تستحوذ قضية تقليص الوجود الأمريكي في بعض أماكن الصراع بمنطقة الشرق الأوسط وأفغانستان على مساحة واسعة من اهتمام الرأي العام الأمريكي خلال زخم الانتخابات الرئاسية. يعود هذا الاهتمام -في جزء منه- إلى شروع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” منذ وصوله إلى البيت الأبيض في 2016 في الحد من الوجود الأمريكي بمناطق النزاع الخارجية، وقد وفر هذا الاتجاه فرصًا سانحة تستغلها العديد من القوى الإقليمية والدولية لإعادة صياغة المواقف والمصالح والتقاربات، وتأسست مجموعة جديدة من التفاهمات وشبكات المصالح بين دول فاعلة رغم العداء التاريخي بينها. ومن أبرز هذه التقاربات التقارب التركي-الإيراني تحت سمع وبصر وحذر روسي ليدفع إلى إعادة قراءة نتائج هذا التغيير، وتأثيراته على مسارح العمليات، خاصة في سوريا وليبيا واليمن والخليج العربي والقرن الإفريقي.
فواعل ثلاثة ورغبات مشروطة
تسعى تركيا إلى إبعاد الولايات المتحدة عن المنطقة، ولكنها رغبة مشروطة بأن تكون أنقرة هي الوكيل الحصري الذي يخدم مصالح واشنطن، وتكون لديها مساحات حركة تسمح ببناء علاقات وتحالفات ومحاور تساعدها في مشروعها للتمدد الإقليمي مع توفير موارد اقتصادية مستدامة خارج حدودها تدعم أهدافها. على الأرض، تعمل ثلاث قوى غير عربية (إيران، وتركيا، وروسيا) لشغل مساحات الفراغ الناشئ عن تصور الانسحاب الأمريكي. وبفضل الأخطاء الاستراتيجية الأمريكية، عززت إيران وجودها ونفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان وبحر قزوين، حيث تعمل إيران جنبًا إلى جنب مع وكلائها، وتزودهم بأسلحة دقيقة تصيب أهدافها خاصة في الخليج، وتقوم بعمليات سرية مزعزعة للاستقرار، ومؤخرًا استخدمت القوة العسكرية المباشرة عبر الحدود وفي المياه الدولية، ويبدو أن قرار واشنطن باستخدام طائرة بدون طيار لقتل اللواء الإيراني “قاسم سليماني” جعل طهران أقل استعدادًا لتهديد الأمريكيين علنًا، على الرغم من استمرارها في هدفها العام المتمثل في إخراج الولايات المتحدة من المنطقة.
على جانب آخر، جاء الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى منصبه بأجندة إسلامية، وقدم نفسه بوصفه الزعيم والخليفة لمسلمي المنطقة، ولا سيما “السنة”، وفي سبيل ذلك تخلّت تركيا عن تقاليدها العلمانية الكمالية في القرن العشرين لصالح إرثها العثماني القديم، وتخلت عن علاقتها “العلنية” السابقة بإسرائيل، وانحازت بدلًا من ذلك إلى جماعة الإخوان المسلمين، وشنت تركيا عمليات عسكرية غاشمة في سوريا والعراق وليبيا، وأقامت قوات عسكرية في قطر التي تشارك تركيا وجهة نظرها حيال جماعة الإخوان المسلمين. وتشارك بفاعلية في اليمن والصومال والسودان. ويهدف الرئيس التركي إلى أن يصبح لاعبًا رئيسيًّا في المنافسة على موارد الطاقة في منطقة شرق المتوسط؛ في حين لا تزال تركيا حليفًا رسميًّا للولايات المتحدة من خلال حلف الناتو. وقد أدت الإجراءات التركية إلى توتر العلاقات الثنائية مرارًا وتكرارًا، الأمر الذي ربما يكون وصل إلى ذروته عندما قررت أنقرة شراء وتشغيل نظام الدفاع الجوي الروسي S-400.
ويأتي اللاعب الروسي فاعلًا ومراقبًا حذرًا؛ حيث تتناقض مصالح روسيا في الشرق الأوسط مع المصالح الأمريكية، فقد شاركت في حرب شرسة لدعم نظام الرئيس السوري “بشار الأسد” في سوريا بالتحالف مع إيران، بالإضافة إلى سعيها لبيع أسلحة متطورة في المنطقة تهدف إلى تهديد الجيش الأمريكي وتوسيع وجوده في البحر الأبيض المتوسط من أجل تهديد الناتو في مناطق نفوذه التقليدية. ولعبت موسكو دورًا دبلوماسيًّا بارزًا، حيث وضعت نفسها في مركز أي قرار في سوريا التي طورت فيها قواعدها البحرية والجوية وأصبحت نقطة ارتكاز وانطلاق محورية في الاستراتيجية الروسية، وبذلك نجحت في تحسين علاقاتها مع إسرائيل وتركيا. وتحاول روسيا القيام بتدخل آخر منخفض المخاطر وعالي المكاسب في ليبيا من خلال إرسال قوات غير نظامية للقتال إلى جانب الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير “خليفة حفتر”، في عودة للشرق الأوسط بقوة بعدما نجحت الولايات المتحدة في إبعاد الاتحاد السوفيتي ووريثته روسيا عن ساحة المنطقة لسنوات.
وفي تحرّك لمواجهة محاولات مد النفوذ في المنطقة نشأ “تحالف جديد” ناشئ بدت بوادره عندما اجتمع مسئولون من الإمارات والبحرين وإسرائيل في واشنطن، حيث تشعر هذه الدول -إلى جانب دول أخرى في الخليج- بتهديد مباشر من إيران وتهديد غير مباشر من جماعة الإخوان المسلمين. إنهم يفضلون الاعتماد على اتفاقياتهم الثنائية التقليدية مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بمتطلباتهم الأمنية، لكنهم يتحوطون ضد مستقبل غير مؤكد من خلال إظهار العلاقات السرية سابقًا إلى العلن، ومن خلال تطوير علاقات جديدة مع الصين، وروسيا التي لا يثقون بها. لطالما كانت فائدة هذا التحالف الخليجي-الإسرائيلي واضحة لطرفيه من منظور أمني واقتصادي، لكنها دائمًا ما تستمر كإشكالية من المنظور الثقافي نظرًا لاستمرار موروث وصدى القضية الفلسطينية. ونتيجة لذلك، فقد ظهر بشكل أبطأ بكثير مما ينبغي، على الرغم من تشجيع الولايات المتحدة لعدد كبير من دول المنطقة على إقامة تحالفات في مواجهة تنامي نفوذ القوى الإيرانية والروسية والتركية التي قد تخرج عن السيطرة.
شواهد التنسيق بين طهران وأنقرة
للمزيد من التحليل والتفاصيل نجد أن هناك عددًا من التقارير والأبحاث التي قد صدرت في كل من طهران وأنقرة ترصد أن إيران وتركيا تعملان بشكل متزايد على تنسيق السياسات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث تتحركان معًا في العديد من القضايا، ونجد أن علاقتهما قد نمت سريعًا لأن كلًّا منهما يعارض وجود الولايات المتحدة في سوريا، ولكل أسبابه التي تبدو مختلفة، ولكن الهدف واحد، ولديهما مصالح مشتركة أخرى، مثل التجارة للالتفاف على العقوبات الأمريكية ومحاربة الجماعات الكردية المنشقة. وهناك أيضًا تنسيق وتفاهم في دعمهم لحماس، وأيضًا خطاب عدائي للاستهلاك الإعلامي تجاه إسرائيل، وخلاف كبير يصل إلى حد العداء مع معظم دول الخليج العربي الرئيسية؛ مما قد يجعل طهران وأنقرة قريبتين بشكل متزايد من القضايا في جميع أنحاء الشرق الأوسط، من اليمن إلى سوريا وليبيا مرورًا بالعراق.
في 15 يونيو الماضي، ذهب وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” إلى تركيا، في اجتماع رفيع المستوى خلال جائحة كورونا (كوفيد –19)، حيث كانت أجندته واضحة: يريد من تركيا أن تساعد في تخفيف العقوبات وحظر الأسلحة؛ ولأجل زيادة التجارة ستساعد إيران تركيا في عدة ملفات، حيث شمل ذلك إعلان إيران بوضوح دعمها لدور تركي في ليبيا وتأييد لتركيا في تجنيد مقاتلين سوريين للقتال في ليبيا حتى تتمكن أنقرة من تأمين ما تدعيه من حقوق التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط والسيطرة على الوضع في الغرب الليبي، ولم تعترض على إرسال تركيا طائرات مسيرة وأسلحة إلى ليبيا لدعم الحكومة في طرابلس ضد الجيش الوطني الليبي.
كما أعلنت إيران دعمها لحكومة الوفاق الوطني الليبية المدعومة من تركيا ومقرها طرابلس، وقال “جواد ظريف” خلال مؤتمر صحفي عقده أثناء زيارته لإسطنبول: “نسعى لحل سياسي للأزمة الليبية وإنهاء الحرب الأهلية، نحن ندعم الحكومة الشرعية ولدينا وجهات نظر مشتركة مع الجانب التركي في الطريق لإنهاء الأزمة في ليبيا واليمن”.
وأشار تقرير لمؤسسة “مودرن دبلوماسي” (Modern Diplomacy) إلى دخول الميليشيا الشيعية العراقية “سارية الأنصار”، والتي تعمل أيضًا في سوريا، إلى الأراضي الليبية لدعم تركيا وتم توقيع اتفاقيات تعاون أمني ودفاعي بين تركيا وإيران، في أعقاب معلومات متداولة إعلاميًّا عن أن سفينة تابعة للحرس الثوري الإيراني قامت بتسليم الأسلحة إلى الميليشيات في ليبيا، وأكد التقرير أن الموارد الطبيعية في ليبيا، هي الهدف الأساسي لهذا التقارب الإيراني التركي، الذي يسعى إلى تشكيل كتلة إسلامية جديدة تضم تركيا وماليزيا وقطر وباكستان وتونس وليبيا. علاوة على ذلك، تسعى كل من أنقرة وطهران للسيطرة على المنافذ البحرية التي تعد استراتيجية جديدة في سياسة البلدين، مشيرة إلى أن تركيا تسعى جاهدة لممارسة المزيد من الضغط على أوروبا لمنحها عضوية الاتحاد الأوروبي. وشددت على أن معظم الأراضي الليبية الشاسعة وموارد النفط مرغوبة بشدة بسبب ندرة الموارد في تركيا، علاوة على ذلك، تريد تركيا بقيادة الرئيس “أردوغان” استعادة وضعها القديم وأراضي الإمبراطورية العثمانية. وأفاد التقرير بأن الموقع الاستراتيجي في الخليج العربي، ومضيق هرمز، وسيطرة أنقرة على مضيق البوسفور، هو الأساس الوحيد للتعاون في مجال الطاقة بين تركيا وإيران، معتبرة أن دعم الميليشيات الإيرانية سيوفر قوة لتركيا في ليبيا، وسيجبر العناصر المناهضة للحكومة على الانحناء أمام حكومة الوفاق غير الشرعية برئاسة “السراج”.
كما نسقت تركيا وإيران لضرب الجماعات المسلحة والمتمردين الأكراد، حين شنت تركيا عمليتي “مخلب النسر” و”مخلب النمر” في شمال العراق في 17 يونيو الماضي بالتنسيق مع طهران، وتهدف العمليات إلى زيادة القواعد التركية في المنطقة الكردية شمال العراق، وإلى محاولة عزل حزب العمال الكردستاني عن حدود إيران. وقد عارضت جامعة الدول العربية والعراق ودول أخرى غزو تركيا وإيران لشمال العراق، حيث بدأت إيران من جانبها في استهداف من تطلق عليهم “الإرهابيين” على الحدود الإيرانية العراقية حيث تتواجد التجمعات الكردية.
ووفقًا للتقارير، فإن فيلق الحرس الثوري الإسلامي، الذي تعتبره الولايات المتحدة جماعة إرهابية، ينسق الآن مع تركيا، وتقول أخبار تسنيم الإيرانية إن الحرس الثوري الإيراني يستعد لمحاربة التهديدات “الإرهابية” من “إقليم كردستان العراق”.
وقد بدأ سعي الحرس الثوري الإيراني للتنسيق السياسي مع تركيا في عام 2014، وتسربت أخبار وتقارير عن عقد اجتماعات سرية في تركيا بين الحرس الثوري الإيراني والتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، وتم خلال الاجتماعات تنسيق تحركات ضد مصر والمملكة العربية السعودية برعاية حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، لذلك ليس من المستغرب أن تعرب مصر ودول الخليج -باستثناء قطر- عن قلقها من دور تركيا وإيران في العراق. وأدانت مصر بشدة في بيان لوزارة الخارجية، في 19 يونيو، الهجوم الإيراني التركي على العراق، كما تم التنسيق بين طهران وأنقرة في الخطاب الإعلامي “الشعبوي” المعادي لإسرائيل لكسب أرضية تؤيد أي تحركات لهذا التحالف الجديد؛ بأن يبدو التنسيق الإيراني التركي في شمال العراق وليبيا موجهًا إلى الأطماع الإسرائيلية و”أعداء الأمة الإسلامية: سنة وشيعة” على حد سواء، فنجد أن وزارة الشئون الدينية التركية تقول للفلسطينيين إنها ستعبئ “الأمة الإسلامية” للدفاع عن القدس من الضم، كما تعهد النظام الإيراني بجعل الوقوف مع الفلسطينيين “أولوية للأمة” أو المجتمع الإسلامي، بل ودعا المرشد الأعلى لإيران إلى “المقاومة المسلحة” في 21 مايو الماضي.
وتشمل الشواهد على التنسيق التركي والإيراني معارضة تركيا للغارة الجوية الأمريكية التي قتلت قائد الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني”، ومحاولة تركيا معارضة العقوبات الأمريكية على إيران، والتي تكررت مؤخرًا في منتصف يونيو الماضي، وكذلك التنسيق الوثيق مع قطر، حليفة تركيا التي لها علاقات وثيقة مع إيران في جميع الملفات.
وأشارت تقارير صحفية واستخباراتية إلى دور تركيا في اليمن، ليس فقط مساندة للدور الإيراني في دعم المتمردين الحوثيين الذين يقاتلون المملكة السعودية والإمارات، بل أيضًا لإيجاد موطئ قدم دائم في ساحل يؤثر على الملاحة في البحر الأحمر. وتقوم تركيا وإيران بالتنسيق في إفريقيا جنوب الصحراء أيضًا، حيث سعت إيران بشكل متزايد إلى دعم الجماعات التي تعمل بالوكالة، وتستثمر تركيا أكثر في التواصل العسكري.
هناك أيضًا العمل الوثيق مع حماس، وهو جزء من العلاقة التركية الإيرانية، فلطالما استضافت تركيا حماس ودعمتها، وكذلك إيران. وكثيرًا ما يحج “إسماعيل هنية” -زعيم حماس- إلى قطر المدعومة من تركيا، ويلتقي مسئولين من روسيا وإيران. زعيم حماس الآخر “خالد مشعل”، موجود أيضًا في قطر لعقد اجتماعات تنسيقية. وفي ديسمبر 2019، زار “هنية” تركيا والتقى الرئيس التركي، وكان “هنية” في إيران لحضور جنازة “سليماني” في يناير 2020.
في النهاية، يمكن القول إنه في ظل منطقة مليئة بالمتناقضات مثل الشرق الأوسط، لا يوجد شيء يسير في طريقه وفق منهج ثابت وخطط مرسومة، فبينما استضافت روسيا إيران وتركيا في محادثات أستانة وسوتشي بشأن الصراع في سوريا، هناك خلافات في بعض الأحيان بينهم. إنهم جميعًا يشتركون في معارضة الدور الأمريكي في سوريا، لكنهم ليسوا على التوافق نفسه في ليبيا، وهنا تدعم روسيا قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة “حفتر”. وبينما -ظاهريًّا- تقف تركيا وروسيا على جانبين مختلفين أيضًا في سوريا، فإن تركيا تقوم بشراء نظام الدفاع الجوي الروسي S-400، وتقوم تركيا وروسيا بدوريات مشتركة في سوريا. وعندما غزت تركيا شمال سوريا وطالبت بانسحاب القوات الأمريكية من هناك، كانت روسيا هي التي توسطت في صفقة مع تركيا، بينما سعت الولايات المتحدة إلى دعم دور تركيا في إدلب وأيضًا في ليبيا، في ظل النظرية القائلة بأن تركيا تتنافس في سوريا وليبيا مع روسيا، ووجدت الولايات المتحدة أن أنقرة تفضل العمل مع روسيا وتقسيم هذه المناطق، لذا فإن واشنطن تراقب الحليف التركي على مدار الساعة وهو يناور ويتحالف مع كل أعداء الولايات المتحدة، وتخطط لتوظيف تلك التحركات في خطوات قادمة محسوبة ستتحدد بعد أن تنتهي حالة الخلل في التوازن الاستراتيجي وغياب تحديد الأولويات التي تعاني منها المؤسسات الأمريكية بعد الانتهاء من ماراثون الانتخابات الشهر المقبل.