى أوغندا وكسمايو جنوب الصومال، وهناك معلومات تتداول عن وجود تمركز عسكرى للأفريكوم جنوب إثيوبيا فى منطقة أربا مينش. فى الوقت الذى يوجد فيه عدد أكبر بالغرب الأفريقى؛ فى كل من الكاميرون والنيجر ومالى وتشاد وغانا والسنغال وليبريا وموريتانيا والجابون، كما تتمركز فى الغرب بواجادوجو عاصمة بوركينا فاسو قاعدة تؤمّن لقوات الأفريكوم مراقبة كاملة للساحل الغربى الأفريقى، وبالأخص خليج غينيا الغنى بالنفط والممر الرئيسى له، ليبقى الجنوب ممثلاً فى بتسوانا وجزيرة سيشل.
حتى الآن تتحدث الولايات المتحدة عن أن القوات المزمع إرسالها إلى تونس هى مجرد وحدات تدريب فقط ولن يكون لها مهام قتالية فى الوقت الحاضر، وأن اللواء العسكرى الأمريكى المساعد لقوات الأمن التونسية سيكون فى إطار برنامج للتعاون العسكرى، ولا يرتبط بأى حال بوحدات عسكرية مقاتلة، خاصة أن الولايات المتحدة ترتبط بتعاون عسكرى وثيق مع تونس، التى تحظى برتبة «الشريك الرئيسى» من خارج حلف شمال الأطلسى (الناتو) منذ عام 2015. وبحسب وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون»، فإن الدعم الأمريكى لتونس منذ 2011 بلغ أكثر من مليار دولار، لكنه اليوم يتقدم خطوات واسعة تحت ذريعة الوجود الروسى فى ليبيا، حتى ليبدو النشاط الأمريكى المفاجئ فى إطار بعض من الرهانات الجيواستراتيجية، الذى يلعب فيها الجانب التركى دوراً رئيسياً مدعوماً من (الناتو) أو مسكوتاً عنه على الأقل. وإن كانت الوكالة الألمانية «دويتش فيلا» قد وصفته مؤخراً بـ«الشريك المزعج» على خلفية ما يقوم به فى ليبيا وغيرها، إلا أن تونس بالضرورة تدرك مرامى خطط (الناتو) شريكها فيما يخص ليبيا، وهى قد خبرت البعض منها فى 2011 وما جرى فيها. فهل اليوم وسط مساحة عريضة من الشكوك حول أشكال من الدعم، تقدم من الأراضى التونسية للجانب التركى فى ليبيا، اختارت تونس أن تدخل بقدميها لعبة رهانات المصالح الكبرى التى تظل دوماً محفوفة بالمخاطر والتداعيات؟
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٢ يونيو ٢٠٢٠.