دخل قانون “قيصر” للعقوبات الأمريكية الجديدة بحق سوريا حيز التنفيذ في 17 يونيو 2020. وتختلف هذه الحزمة من العقوبات عن سابقاتها بأنها لا تكتفي بمعاقبة الحكومة السورية والأفراد التابعين لها فحسب، ولكنها تمتد لتشمل أيضًا قرارات بتجميد الأصول التابعة للشركات أو الأشخاص الذين يعملون مع الحكومة السورية “بغض النظر عن جنسياتهم”، بالإضافة إلى أصول الجماعات المسلحة، التي –وفقًا للولايات المتحدة الأمريكية- تحصل على دعم مباشر من روسيا وإيران.
ويشتمل القانون على ما يسمح بمراقبة أعمال المصرف المركزي في مجال غسيل الأموال، كما يُجيز لوزير الخزانة الأمريكية أن يحدد ما إذا كان المصرف المركزي السوري منظمة ذات اهتمام رئيسي بتبييض الأموال أم لا، بالشكل الذي يقتضي فرض إجراءات عقابية عليها. وبالإضافة إلى ذلك، يتم بموجب هذا القانون منح الرئيس الأمريكي الحق في فرض العقوبات على الأشخاص الأجانب إذا قاموا بتوفير الدعم المالي أو التقني للنظام السوري، أو التعاقد معه أو حتى مع الحكومة السورية، أو أي من المؤسسات الرسمية أو الكيانات التي تسيطر عليها الحكومة السورية أو أي شخصية سياسية رفيعة المستوى فيها، أو أي شخص أجنبي مُتعاقد عسكريًّا أو مرتزق أو قوة شبه عسكرية تعمل داخل سوريا لصالح حكومتها أو نيابة عنها. وينطبق هذا الأمر على الحكومتين الروسية والإيرانية، أو أي شخصية تطالها أساسًا العقوبات الأمريكية، وذلك على خلفية دعم روسيا وإيران لنظام “الأسد”.
موسكو وردّ الفعل الدبلوماسي على القانون
أعلنت روسيا من خلال مستويات عدة من مسئوليها عن رفضها التام والكامل للقانون، واصفة إياه بأنه غير قانوني، ويهدف إلى الإضرار بمستوى معيشة المواطن السوري البسيط. وبالتزامن مع تاريخ دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، علق “ميخائيل بوجدانوف”، نائب وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مؤكدًا أن روسيا ضد العقوبات بشتى أشكالها، واصفًا إياها بأنها غير قانونية وغير مشروعة على الإطلاق، و”أن هذه العقوبات تضر بطبيعة عمل روسيا مع السوريين، والتي تهدف في الأساس إلى مساعدتهم على تجاوز أزمتهم على أكمل وجه ممكن”. ثم أعلنت وزارة الخارجية الروسية -في بيان لها- عن أن قانون قيصر الذي تدعي الولايات المتحدة الأمريكية أنه يهدف إلى حماية المدنيين السوريين ستترتب عليه أضرار حقيقية على السوريين العاديين. كما أكدت أن واشنطن تدرك تمام الإدراك أن عقوباتها الأحادية المفروضة على سوريا، والتي ستضاف إليها تقييدات جديدة، هي التي كانت بين الأسباب الرئيسية لانخفاض سعر الليرة السورية، وحدوث قفزة في أسعار الوقود والأغذية وغيرها من البضائع الأساسية، الأمر الذي أوقع أضرارًا بالغة على الآلاف من السوريين العاديين الذين يعيشون في ظروف حرجة بفعل هذه التعقيدات.
حساسية التوقيت
أعلنت واشنطن عن دخول قانون قيصر حيز التنفيذ في يونيو 2020، في الوقت الذي تتأزم فيه الأوضاع داخل سوريا بشكل كبير. ففي خلال المرحلة التي سبقت الإعلان عن القانون، كان الوضع الاجتماعي والاقتصادي متأزمًا للغاية. إذ تسارعت معدلات التضخم، وانخفضت العملة السورية بشكل كارثي. ولأول مرة منذ سنوات بدأت الخلافات العائلية التي تنشأ في أعلى مستويات السلطة في سوريا تخرج إلى العلن. كما يتأجج الوضع ويزداد سخونة في مناطق إقامة الدروز، ويطالب الناس بإصلاحات معيشية ملموسة. وهناك أيضًا يوجد حضور قوي للقوات العسكرية الشيعية الموالية لإيران، والتي تؤدي إلى تفاقم الأوضاع من ناحية إسرائيل التي ترى في مجرد وجودها على الأراضي السورية تهديدًا خطيرًا عليهم. كما تظل مشكلة الأكراد عالقة، ولم يتم تحرير إدلب حتى الآن. ويظل الجزء الشمالي من سوريا مفقودًا تمامًا تحت وطأة تيارات التتريك التي تقوم أنقرة بتطبيقها هناك. فيما يحافظ الأمريكيون على تواجدهم في الأراضي السورية، حيث يقع 60% من صناعة النفط السوري.
كل هذه التعقيدات تجري والحكومة السورية الشرعية لم تتراجع عن مخططاتها، بل إنها تعمل على تقوية سلطتها، وإضفاء الشرعية عليها. والدليل على ذلك إجراء الانتخابات البرلمانية في الموعد المقرر لها في يوليو 2020، كما أنه من المقرر أن تُجرى الانتخابات الرئاسية في 2021.
هذا ما يقود إلى ضرورة النظر عبر مسألة أخرى أكثر أهمية، وهي أن رحى المعركة في سوريا تدور بين فريقين: الفريق الأول وهو من يملك الشرعية القانونية اللازمة للحكم، ويتمثل في “بشار الأسد” وحكومته وحلفائه من الروس في المقام الأول ويليهم الإيرانيون. والفريق الثاني، داعمو الإرهاب، أو بمعنى آخر الديمقراطية المُسلحة، وهؤلاء يدعمون المعارضة وكل ما يندرج تحت مظلتها من جماعات مسلحة مناهضة لحكم الرئيس السوري الحالي وكل ما وراءه. وطوال تلك السنوات، احتدمت الخلافات وتأججت في الكثير من الأحيان. ولكن مع كل ذلك، يظلّ السبب الذي يجعل من توقيت دخول قانون قيصر حيز التنفيذ توقيتًا مثاليًّا بالنسبة للأمريكيين وحلفائهم هو حالة الوهن التي أصابت الاقتصاد الروسي منذ بدء مرحلة خضوعه لعقوبات اقتصادية في 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم. تلك الحالة التي قاومتها روسيا بأقصى درجة ممكنة، لكنها اشتدت إلى درجة كبيرة، خاصة في ظل التداعيات الاقتصادية لتفشي فيروس كورونا، وانعكاساتها على انخفاض أسعار الطاقة، مما يجعل روسيا في وضع صعب يتعلق بمدى استعدادها لتلقي أي ضربات اقتصادية جديدة، قد تواجهها بفعل مساعدتها للنظام السوري، وبالشكل الذي يمهد الطريق بشكل غير مسبوق أمام الولايات المتحدة وتركيا وكل المستفيدين من انهيار نظام “بشار الأسد” في سوريا. الأمر الذي قد يدفع الروس للتخلي عن دعمهم له، والانصراف نحو الموافقة على أي اتفاقيات تسوية جديدة يتم تسويتها وصياغتها مع الأمريكيين.
أهداف القانون
تبدو رواية “القيصر” أو بالأحرى المُصور الذي فر حاملًا معه لقطات توثق لحظات التعذيب والقتل والتشويه وما إلى آخره، أكثر اتساقًا من سابقتها حول لغز اللقطات المصورة التي تم تسريبها من مجزرة الغوطة في أغسطس 2013 التي راح ضحيتها نحو 1400 شخص. إذ إنّ السبب وراء تواجد مصورين يرتدون “أقنعة واقية” في خضم “هجوم فجائي” بالسلاح الكيميائي السام، توكل إليهم مهام تصوير الموتى أثناء احتضارهم، أمرًا يظل مُبهمًا وغير مفهوم حتى اليوم الراهن.
وبالعودة مرة أخرى إلى الحرب في سوريا، تجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن إنكار أن روسيا في أعقاب أحداث الربيع العربي بـ2011، استفادت من حالة الانسحاب التي طرأت على السياسات الأمريكية بوجه عام في الشرق الأوسط، ونجحت في خلق مساحات أكبر من التواجد والنفوذ لها عبر أهم بلدان المنطقة، وكان بالفعل لسوريا نصيب كبير من اهتمامات موسكو وحضورها.
لكن تظل الولايات المتحدة تسيطر بالفعل على المناطق التي تحتوي على النسب الأكبر من النفط وموارد الطاقة السورية. وقد لا ترغب واشنطن في التورط عسكريًّا بشكل أكبر من ذلك في المنطقة. لهذا السبب تلجأ إلى استخدام سلاح الاقتصاد، الذي سوف يوجه ضربات قاصمة بشكل مباشر نحو الطرف المقابل لها بالحرب. ومن ناحية أخرى، سوف يفتح الطريق أمام تدخل أنقرة، التي تملك طموحات استعمارية عريضة في منطقة الشرق الأوسط، وتحتاج دائمًا لأن تلعب جميع أدوارها تحت أجنحة التأييد المقدم اليها من جهة طرف دولي ضخم مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو روسيا. وبالطريقة نفسها، يمكن فهم النقلة النوعية التي تحققت على جبهة العمليات القتالية في ليبيا بين الطرفين المتناحرين، لصالح الطرف المدعوم من تركيا، بمجرد أن حصلت على الضوء الأخضر من واشنطن التي لا ترغب في ترك المساحة أمام موسكو لأجل تحقيق المزيد من النفوذ في ليبيا. إذن، المعركة واحدة والمنطقة واحدة، وباستخدام الأدوات نفسها. وفي هذا السياق، يقول “جويل رايبورن”، مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون السورية واللبنانية، إن “الهدف من وراء العقوبات هو منع الأسد من إحراز مكاسب اقتصادية من وراء انتصاراته العسكرية، ومحاصرة النظام السوري، وقطعه عن الأسواق المالية الدولية إلى أن يتم التوصل إلى حل سياسي للصراع”. مضيفًا “أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد بحاجة لإثبات أن الشركة مرتبطة بالأسد، ولكن يكفي أن تستثمر هذه الشركة في أحد قطاعات الاقتصاد السوري”.
وفي الواقع، لم تكد الولايات المتحدة أن تعلن دخول القانون حيز التنفيذ حتى بدأت تركيا بالفعل في نقل كميات كبيرة من عملتها الرسمية (الليرة التركية) إلى الأراضي السورية، لأجل اعتمادها كعملة للتداول في الأراضي التي احتلتها من سوريا. كما أن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، فقد تم إغلاق جميع فروع المصارف السورية ومكاتب البريد بأمر من أنقرة، وهذه الأماكن عادةً ما يتلقى السكان السوريون من خلالها معاشاتهم والمدفوعات المختلفة المُرسلة إليهم من العاصمة دمشق. وبدلًا من ذلك، أصبحت مكاتب البريد التركية تعمل عبر أحد عشر فرعًا في مناطق شمال سوريا، بما في ذلك (عفرين، أعزاز، الراية، مرعى، رأس العين، وتل أبيض). وباستخدام العملة التركية منذ تاريخ دخول قانون القيصر حيز التنفيذ. بمعنى، أن عمليات التتريك للمناطق الشمالية من الأراضي السورية الخاضعة للاحتلال التركي قد بدأت تأخذ زخمًا آخر منذ لحظة دخول القانون حيز التنفيذ، وبدأ بالفعل تحوّل الجماعات المعارضة والموالية لتركيا في هذه المناطق لاستخدام العملة التركية.
موسكو ومواجهة القانون
منذ أن بادرت الولايات المتحدة بتداول الأحاديث حول فرض عقوبات جديدة على سوريا والمتعاونين معها، وموسكو تستمر عبر مختلف مسئوليها في شجب وإدانة الخطوة برمتها. وفي خطاب متلفز تم بثه بمناسبة يوم روسيا 12 يونيو 2020، أكد “ألكسندر إيفيموف”، السفير الروسي لدى دمشق، “أن لا روسيا التي شهدت خلال تاريخها الممتد على مدار الألف عام لحظات أكثر خطورة، ولا سوريا التي نجت من سنوات طاحنة عاشتها في حرب شرسة مع الإرهاب الحقيقي؛ يمكن هزيمتهما باستخدام الإرهاب الاقتصادي”. ولكن السؤال الأهم هو: متى تستطيع موسكو أن تُبقي في قبضتها على دمشق النارية المشتعلة والمحفوفة بالمخاطر؟!
تعاني موسكو -بالفعل- من نزيف حاد في اقتصادها منذ أوائل فترة خضوعها للعقوبات الاقتصادية عقب ضمها للقرم في 2014، مرورًا بمشاركتها في الحرب السورية منذ بدء اندلاعها في 2011، وصولًا إلى تفشي وباء كورونا وتداعياته الاقتصادية وتقلبات أسعار مواد الطاقة في الوقت الراهن في 2020. لذا، من الأجدر التساؤل حول طبيعة القدرات الحقيقية للاقتصاد الروسي، ومدى قدرته على الصمود أمام المزيد من الضربات الموجعة، بالشكل الذي سوف ينعكس على وضع “الأسد”، وإمكانية استمراره في حكم البلاد منفردًا فيما بعد. والواقع أن ما أقدمت عليه موسكو، من تحركات سريعة في الفترة الوجيزة التي سبقت دخول القانون حيز التنفيذ، لا تُبشر بنفس درجة عدم الاكتراث التي تصر روسيا على الظهور بها إزاء القانون الجديد. فقد سارع “بوتين” في أواخر مايو 2020، لإصدار تعليماته لوزارتي الدفاع والخارجية لأجل إجراء محادثات مع سوريا بغرض تسليم منشآت إضافية تشتمل على نقل المزيد من العقارات والمرافق وعدد من المنشآت الأخرى التي يندرج من ضمنها منشآت بحرية. وبالإضافة إلى ذلك، تحركت موسكو لأجل البدء في إنشاء قاعدة جديدة لنفسها في منطقة المالكية، التي تقع داخل الأراضي السورية بالمحاذاة مع حدودها المشتركة مع تركيا. وهو الأمر الذي يعكس حالة التخبط والقلق التي تسبق دخول القانون حيز التنفيذ، ورغبة عميقة من موسكو في استرداد بعض مما أنفقته على الحرب السورية، وتعتقد أنه ديون ملقاة على عاتق النظام ويجب عليه المسارعة لسدادها. بمعنى آخر، فإن موسكو حاولت التعجيل بمراجعة كشف الحساب مع دمشق قبل دخول القانون حيز التنفيذ.
وفيما يتعلق بالمستقبل، قد يكون من المُبكر تصديق اعتزام موسكو الاستمرار في مساعدة دمشق بنفس الوتيرة السابقة، في ظل دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، وفي ظل ما تشهده موسكو من تعقيدات اقتصادية كبيرة، بحيث وجدت روسيا نفسها تقف بين خيارين أحلاهما مُر: إما أن تتخلى عن إنجازاتها ومقدراتها العسكرية الثمينة للغاية في سوريا، أو تتمسك بها حتى النهاية ومن الناحية الأخرى يعاني الاقتصاد الروسي بشكل غير مسبوق. فيما يبقى الطريق بينهما نحو الوسط –المفاوضات مع المعارضة- محفوفًا باحتمالية الانزلاق وراء سلسلة متتالية من التنازلات قد لا يكون لها آخر سوى التخلي التام عن منجزات ما حققته روسيا على مدار الحرب الأهلية الممتدة. كما لا يبقى في يد روسيا سبيل لاتخاذ أي إجراءات ضد القانون إلا عبر المسارات الدبلوماسية الآمنة.