يشهد العالم سباقًا محمومًا بين القوى الكبرى لتطوير وإنتاج لقاح فعال لمُواجهة (كوفيد-19)، فبعد إعلان موسكو عن أول لقاح لمكافحة الفيروس شكّك فيه الخبراء الأمريكيون والأوروبيون، فيما بدا أن الصراعات الجيوسياسية بين تلك القوى تنتقل إلى حروب اللقاحات، بحثًا عن مكاسب سياسية واقتصادية، ناهيك عن مواجهة الموجات المحتملة القادمة لذلك الوباء.
من يتوصّل أولًا؟
لم يسبق أن اعتُبر اللقاح سلعة استراتيجية وضرورة للأمن القومي والانتعاش الاقتصادي والصحة العامة كما هو الآن، إذ تم رصد تمويلات بمليارات الدولارات للفوز بهذه المعركة، خاصة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا والهند، حيث تراهن تلك القوى على أن ذلك اللقاح يزيد من قوتها في التوازنات العالمية، وقد أعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، في ١١ أغسطس 2020، أن بلاده توصلت لأول لقاح مُضاد لـ(كوفيد-19) من خلال شركة التكنولوجيا الحيوية “بيوساد”، ويشبه علاج الإيبولا والملاريا، حيث أُطلق عليه “سبوتنيك ٥” نسبةً للقمر الصناعي الذي أطلقه الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة، وكان مؤشرًا على انتصاره آنذاك على الولايات المتحدة في السباق الفضائي.
وُوجه الإعلان الروسي عن اللقاح بشكوك حول سلامته، على الرغم من أن “بوتين” أكد أن وزارة الصحة الروسية أعطت موافقتها بعد خضوع اللقاح للفحوصات اللازمة، وأن إحدى بناته قد تم تلقيحها بالفعل. جاء هذا الإعلان بعد يوم واحد من كشف جامعة أكسفورد البريطانية بالتعاون مع شركة “أسترا زينيكيا” عن نجاح التجارب الأولى للقاح المُشترك بينهما، وقد أشارت تقارير إلى أن إنتاج اللقاح الروسي وتصديره يمكن أن يصبح ميزة جيوسياسية لدور موسكو العالمي، حيث سيعيد تنشيط صادراتها للعالم، خاصة أنها أعلنت تلقّيها طلبات للحصول على مليار جرعة من ٢٠ دولة، كما تخطط لتصنيع اللقاح في عددٍ من الدول منها البرازيل والهند وكوريا الجنوبية وكوبا.
اعتبرت الصين تطوير اللقاح أولوية مُطلقة، من خلال تطوير عقار من أجسام مضادة للمصابين تعافوا من (كوفيد-19)، حيث قطعت بكين خطوات في هذا الصدد، بعد أن جندت الجامعات والشركات الخاصة وقوات الجيش لإنجاح هذه المهمة، كما عملت أكاديمية العلوم الطبية العسكرية ببكين على تجنيد متطوعين للتجارب السريرية، ينما شاركت الولايات المتحدة في السباق العالمي حول اللقاح ضد كورونا، عبر اجتماعات مُكثفة للرئيس “دونالد ترامب”، وشركات الأدوية لضمان سرعة إنتاج ذلك اللقاح، كما مارست واشنطن ضغوطًا على الشركة الألمانية “كيورفاك” من أجل الحصول على حقوق حصرية للقاح. وعليه، نشبت خلافات بين واشنطن وبرلين مما دفع المفوضية الأوروبية إلى رفع سقف الدعم للشركة لإبقائها في الفلك الوطني، وقدمت المفوضية 85 مليون دولار للشركة الحاصلة على تمويل اتحاد اللقاحات الأوروبية.
سلامة اللقاحات
يطور الباحثون في العالم أكثر من 165 لقاحًا ضد كورونا، بينهم 31 لقاحًا في طور التجارب على البشر، حيث تتطلب عادة اللقاحات عدة سنوات من البحث والاختبار، لكن العلماء يتسابقون لإنتاج لقاح آمن وفعال بحلول العام المُقبل، وقد شكّك خبير الأمراض المعدية الأمريكي “أنتوني فاوتشي” في سلامة اللقاحات التي يتم تطويرها حاليًّا في روسيا والصين. وأضاف أن الإعلان عن تطوير لقاح يمكن توزيعه حتى قبل اختباره يطرح مشكلة في رأيه في ظل المختبرات التي تقوم حاليًّا ببيع وعود بلقاح لم يُكتشف بعد.
أمر “بوتين” المسئولين الروس في أبريل 2020 بتقصير وقت التجارب السريرية لمجموعة متنوعة من الأدوية، بما في ذلك لقاحات (كوفيد-19) المحتملة، وفقًا لرابطة منظمات التجارب السريرية الروسية. ووصف خبراء وعلماء في مجال الأوبئة في أوروبا اللقاح الروسي بـالمقلق والمتسرع، بينما وضعت منظمة الصحة العالمية آلية ترخيص مُسبقة للقاحات، إذ يطلب المصنعون الترخيص المُسبق للمنظمة لأنه بمثابة ضمان لنوعه. بالإضافة إلى التصديق الذي تمنحه الجهات المختصة في كل بلد على فعالية اللقاح. ولذا، يتطلب تطوير اللقاح الناجح دقة علمية وعملية خالية من تضارب المصالح المالية والسياسية.
وقد حصل الجيش الصيني على الضوء الأخضر لاستخدام لقاح طورته شركة “كانسينو بيولوجيكس” مع وحدة أبحاث عسكرية بعد إثبات التجارب السريرية أنه آمن وفعّال، وتُعد هذه الخطوة أول استخدام للقاح مُضاد لـ(كوفيد-19) يُطلق عليه اسم “إيه دي 5 إن كوف”، وتخطط العديد من الحكومات لإعطاء الجرعات الأولى من لقاح (كوفيد-19) المُثبت للعاملين في مجال الرعاية الصحية الأكثر تعرضًا للوباء، وتعطي الصين الأولوية للأشخاص على خط المواجهة وتحديدًا الجنود في الجيش.
اتّهامات متبادَلة
اتهمت الولايات المتحدة الصين، في 11 مايو 2020، بمُحاولة سرقة بيانات لقاحات (كوفيد-19) من شركة تكنولوجيا حيوية في ماساتشوستس، فيما نفت الصين أي دور لها في عمليات القرصنة، وحسب المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانج وين بين”، فإن الصين تتصدر العالم في تطوير لقاح (كوفيد-19)، وإنها أكثر قلقًا من أن تَستخدم قراصنة لسرقة تقنيات دول أخرى، من جهة أخرى ذكرت تقارير، في 16 يوليو 2020، أن مجموعة التجسس الإلكتروني الروسية المعروفة باسم APT29 أو”Cozy Bear” سعت إلى سرقة معلومات لقاح (كوفيد-19) من الباحثين في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا. وعليه، أصدرت حكومات الدول الثلاث تحذيرًا قائلة إن هذه المجموعة تستهدف جهود تطوير اللقاح.
وقد رفض “أندريه كيلين” سفير روسيا في بريطانيا، في 19 يوليو 2020، المزاعم بأن قراصنة مُرتبطين بأجهزة المخابرات في روسيا استهدفوا أبحاث لقاح (كوفيد-19)، واتهم بريطانيا بشن هجمات إلكترونية على روسيا، بينما أشار وزير الصحة الأمريكي “أليكس عازار” إلى أن الحصول على لقاح آمن وفعال ضد فيروس (كوفيد-١٩) أهم من أن نكون أول منتج له، لكن “أنتوني فاوتشي” قال خلال جلسة استماع للجنة الفرعية التابعة لمجلس النواب الأمريكي في يوليو الماضي، إن الولايات المتحدة لن تستخدم على الأرجح اللقاحات المطورة في الصين أو روسيا، معربًا عن مخاوفها بشأن الاختبارات التي تمت عليها.
مكاسب استراتيجية
تتشابك الجغرافيا السياسية مع المنافسة على لقاح (كوفيد-19)، حيث تتزايد المخاوف من “قومية اللقاح”، فكل دولة تعطي الأولوية لمصالحها الخاصة داخل حدودها، ومن المتوقع حصول الدولة التي ستطور اللقاح أولًا على الجرعات الأولية لسكانها فقط، وستكون لها القدرة على التعامل مع تداعيات (كوفيد-19) الاقتصادية والجيوسياسية وإعادة تشغيل اقتصادها.
سيتطلب أي لقاح فعال قدرة إنتاجية هائلة لتوفير كميات كافية للطلب العالمي في ظل قيام بعض الشركات باحتكار اللقاحات بهدف التربح، ومن الضروري تطبيق نظام عالمي عادل لضمان حصول جميع البلدان على اللقاحات، حيث تقول رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” إن اللقاح يجب أن يتم نشره بسعر مُناسب لكافة الدول. كما أدلى “ماكرون” بتصريحات مُماثلة في القمة العالمية للقاحات، بأنه عندما يتم اكتشاف لقاح يجب أن يُفيد الجميع باعتباره منفعة عامة عالمية.
لا يمكن تحديد النطاق السعري حاليًّا لأنه لا يزال من غير الواضح عدد جرعات اللقاح التي ستكون ضرورية لتحصين شخص ما، وأيضًا جهود الإنتاج التي سيتم استخدامها لتطوير اللقاح، ويظل في الأخير أن هناك سباقًا بين القوى الدولية لإنتاج لقاح قبل نهاية العام الجاري، تحسبًا لموجة ثانية من وباء كورونا، إذ يحمل هذا السباق في طيّاته صراعًا على الحضور والقيادة، وكذلك توقع تحقيق مكاسب استراتيجية واقتصادية.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية