اجتمع رئيس الوزراء خلال ديسمبر الماضي بعدد من اللاعبين الرئيسيين في مناخ الاستثمار المحلي في مصر، وذلك لمناقشة التحديات التي واجهت ولا تزال تواجه الاقتصاد المصري، واستجابة للتوترات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، مع استكشاف سبل التعامل مع هذه الأزمات بحلول عملية تراعي وضع الاقتصاد المصري الراهن من جهة، وتوفر حلولًا لمشكلات قد تدفع الاقتصاد المصري نحو مراحل منتظرة من النمو.
وتصدر ملف استدامة الدين وضمان وضعه على مسار نزولي النقاش، لما يتضمنه هذا الملف من تحديات تتعلق بزيادة الأعباء المالية على الموازنة، ووضع الطلب على الدولار تحت ضغط. ونظرًا للتحديات الاقتصادية التي فرضتها الأزمات المتتابعة خلال السنوات الأربع الماضية، بدءًا من جائحة كورونا (2020)، مرورًا بالحرب الروسية-الأوكرانية (2022)، وحاليًا العدوان الإسرائيلي على غزة، فقد قفز معدل الدين العام في مصر ليشكل 96٪ من الناتج الإجمالي المحلي للبلاد في السنة المالية المنتهية 2022/2023. ومع ذلك، كشفت البيانات الصادرة عن كل من البنك المركزي ووزارة المالية عن تراجع هذا المعدل خلال السنة المالية الماضية 2023/2024، في إطار استراتيجية إدارة الدين على المدى المتوسط التي تتبناها مصر بالتعاون مع صندوق النقد الدولي.
مسار الدين العام خلال التسع سنوات المالية السابقة
وفقًا للتقرير الشهري عن الأداء المالي الصادر عن وزارة المالية في ديسمبر، فقد انخفض معدل الدين العام في مصر من 96٪ في العام المالي 2022/2023 إلى 89.6٪ بنهاية السنة المالية 2023/2024 -المنتهية في يونيو الماضي. ورغم هذا التراجع، فيظل هذا المعدل هو الأعلى منذ السنة المالية 2018/2019، حينما سجل معدل الدين العام 83.9٪ من إجمالي الناتج المحلي للبلاد. خلال تلك السنة المالية، استطاعت مصر خفض معدل الدين تدريجيًا من 102.8٪ في العام المالي 2015/2016 إلى 100.9٪ في العام المالي 2016/2017، ثم إلى 90.5٪ في العام المالي 2017/2018.
يُعد تحقيق الانضباط المالي -بما يشمله من سياسات- إحدى أهم ركائز الموجة الثانية من الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية التي تتبناها مصر حاليًا، بدعم من صندوق النقد الدولي تحت مظلة برنامج التسهيل الائتماني الممتد الممنوح لمصر من الصندوق بقيمة 8 مليارات دولار، والذي من المنتظر الانتهاء منه في سبتمبر 2026 وفقًا للجدول الزمني للبرنامج. وقد تمت ترجمة ذلك في برنامج عمل الحكومة حتى العام المالي 2026/2027.
تلتزم الحكومة في برنامجها بوضع حد أدنى للإيرادات الضريبية وحد أقصى لمعدل الدين بهدف خفض معدل الدين العام إلى نسبة 80٪ من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2026/2027، التي يبدأ العمل بها في الأول من يوليو 2027، مع تحقيق فائض أولي بنسبة 3.3٪ من الناتج المحلي. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الحكومة إلى توفير برامج دعم للموازنة من خلال الشركاء الدوليين مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، بما يتسق مع برنامج الإصلاح الهيكلي للدولة. ومع ذلك، يُلاحظ أن هذه البرامج سيتم منحها في صورة قروض؛ مما قد يضيف عبئًا إضافيًا على الموازنة ولن تكون جزءًا من الحل إلا إذا تم توظيفها في زيادة الإنتاج ودعم الصادرات. كما يُتوقع أن تسهم في خفض عجز الميزان التجاري وضمان استدامة تدفق النقد الأجنبي إلى مصر من خلال جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وفقًا لاستراتيجية إدارة الدين التي تنتهجها الحكومة المصرية بدعم فني من صندوق النقد الدولي، فمن المتوقع أن يسجل إجمالي الدين العام في مصر نسبة 90.9٪ من الناتج المحلي في عام 2024، نزولًا إلى مستوى 84.5٪ بنهاية العام الجاري، وأن يستمر في مساره النزولي ليصل إلى ما دون 70٪ في عامي 2028 و2029، حيث يُتوقع أن يسجل 69.2٪ و64.5٪ على التوالي.
أبرز ما تم طرحه خلال الاجتماع
انتقد الحضور الزيادة الكبيرة في معدلات الدين المحلي والأجنبي، وما يترتب على ذلك من تحميل الموازنة العامة للدولة أعباء ضخمة نتيجة الفوائد المرتفعة، مع ضعف الموارد المتاحة للتعامل مع مستويات الدين المرتفعة، إضافة إلى ضعف الموارد الدولارية.
وقد قدم الحضور عددًا من المقترحات، تضمنت نقل أصول الدولة إلى البنك المركزي المصري، وتصفير الديون بالعملة المحلية، وإنشاء صندوق سيادي تابع للبنك المركزي يضم شركات وعقارات وأراضي جميع الجهات الحكومية والسيادية. يتم بيع هذه الأصول للبنك المركزي؛ مما يؤدي إلى تصفير الديون والفوائد المترتبة عليها. يصبح البنك المركزي بذلك المالك الأكبر لهذا الصندوق، مع مشاركة الجهات السيادية بنسب محددة مقابل شركاتها وأصولها.
كما تم اقتراح استغلال هذا الصندوق لتحقيق الوحدة المالية على مستوى الدولة، واستخدام العوائد الناتجة عنه في تمويل المشروعات التنموية والخطط المستقبلية. واستشهد الحضور بتجارب مماثلة في دول مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان خلال أزمة الديون، حيث تم اعتماد حلول مشابهة لإنقاذ اقتصاداتها.
مقترحات قابلة للتطبيق
خفض الدين العام خلال الأزمات يمثل تحديًا كبيرًا، ويتطلب اتخاذ مجموعة من الاستراتيجيات المدروسة بعناية. فالأزمات الاقتصادية الناتجة عن التوترات الجيوسياسية، مع بعض الخلل في استراتيجيات التعامل مع الأزمات، تؤدي إلى زيادة العجز المالي وارتفاع الدين العام؛ مما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا. لمواجهة هذه التحديات، يمكن دراسة مجموعة من الاستراتيجيات وتطبيقها لتتكامل مع سياسات تصحيح المسار الاقتصادي التي تتبناها الدولة حاليًا.
تقليص الإنفاق وتحسين كفاءته: يعد إحدى أهم الاستراتيجيات التي يمكن تطبيقها مع مراجعة دورية لكافة أجهزة الدولة. يشمل ذلك تقليص النفقات الحكومية غير الضرورية؛ مما يسهم في تقليص عجز الموازنة. بالإضافة إلى ذلك، يجب تحسين جودة الإنفاق الحكومي عبر تحليل وتقييم فاعلية البرامج الحكومية وضمان تحقيقها لأهدافها الرئيسية والفرعية.
مراجعة سياسات الاقتراض: إذ يعد تطبيق سياسات صارمة على الاقتراض خطوة ضرورية، بحيث تتم الموافقة فقط على القروض الموجهة لمشروعات ذات عوائد مالية مباشرة أو تسهم في تحسين كفاءة الاقتصاد. التركيز يجب أن يكون على المشروعات ذات الأولوية في قطاعات مثل الصناعة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، لضمان تحقيق مردود اقتصادي ملموس.
تغيير نهج التعاون الدولي: من الضروري تغيير نهج التعامل مع الشركاء الدوليين من “تمويل المشروعات عبر القروض” إلى “الاستثمار المباشر في المشروعات”. يعد هذا التوجه إحدى دعوات القيادة السياسية، إلا أن التنفيذ لا يزال يركز بشكل أكبر على الاقتراض. بالإضافة إلى ذلك، يمكن التوسع في برامج مبادلة الديون، بحيث يتم استبدال الديون باستثمارات في مشروعات تحقق التنمية وتلبي الأولويات الوطنية.
إدارة الدين بشكل أكثر كفاءة: تحويل الديون الحالية إلى أدوات مالية طويلة الأجل يمكن أن يسهم في تقليل الأعباء المالية الناجمة عن الديون قصيرة الأجل. هذه الخطوة تتيح توزيع التزامات السداد على فترات زمنية أطول؛ مما يحسن السيولة ويقلل المخاطر المالية. إلى جانب ذلك، يجب وضع خطة لطرح أدوات دين متنوعة مثل سندات الاستدامة، السندات الخضراء، والصكوك، مع ضمان استثمار عائداتها في مشروعات ذات ربحية عالية.
تحفيز الاستثمار في القطاعات الحيوية: الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل الصناعة، التحول الرقمي، التعليم، والصحة، يعتبر ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي. تقديم محفزات ضريبية ومالية للشركات لفترة زمنية محددة يمكن أن يعزز مناخ الاستثمار ويجذب المزيد من رءوس الأموال إلى السوق المحلية، مستفيدًا من انخفاض تكلفة التشغيل ووفرة الكفاءات الشابة.
السيطرة على التضخم: الحفاظ على مستويات منخفضة من التضخم يعد أمرًا حيويًا لتحسين القوة الشرائية وتعزيز قدرة الحكومة على سداد ديونها دون الحاجة إلى زيادة الضرائب بشكل مفرط. التضخم المستقر يدعم أيضًا ثقة المستثمرين في الاقتصاد المحلي.
جذب الاستثمارات الاجنبية: استغلال العلاقات التاريخية الممتدة مع دول العالم المختلفة يجب أن يكون محورًا لجذب الاستثمارات المباشرة، بدلًا من بيع الأصول. يمكن تحقيق ذلك ضمن إطار وثيقة سياسة ملكية الدولة التي تحدد خارطة واضحة لاستغلال الأصول، مع التركيز على مبدأ الاستثمار طويل الأجل.
تحديات نقل أصول الدولة للبنك المركزي: نقل ملكية أصول الدولة للبنك المركزي للتخفيف من أعباء الموازنة ليس حلًا مناسبًا في الوقت الراهن. الأولوية الحالية للبنك المركزي هي خفض معدلات التضخم التي تأثرت بتبعات التوترات الجيوسياسية. الجدير بالذكر أن البنك المركزي المصري مَدّ فترة تحقيق مستهدفات التضخم إلى 9٪ بحلول الربع الرابع من 2026 بدلًا من 2024، و7٪ بحلول الربع الرابع من 2028 بدلًا من 2026. تحميل البنك المركزي بأعباء إضافية قد يؤثر في مهمته الأساسية في هذه المرحلة.
دعوة للحوار واستثمار الموارد: من المهم فتح قنوات حوار مع أصحاب الخبرة لدراسة أنسب السبل لاستدامة المسار النزولي للدين العام. مصر غنية بالموارد التي يمكن استغلالها لتخفيف الأعباء الاقتصادية وتجنب تبعات التوترات الجيوسياسية التي يمر بها العالم والإقليم حاليًا.