تُواجه منطقة الساحل الإفريقي حالةً من انعدام الأمن وعدم الاستقرار بشكل مُتزايد، وينطبق ذلك بشكلٍ خاصٍ على دول الساحل الأوسط الثلاث (مالي، والنيجر، وبوركينافاسو)، حيث تصاعدت أعمال العنف خلال الأشهر الماضية. علاوةً على ذلك، لا تزال تَشهد المنطقة ظروفًا استثنائية بسبب تغير المناخ، مما أدى إلى نزوح عشرات الملايين من الأشخاص. على الجانب الآخر، اعتُبر عام 2020 منعطفًا حرجًا لسياسة الاتحاد الأوروبي في منطقة الساحل نتيجة تنامي التحديات التي واجهت الدول الأوروبية العاملة في هذه المنطقة في المجالات العسكرية والإنسانية، حيث ارتفعت أعمال العنف والانتهاكات ضد المدنيين أثناء عمليات مُكافحة الإرهاب، مما زاد عدد الضحايا، وحوادث العنف، والنازحين، وإغلاق المدارس، وانعدام الأمن الغذائي، وتزايد الحاجة إلى المساعدات الإنسانية الطارئة. وتبعًا لذلك، أطلق الاتحاد الأوروبي استراتيجيته الجديدة لمنطقة الساحل الصادرة عن المجلس الأوروبي بتاريخ 16 أبريل 2021، حيث تُركز الاستراتيجية على عدد من المبادئ المتكاملة التي تعد مدخلًا لتجاوز أزمات الإقليم، وفي مقدمة هذه المبادئ تسعى الاستراتيجية الأوروبية لإرساء قواعد الحوكمة في دول الساحل، فضلًا عن إقرار مُكافحة الإفلات من العقاب، وتعزيز المساءلة.
وبعد مرور أكثر من عشر سنوات من إصدارها للمرة الأولى عام 2011، تَمت مُراجعة استراتيجية الاتحاد الأوروبي لمنطقة الساحل الإفريقي، وذلك بعد أن خصص الاتحاد الأوروبي المليارات لمشاريع التنمية وبناء المؤسسات والمساعدات العسكرية والإنسانية في المنطقة خلال العقد الماضي، بدافع احتواء حركات الهجرة والمُساهمة في جهود مُكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار، وهي الجهود التي لم تُحقق النتائج المرجوّة بما فرض إخضاع فعالية وتأثير سياسات الاتحاد الأوروبي في منطقة الساحل للتدقيق والمراجعة.
وقد تعرّضت استراتيجية الاتحاد الأوروبي بشأن الأمن والتنمية في الساحل لعام 2011 لانتقادات شديدة بسبب عدم مُشاركة المجتمع المدني في تطوير خطة الاتحاد الأوروبي للمنطقة، وإعطاء الأولوية للأهداف الأمنية الأوروبية قصيرة المدى للسيطرة على مستويات الهجرة والإرهاب من إفريقيا للانتقال إلى أوروبا، وليس من أجل إعادة بناء الدولة في هذه المنطقة المضطربة. وعلى الرغم من صدور وثيقة مكملة عام 2015 حملت اسم “خطة العمل الإقليمية الأوروبية في الساحل”، إلا أنها اهتمت بالأساس بتنسيق الجهود المدنية والعسكرية. وعلى العكس من الوثائق السابقة، تأتي الاستراتيجية المتكاملة للاتحاد الأوروبي في الساحل الإفريقي الصادرة عام 2021 لتصب الاهتمام على البعد السياسي للأزمات من أجل ضمان معالجة عميقة لكافة المشكلات على مستوى جذري.
الحوكمة.. أولوية استراتيجية
يعود مفهوم الحوكمة لتصدر قائمة أهداف الاستراتيجية الأوروبية الجديدة في الساحل الإفريقي. ففي الاستراتيجيات الأوروبية السابقة، ظلت الجهود المبذولة لمُعالجة مشكلة الحوكمة تالية من حيث أهميتها للجهود في مجالي الأمن والتنمية. ومع تدهور الوضع الأمني وزيادة أعداد الضحايا المدنيين، واتساع دائرة العنف بكافة أشكاله في عدة مناطق من الساحل الإفريقي، وتفاقم مؤشرات تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الإقليم ومد جذوره العميقة داخل العديد من المجتمعات المحلية؛ بدت أهمية معالجة أزمات الإقليم المضطرب على مستوى أكثر عمقًا بما يمكن أن يحسن من عملية صنع السياسات ذاتها.
وعلى أرض الواقع، يُعدُّ عام 2021 عام انتقال السلطة والتحوّلات السياسية بما فرض إعادة التفكير في كافة مؤشرات الاستقرار في منطقة الساحل الإفريقي، حيث جدّدت انتخابات بوركينافاسو تشكيل الحكومة ومجلس النواب بعد انتخابات أُجريت في سياق مضطرب، ومنحت جولة الإعادة في انتخابات النيجر رئيسًا جديدًا للبلاد في 21 فبراير 2021. وتُواصل مالي عملية الانتقال السياسي بعد الانقلاب الثاني في مايو 2021، فضلًا عن التغيير الاضطراري الذي شهدته تشاد بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي على الرغم من انتخابه لولاية جديدة في أبريل. ولذا تحوّل اهتمام الاتحاد الأوروبي إلى قضية الحوكمة من خلال تطوير إجراءات اللا مركزية والمساءلة المُتبادلة، وتعزيز دور المجتمع المدني، ومُكافحة الإفلات من العقاب، والمساعدة في حماية حقوق الإنسان. وقد تجسدت هذه المبادئ في الاستراتيجية الأوروبية على النحو التالي:
اللا مركزية ودور المجتمع المدني:
تُشير الاستراتيجية الأوروبية الجديدة إلى أهمية التركيز على المجتمع المدني والسلطات المحلية. وتعتبر المساءلة المُتبادلة قضية أساسية فيما يتعلق بالأموال المُقدمة لحكومات منطقة الساحل، ويجب ألا تشمل فقط المساءلة بين قادة منطقة الساحل والمانحين الأوروبيين، ولكن أيضًا بين القادة ومواطنيهم لمتابعة إنفاق الأموال الأوروبية، ويجب على الاتحاد الأوروبي الانخراط بشكل مُكثف مع المجتمع المدني للمساعدة في بناء الثقة بين دول الساحل ومواطنيها، ومُكافحة قضايا سوء الإدارة التي تُعزز الصراعات وعدم الاستقرار.
مُحاربة الإفلات من العقاب وبناء الثقة:
تُقر الاستراتيجية الأوروبية أهمية توطيد نظام قضائي بمصداقية، ومُحاربة الإفلات من العقاب لتعزيز الثقة بين الحكومة وسكان المناطق المتأثرة بالإرهاب لتحقيق قدر أكبر من الاستقرار، حيث تُشير الاستراتيجية إلى مُكافحة الإفلات من العقاب وانتهاكات حقوق الإنسان والفساد من خلال تقديم دعم مالي لقطاعات المجتمع والإدارة العامة الأكثر انخراطًا في ملف العدالة الاجتماعية، مع المُطالبة بوجود قانون محايد للتصدي للعنف الأهلي، وتدريب ودعم المسئولين في القطاع القضائي.
الالتزام بمعايير متقدمة لحقوق الإنسان:
ترى الاستراتيجية الأوروبية أولوية ضمان حماية المدنيين كشرط أساسي لأي تدخل أمني، فمنذ عام 2018 دعا الاتحاد الأوروبي إلى اعتماد إطار الامتثال لحقوق الإنسان وحماية المدنيين من قِبل القوة المشتركة لمجموعة الساحل الخمس G5، وذلك في إطار مُبادرة تحديد ومُراقبة وتحليل الأضرار التي تلحق بالمدنيين Monitoring and Analysis of Civilian Victims المعروفة اختصارًا باسم ميساد MISAD، وكان الإطلاق الرسمي لهذه المُبادرة في السابع والعشرين من يناير 2021. لكنّ التركيز على إعادة الانتشار الأمني السريع من جانب القوات المُسلحة غير المدربة في مناطق غير آمنة، وإرسال الجنود لمحاربة الجماعات المُسلحة دون المعدات اللازمة، أتاح فرصة كبيرة لارتكاب قدر كبير من الانتهاكات بحق المدنيين.
تجاهل قضايا رئيسية ومُتطلبات حاسمة
تقوم الاستراتيجية الأوروبية الجديدة على إعادة ترتيب الأولويات، حيث لا تكفي استراتيجية 2021 لمُعالجة دوافع العنف وعدم الاستقرار في المنطقة؛ إلا أن الكثير من التحليلات التالية على إصدار الوثيقة قدرت تجاهلها لعدد من القضايا الرئيسية التي تساهم في صنع بيئة ملائمة لمكافحة الإرهاب في الساحل والتي تتمثل أساسًا في قضيتين، هما:
- تعزيز المشاركة المدنية في صنع السياسات: وذلك من خلال ضمان أن يكون مواطنو منطقة الساحل أولوية في نهج الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة. ففي حين أن استراتيجية الاتحاد الأوروبي لعام 2021 تعترف بالحاجة إلى المشاركة مع شعوب منطقة الساحل؛ إلا أنها فشلت في تضمين أصوات قطاعات عريضة من مواطني بلدان الساحل في تطوير الاستراتيجية، وبدون مُشاركة شعوب الساحل في قرارات سياسة الاتحاد الأوروبي المُتعلقة بالمنطقة؛ سيفشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق نتائج دائمة، ويجب على بروكسل توسيع الحوار إلى ما وراء الممثلين الرسميين لدول الساحل، وأن تبذل جهودًا أكبر لتضمين آراء المواطنين، خاصة في المناطق الأكثر تضررًا من الإرهاب.
- الالتزام بمكافحة آثار تغير المناخ: تذكر الاستراتيجية الأوروبية الجديدة بإيجاز العوامل المُتعلقة بالتحديات المناخية في منطقة الساحل، ومع ذلك لا يزال هناك نقص في مُعالجة الصعوبات المتزايدة لتغير المناخ في المنطقة، ووضع تغير المناخ في مقدمة الاستراتيجية أمر بالغ الأهمية، حيث يستمر تغير المناخ في تفاقم مستويات الجوع وسوء التغذية مع زيادة تعرض المنطقة للأوبئة وتفاقم الأزمات الاقتصادية والأمنية، حيث اضطر مواطنو دول الساحل إلى الهجرة والنزوح بأعداد متنامية بسبب المستويات غير المسبوقة من الفيضانات في موسم الأمطار الأخير والتي زادت بنسبة 180٪ منذ عام 2015. علاوةً على ذلك، ساهم التنافس على الموارد الطبيعية في تصاعد العنف في المناطق الريفية بسبب التغيرات المناخية.
وختامًا، يظل على الاتحاد الأوروبي ودول منطقة الساحل الإفريقي العمل معًا من أجل بناء أطر استراتيجية مشتركة لمُعالجة التحديات، والاستفادة الكاملة من الفرص الاقتصادية والشراكة المربحة للجانبين، وتدارك الأخطاء السابقة في مُحاربة الجماعات الإرهابية، ودعم جهود إصلاح قطاع الأمن، وحماية المدنيين بعد نحو عقد من الاضطرابات المتنامية في هذه المنطقة التي أصبحت من بين أكثر مناطق العالم خطورة.