عندما تفتح أي موقع متخصص في حقوق الإنسان، فستجد تاريخ حقوق الإنسان مكتوبا في شكل حلقات متتابعة على النحو التالي: الماجنا كارتا في انجلترا عام 1215، ثم الإعلان الانجليزي للحقوق 1689، ثم إعلان الحقوق والمواطن الفرنسي 1789، ثم إعلان الحقوق ودستور الولايات المتحدة 1791. هل لفت نظرك أن كل هذه الخطوات والمراحل حدثت في الغرب الأوروبي والأمريكي، وأن الشعوب والحضارات الواقعة خارج النطاق الحضاري الغربي لم تقدم إسهاما مهما في تطور مفهوم حقوق الإنسان؟
حقوق الإنسان خطوة تقدمية رائعة في تاريخ البشرية، فالحرية هي بالتأكيد أفضل من القيود، والكرامة أفضل من المهانة، والمساواة أفضل من التمييز، والعدل أفضل من الظلم. غير أن كل هذا لا ينفي التاريخ والأصل الغربي لحقوق الإنسان، وأنها جزء لا يتجزأ من تاريخ الغرب، أكثر منها جزءا من تاريخ إنساني عام وشامل.
في كل حضارة من الحضارات البشرية توجد وقائع ونصوص تعلي من شأن الإنسان وحقوقه، فالشوق إلى الكرامة والعدل هو شأن إنساني مشترك. لكن فقط في الغرب تواصلت حلقات هذه المسيرة لتنتج لنا مفهوما مكتملا لحقوق الإنسان، فيما بقيت مثل هذه النصوص والأحداث في الحضارات الأخرى وقائع منفصلة، تمثل مصدرا للإلهام، لكنها لا تؤسس بناء متصلا متماسكا من المفاهيم والوثائق والممارسات.
سبعة قرون فصلت بين الماجنا كارتا في القرن الثالث العشر، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في القرن العشرين. خلال هذه القرون الغربية السبعة تقدم الغرب تدريجيا من أجل التبني الكامل لحقوق الإنسان؛ وبينما كان التقدم التدريجي نحو إعلاء حقوق الإنسان يحدث، كانت المظالم أيضا تتواصل، بل كان يجري اختراع أشكال جديدة منها؛ وهل هناك ما هو أكثر فظاعة من عنصرية اللون وإجبار البشر من غير أصحاب البشرة البيضاء على الحياة في عبودية؟ أو ما هو أكثر وحشية من معسكرات الاعتقال العنصري وأفران الغاز التي احترق فيها الملايين من اليهود وغيرهم، أو من ظاهرة الاستعمار التي أخضعت ثلاثة أرباع الجنس البشري لملايين قليلة من الأوروبيين.
وجود الوثائق والنصوص الحقوقية لم يمنع حدوث الانتهاكات والفظائع، فقد ظل الغرب يناضل لسبعة قرون من أجل تحويل النصوص إلى قوانين ومؤسسات وممارسة، حتى تحقق له ما أراد أخيرا في القرن العشرين. النصوص الحقوقية المكتوبة ببلاغة لا تحول نفسها تلقائيا إلى واقع، فالأمر لا يتعلق بالنصوص والوثائق بقدر ما يتعلق بظروف المجتمع والثقافة والاقتصاد والسياسة، وما تسمح به من تحويل حقوق الإنسان من نصوص بليغة إلى مؤسسات وقوانين وممارسات وقيم وثقافة. هذه هي خبرة الغرب الطويلة مع حقوق الإنسان، وهي خبرة مفيدة جدا لفهم خبرة البلاد غير الغربية معها.
الخبرة الغربية تعلي من شأن الحقوق الفردية والسياسية، الأمر الذي يمكن ملاحظته بوضوح في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. كان الغرب قد خرج لتوه من أهوال الحرب العالمية الثانية، وقد أصابته الصدمة بسبب الجرائم التي ارتكبها الفاشيون والنازيون. كتبت أوروبا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحت هاجس الفاشية المخيف، فركزت بشدة على الحقوق الفردية المدنية والسياسية ، ولم تهتم بالحقوق الجماعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا بقدر محدود. تعامل الغرب مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كأمر مفروغ منه، ولم لا ونحن نتحدث عن أغنى بلاد العالم، وعن البلاد التي سبقت غيرها في وضع أسس دولة الضمان الاجتماعي.
الأمر يختلف عن ذلك في بلاد العالم الثالث، حيث الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أكبر من مجرد إعادة توزيع الثروة على يد دولة الضمان الاجتماعي. المشكلة في بلاد العالم الثالث الفقيرة ليست في تركز الثروة، لكن في نقص الثروة، بسبب تخلف وسائل الإنتاج والنهب الاستعماري طويل الأجل. الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بلاد العالم الثالث هي الحق في التنمية، وهو حق جماعي، تلعب الدولة دورا أساسيا لتحقيقه، وهو بالتالي من نوعية مختلفة عن فئة حقوق الإنسان الفردية التي تمثل الجزء الأعظم من المفهوم الغربي لحقوق الإنسان.
المفهوم الغربي لحقوق الإنسان معاد للدولة والقومية، الأمر الذي يمكن فهمه في إطار الخبرة الغربية. الدولة الفاشية هي التهديد الأكبر لحقوق الإنسان، وفي مواجهتها تمت بلورة مفهوم حقوق الإنسان في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تقييد سلطة الدولة هو مربط الفرس في المفهوم الغربي لحقوق الإنسان، ولهذا جاء المفهوم الغربي لحقوق الإنسان متمحورا حول الحقوق الفردية. وصلت الدولة الغربية إلى ذروة طغيانها عندما رفعت شعارات القومية العنصرية، ولهذا نظر الغربيون بشك عميق للقومية والوطنية والهويات الجماعية الشبيهة بها، وأعلوا بدلا من ذلك حقوق الإنسان الفرد المتحرر من الانتماءات والهويات الجماعية. الفاشية، هي القومية المتطرفة التي تحتقر الآخر القومي والعرقي، وهي اختراع أنتجته المجتمعات الغربية المتقدمة تحت ظروف معينة، فوجدناها في اليابان وألمانيا وإيطاليا، وهي خبرة تختلف تماما عما تعرفه بلاد العالم الثالث النامي.
الدولة في البلاد النامية هي أداة تحرر وتنمية في المقام الأول. قد تستبد الدولة العالم ثالثية أحيانا بشعبها، وهذه نقيصة كبيرة تحتاج إلى تصحيح، لكن الدولة تظل أداة لا غنى عنها للتحرر من السيطرة الخارجية، ولتهدئة الصراعات الاجتماعية، ولتحقيق التنمية. القومية والوطنية في بلاد العالم النامي ليست إيديولوجيات لإخضاع الأقليات والهيمنة الإمبريالية، لكنها أداة الدولة لتمتين النسيج الاجتماعي ومعالجة الانقسامات العرقية والدينية.
حقوق الإنسان هي ابتكار غربي بامتياز، مثلما جاءت ابتكارات كثيرة رائعة من الغرب، ونحن نحتاج هذا الابتكار الغربي، مثلما نحتاج الطائرة والسيارة والقطار والمصنع والجامعة والتكنولوجيا والبحث العلمي. قد نستورد السيارة والطائرة من الغرب، ولكننا نظل محرومين فعلا من امتلاكها، حتى نزرع في تربة بلادنا العلوم اللازمة لإنتاجها. بالمثل، فقد نعيد طباعة وثائق حقوق الإنسان في مطابعنا، لكنها تظل غريبة عنا، حتى نكيفها ونوطنها في المجتمع والثقافة والسياسة المحلية. هذا هو جوهر التحدي الذي تواجهه مجتمعاتنا.
ــــــ
نقلا عن جريدة الأهرام، ١٥ أبريل ٢٠٢١.