عمليًا لم تغير تركيا من قواعد الاشتباك في سياستها الخارجية، على النحو الذي ادعت به نهج سياسة الحوار الاستراتيجي في الأزمات التي تفتعلها مع العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، وعادت سريعًا إلى نفس قواعد اللعبة القديمة، بالضغط على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتحسين شروط الصفقات التي يمكن التوصل إليها مع كلٍّ منهما.
خلال الأسابيع القليلة الماضية ظهر أكثر من مؤشر على فشل تلك التكتيكات التركية، فقد استأنفت تركيا المباحثات مع روسيا بشأن صفقة جديدة لصواريخ منظومة S-400، كما أقدم الرئيس التركي على خطوة استفزازية جديدة في مواجهة قبرص واليونان من خلال العودة إلى طرح حل الدوليتن لشطري قبرص، في سياق الإعلان عن إعادة افتتاح منتجع “فاروشا”، وضاعف من الأزمة طلب وزارة الطاقة التركية الحصول على ترخيص جديد من شركة البترول (TPAO) في شرق المتوسط للتنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص (EEZ) جنوب تركيا وشمال قبرص المحتل. وفي ليبيا أيضًا لا تزال تركيا تقاوم الرغبة الدولية في التوقف عن سياسة الباب الدوار مع المرتزقة الأجانب، حيث تعمل على تبديل وإحلال أفواج منهم.
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة والقوى الأوروبية إلى ابتكار وسائل جديدة للضغط، لا سيما في ملف الأزمة القبرصية، فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن “ما يجري استفزازي، وغير مقبول، ولا يتّفق مع الالتزامات السابقة للقبارصة الأتراك للمشاركة بطريقة بناءة في محادثات سلام”، حيث كان من المتوقع أن تستأنف مفاوضات غير رسمية برعاية الأمم المتحدة في هذا الشهر، بعد فشل جولة سابقة في أبريل 2021، ودعا بلينكن مجلس الأمن إلى اتخاذ خطوة حازمة ضد الموقف التركي. كما أعلنت فرنسا بالتزامن مع تلك التطورات عن تسليم اليونان أول مقاتلة “رافال” -من بين 18 مقاتلة تعاقدت عليها- كخطوة رمزية على الموقف التركي الذي وصفته باريس هي الأخرى بـ”الخطوة الاستفزازية”، لتصبح بذلك اليونان أول دولة أوروبية تتسلم مقاتلة فرنسية، وتقول اليونان إن الهدف من إبرام الصفقة هو الحفاظ على وحدة واستقرار أراضيها.
أنصاف صفقات
تعد هذه التطورات إجمالًا هي فشل لرهانات احتواء الأزمات المتعددة الأطراف والمتشابكة الملفات، فقدت راهنت أنقرة على أن تراجع إدارة الرئيس جو بايدن سياساتها تجاه تركيا، فبعد أقل من شهر على وصول الإدارة إلى البيت الأبيض ألمح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن أنقرة يمكنها إعادة تقييم موقفها من منظومة إس–400 إذا ما تخلت واشنطن عن سياسة دعم الأكراد السوريين. وبشكل تفصيلي يبدو أن العرض التركي كان ينطوي على تخرين المنظومة الروسية حيث ضرب أكار –آنذاك- في حديثه مع صحيفة “حريت” التركية أمثلة على احتفاظ دول حلف “وارسو” قبل تفكك الاتحاد السوفيتي بالأسلحة القديمة، ونقل منظومة إس–300 الروسية إلى الجزيرة اليونانية عام 1989 حيث تم تخزينها، وهو توجه جديد لم يكن معلنًا في السابق، حيث كانت أنقرة تبرر موقفها برفض واشنطن خلال العقود السابقة تسليحها بمنظومة “باترويت” الأمريكية؛ إلا أن تقارير أمريكية عديدة ألمحت إلى أن واشنطن لم تعد لديها تحفظات على التباحث حول منح أنقرة المنظومة، لكنهما اختلفا في الشروط الخاصة بالتعاقد عليها.
وفقًا لهذا السياق، أصبح ملف المنظومة الدفاعية بشكل عام ورقة للمقايضة رفضتها واشنطن، وتعاطت بسياسة نصف صفقة في المقابل مع تركيا، فقد أخلت إدارة الرئيس دونالد ترامب الطريق أمام تركيا للانتشار في شمال سوريا؛ إلا أنها احتفظت بقوة عسكرية في المناطق المتاخمة لها وللوجود الروسي بدعوى استمرار الحرب على الإرهاب ضد تنظيم داعش. فيما قامت إدارة بايدن بإنشاء قاعدتين عسكريين جديدتين، وأعلنت واشنطن أن الهدف من تلك الخطوات هو الحيلولة دون تمدد موسكو وطهران في شرق الفرات، ودللت على ذلك بتوجيه ضربتين عسكريتين لمليشيات عراقية موالية لإيران عبر معبر البوكمال حرصًا على عدم تغير موازين القوى في شرق الفرات. واللافت للنظر أيضًا أن روسيا وإيران والنظام السوري كانوا الأكثر اعتراضًا على إنشاء تلك القواعد نظير تركيا التي انتهجت في المقابل سياسة متراوحة بين الاعتراض والقبول بالأمر الواقع، حيث تعترض على الوجود العسكري الأمريكي شرق الفرات من الناحية الشكلية كونه يشكل نوعًا من الإسناد لـ”قسد”، بينما تتقبله ضمينًا خشية أن تملأ روسيا وإيران هذا الفراغ الذي سيغير من طبيعة التوازنات القائمة.
موسكو وتقليص هامش التوتر المكتوم مع أنقرة
تستغل موسكو بدورها فائض التوتر الناجم عن التصعيد التركي في مواجهة الولايات المتحدة والقوى الأوروبية في تقليص هامش التوتر الذي أصاب العلاقات الروسية-التركية. خلال الشتاء الماضي كانت موسكو وتركيا على النقيض في كل الساحات تقريبًا، من ناغورني كارباخ إلى سوريا وحتى ليبيا. ففي سوريا رفضت موسكو طرح المنطقة الآمنة التركية، ووصلا إلى درجة من الصدام المسلح في إدلب. وفي ليبيا كانا على طرفي نقيض خلال معركة طرابلس، ومن المؤكد أن الصدام السياسي كان في خلفيته صدام عسكري بأدوات لا يقر بها أي منهما. ومؤخرًا في كواليس “برلين-2” طرحت ألمانيا خروج مجدول متكافئ ومتزامن بين الجانبين، من المؤكد أن كلاهما أبدى موافقة مبدئية، لكن على المستوى العملي لا يبدو أن أيًا منهما لديه استعداد لذلك.
وفق هذا السياق؛ تشهد العلاقة بين موسكو وأنقرة صعودًا وهبوطًا، لكنهما تمتلكان القدرة على نهج سياسة الاحتواء، فالحد الأدنى من التحالف المشترك يحافظ -في الوقت ذاته- على معادلة طردية أخرى حاكمة لهذه العلاقة، فكلما زاد مستوى خلاف تركيا مع القوى الغربية يوفر ذلك هامشًا لموسكو في استمالة أنقرة. خلال اللقاء الذي جمع وزيري الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره التركي مولود تشاويش أوغلو في 30 يونيو بأنطاليا أكد الأخير أن بلاده لن تتخلى عن منظومة إس–400، كانت تلك رسالة أولى بعد فشل اللقاء بين الرئيسين الأمريكي والتركي على هامش قمة الناتو، وتفادت كذلك موسكو وأنقرة الاحتكاك بشأن بيع أنقرة لكل من بولندا وكرواتيا طائرات دون طيار على الرغم من استياء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الأمر، حيث رفض مناقشة الأمر من خلال وفد تركي كان مستعدًا للسفر إلى موسكو قبيل لقاء أنطاليا، لكن على الأرجح ساعد فشل لقاء بايدن–أردوغان في تمرير الموقف.
سيناريو صعب
لا يعتقد أن دورة العلاقات على هذا النحو سوف تستمر كثيرًا في ظل الاحتكاكات الأخرى بين الناتو وروسيا. تشير تحليلات أمريكية عديدة إلى أن احتمالات الصدام واردة أكثر من أي وقت مضي، ويمكن لموسكو وتركيا تفادي نقطة التصدام طالما كانت الأزمات في منطقة الخلافات السياسية، أو حتى الصدام على خلفية مناطق نفوذ خارجية، لكن تظل هناك خطوط حمراء سيكون من الصعب تجاوزها بأي حال من الأحوال، فقد تعلق أنقرة بين موسكو وواشنطن إذا وقع الصدام بين موسكو والناتو، خاصة وأن موسكو تعتبر منطقة القرم وأوكرانيا في مقدمة خطوطها الحمراء الرئيسية. في هذه الحالة تُشير التقديرات الأمريكية إلى أن أنقرة ستعلق بين الطرفين الروسي الأمريكي في حال ما إذا مرت باختبار عملي، وربما كان حادث السفينة البريطانية Defender التي حيدتها القوات الجوية الروسية في مياه البحر الأسود وكادت تشعل حربًا نموذجًا لاختبار من هذا النوع، وبعد أيام من تلك العملية كانت تركيا أحد أعضاء مناورة “Sea breeze”.
كذلك، بحلول منتصف يوليو الجاري كان هناك تعليق كاشف من نائب سكرتير مجلس الأمن الروسي ميخائيل بوبوف بشأن مناورات الناتو Defender Europe 2021، أشار فيها إلى أن الناتو تدرب على اختراق مناطق الدفاع الروسي في البحر الأسود ومنطقة البلطيق. من الناحية الواقعية فإن تقارير عمليات الناتو والتقارير الروسية تكشف أن الطرفين عمليًا يقدمان نموذج محاكاة حرب محتملة. فخلال مرحلة تدريبات الناتو تقوم روسيا بتعبئة واسعة لقواتها، وتراقب عن كثب التحركات الغربية لما تعتبره تجاوزًا في مياهها الإقليمية. ففي حادث Defender تحركات فرقاطة دورية روسية بالقرب من المدمرة البريطانية، كما حلقت مقاتلة “Su-24M” فوقها، وأطلقت عليها قذائف تحذيرية.
أما السيناريو الأصعب فهو الصدام داخل التحالف، فلم تصمد العبارات الدبلوماسية التي تبادلها الرئيسان التركي أردوغان والفرنسي مانويل ماكرون، والتي قالا فيها على هامش مؤتمر برلين-2 إن الخلافات بين الجانبين أصبحت من الماضي، ليؤجج الملف القبرصي الخلاف مجددًا. وسيضيف هذا الملف إلى الناتو تحديًا جديدًا بسبب تركيا، بعد أزمة إس–400، سيطلق سباق تسلح بين القوى الأوروبية وقوى الحلف، كما طالبت اليونان ألمانيا بشكل مباشر بإرجاء تسليم تركيا 5 غواصات “Reis Class” متبقية من بين 6 متعاقد عليها، وتعتبر اليونان أنها ستكون لها تداعيات على التوازنات في شرق المتوسط، كما خاطب اليونان الولايات المتحدة التي كررت الطلب لدى ألمانيا أيضًا.
في الأخير، من المتصور أن فرص استغلال تركيا لأوراق الضغط في هامش المساحة بين روسيا والقوى الغربية تتقلص إلى حد كبير. على الأرجح أيضًا أن خيارات تركيا المستقبلية إذا ما فرض عليها اصطفاف صريح تجاه أي من الأطراف سيكون مكلفًا. وبالتالي، يمكن القول إن تركيا عادت إلى اللعب بقواعد اللعبة القديمة، لكن لا يشترط أن تستمر اللعبة وفق تلك القواعد. في المقابل، يبدو أن هناك اندفاعًا أكبر نحو صدام داخل الناتو بسبب السياسات التركية في قبرص، وفي ضوء نتائج لقاء بايدن-أردوغان لم تكن تلك النتائج خارج حسابات التوقعات، فواشنطن لا تريد تقديم تنازلات أو القبول بابتزاز تركيا بأي حال من الأحوال. ويجب الأخذ في الاعتبار أن المظاهر العسكرية في شرق المتوسط والبحر الأسود في تزايد مستمر، ليس فقط على مستوى الأنشطة العسكرية، ولكن على مستوى مؤشر تنامي التوتر بين الأطراف في الساحتين في ظل تشابك القضايا وغياب أفق لتسويتها.