تبلورت جهود المبعوث الأممي لليمن “مارتن غريفيث”، في التوصل إلى تفاهمات بشأن الأزمة اليمنية خلال مفاوضات السويد التي عُقدت في الفترة 6 إلى 13 ديسمبر 2018، أعقبها صدور قرار مجلس الأمن رقم 2451 بالإجماع، ليحول تفاهمات استكهولم من تفاهمات شفهية إلى وثيقة دولية. لكنّ الأمر الأكثر لفتًا للنظر يكمن في التحول الكبير الذي انتاب موقف الجماعة الدولية بشأن الأزمة اليمنية، والذي ظهر جليًّا في التباين الشديد بين قرار مجلس الأمن رقم 2216 الصادر في أبريل 2015، وقراره 2451 الصادر في 21 ديسمبر 2018، وهو ما يثير تساؤلًا حول أساب التحول في الموقف الدولي، ودلالات هذا التحول.
القراران (2216) و(2451).. مظاهر التباين
أصدر مجلس الأمن قراره رقم 2216، متضمنًا عددًا من المطالب الصريحة من الحوثيين، شملت: وقف استخدام العنف، وسحب قواتهم من جميع المناطق التي سيطروا عليها بما في ذلك العاصمة صنعاء، والامتناع عن أي تهديد للدول المجاورة، والإفراج عن وزير الدفاع اليمني اللواء “محمود الصبيحي” وجميع السجناء السياسيين والأشخاص الموجودين تحت الإقامة الجبرية والموقوفين تعسفيًّا، بالإضافة إلى الكفّ عن تجنيد الأطفال في صفوف قوات الحوثيين.
في المقابل، تضمّن قرار مجلس الأمن رقم 2451 تأكيده أن الحل لن يتم إلا من خلال عملية سياسية شاملة، استنادًا إلى المرجعيات الثلاث (نتائج مؤتمر الحوار الوطني، مبادرة مجلس التعاون الخليجي، قرار مجلس الأمن رقم 2216). لكن كان ملحوظًا أن القرار لم يتطرق إلى إدانة مباشرة للحوثيين، واكتفى بدعوته إلى تنفيذ التفاهمات التي تم التوصل إليها في استكهولم بخصوص مدينة وميناء الحديدة، وميناءي صليف ورأس عيسى، وتفعيل اتفاق تبادل السجناء وبيان التفاهم بشأن تعز، فضلًا عن إنشاء بعثة أممية لمراقبة التزام الطرفين بالتهدئة.
لقد صدر قرار مجلس الأمن رقم 2216 عقب الانقلاب الحوثي مباشرةً على الدولة اليمنية والنظام الشرعي، مما دفع المجتمع الدولي إلى التعامل مع الحوثيين باعتبارهم ميليشيا مسلحة قامت بالانقلاب على السلطة الشرعية والسيطرة على بعض المحافظات باستخدام القوة. ومن ثمّ كان طبيعيًّا أن يصدر القرار متضمِّنًا إدانة مباشرة للحوثيين. على جانب آخر، صدر القرار 2451 في سياق محلي ودولي مختلف، وفي ظل ظروف قادت إلى دعوة الحوثيين للمشاركة في مباحثات استوكهولم كفصيل داخلي يتمتع بنوع من الشرعية، فيما اعتبر بمثابة نوع من الاعتراف الضمني بسلطة الحوثيين كسلطة أمر واقع، رغم تأكيد المبعوث الأممي عدم منح الحوثيين اعترافًا رسميًّا.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تمت الاستجابة للشروط المسبقة التي وضعها الحوثيون من أجل المشاركة في المباحثات. أضف إلى ذلك عدم توجيه إدانة مباشرة لهم، حيث تم التعامل معهم على قدم المساواة مع الحكومة الشرعية. فضلًا عن عدم ممارسة أي شكل من أشكال الضغط عليهم، بل على العكس سارت الأمور في إطار “التفاهمات” المرزمة للطرفين. كما لم يتم إدانة التعنت الحوثي بشأن فتح مطار صنعاء، أو دعم البنك المركزي اليمني. وأخيرًا، لم تتضمن المباحثات أي دعوة لإلقاء السلاح وتوحيد الجبهة الوطنية، الأمر الذي يُعطي نوعًا من الشرعية الضمنية للحوثيين.
في هذا الإطار، صدر قرار مجلس الأمن رقم 2451 بصيغة تخاطب طرفي الأزمة باعتبارهما أقرب إلى كونهما طرفين متساويين، يتمتعان بنفس الدرجة تقريبًا من المسئوليات والشرعية. كما لم يتضمن القرار أداة محددة لإجبار الأطراف على الالتزام بما جاء بالقرار. ومن ثمّ، ليس لدى الحكومة الشرعية أداة لمواجهة خروقات الحوثيين. وكذلك، فإنه في حالة قيام قوات التحالف العربي بشن هجوم مضاد لمواجهة هذه الخروقات، فسيتم النظر إليه باعتباره خرقًا لقرار مجلس الأمن. فضلًا عن أن البعثة الأممية التي سوف يتم إرسالها سينحصر دورها في مراقبة التنفيذ المتبادل للالتزامات، وليس في تعزيز سلطة الحكومة الشرعية وتوسيع دورها وتأثيرها.
وبالإضافة إلى اختلاف السياق الإقليمي والداخلي الذي صدر فيه القراران (2216) و(2451)، فإنّ هناك مجموعة من العوامل الأخرى التي يمكن أن تفسر لنا التباين السابق بين مضمون القرارين. وأبرز هذه العوامل: القوة المتزايدة للحوثيين بفعل الدعم والتأييد الإيراني، ومحاولة تحجيم الدور السعودي المتزايد في المنطقة، والتداعيات التي خلّفتها أزمة مقتل الكاتب “جمال خاشقجي” داخل القنصلية السعودية في تركيا، ومحاولة القوى الدولية الكبرى إيجاد أساس لوجود دولي على البحر الأحمر وباب المندب، وغيرها من العوامل.
مستقبل الأزمة اليمنية
استنادًا إلى الشواهد والمعطيات الإقليمية والدولية المحيطة بالأزمة اليمنية، والتطورات الأخيرة فيما يتعلق بطريقة تعاطي المجتمع الدولي مع الأزمة؛ يمكن طرح أربعة سيناريوهات لتطور الأزمة خلال المرحلة القادمة:
السيناريو الأول- استمرار الأزمة: جوهر هذا السيناريو فشل وانهيار التفاهمات التي تم التوصل إليها في استكهولم، ومن ثم عودة الاشتباكات المسلحة بين الطرفين، الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، وعودة استهداف الحوثيين للأراضي السعودية. وقد يتطور الوضع إلى قيام الحوثيين بتهديد الملاحة في البحر الأحمر. وقد يقود تطور هذا السيناريو إلى مزيدٍ من الضغط والتدخل الدولي لحماية الأمن في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
السيناريو الثاني- تكرار نموذج “حزب الله” بطبعة “يمنية”: يستند تطور هذا السيناريو إلى “الشرعية” الدولية التي حصل عليها الحوثيون خلال مباحثات استكهولم التي وضعتهم في إطار “الفصيل الوطني” الذي يجلس على طاولة المفاوضات ندًّا لندٍّ مع الحكومة اليمنية الشرعية، الأمر الذي قد يدفعهم إلى شرعنة سلطتهم ونفوذهم الداخلي على شاكلة نموذج “حزب الله” في لبنان. كما قد يتطور الأمر إلى إعطاء الحوثيين حكمًا ذاتيًّا ليس فقط داخل صعدة وإنما داخل المدن المحيطة التي تمت السيطرة عليها. وسوف يترتب على هذا السيناريو استمرار ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في الداخل اليمني، ووجود تشكيل مسلح يناوئ سلطة الدولة، ويسعى لتحقيق مصلحته الخاصة على حساب مصلحة الدولة اليمنية.
السيناريو الثالث- استمرار الهدنة لفترة مؤقتة ثم تجدد الأزمة على نطاق واسع: يعتمد تطور هذا السيناريو على المكاسب التي حققها وسوف يحققها الحوثيون، من تفاهمات استكهولم، وأهمها الحفاظ على ميناء الحديدة بعيدًا عن سلطة الحكومة الشرعية، حيث يُعد هذا الميناء البوابة الإيرانية لإمداد وتقوية الحوثيين، الأمر الذي قد يدفع الحوثيين إلى قبول الهدنة بشكل مؤقت حتى يتم إعادة بناء صفوفهم من جديد، ثم الشروع في القتال مجددًا على نطاق أوسع لضم أكبر عدد من المدن اليمنية. وقد يترتب على هذا السيناريو إما تحقيق الهيمنة الحوثية كاملة، أو تدخل القوات العربية في عملية عسكرية كبرى وباهظة التكلفة المادية والبشرية في اليمن.
السيناريو الرابع- استمرار التهدئة مع تعثر الحل السياسي: يقوم هذا السيناريو على تنفيذ التفاهمات التي تم التوصل إليها في استكهولم وقرار مجلس الأمن 2451 فيما يرتبط بالأبعاد الإنسانية، وذلك بفضل جهود المراقبة الدولية. إلا أن التفاهمات ستتوقف فقط عند حدود الأمور الإنسانية، ولن ترتقي إلى تفاهمات سياسية، لأن الحكومة الشرعية لن تتخلى عن سلطتها، ولن تقبل بغير استردادها. وفي المقابل، لن يتخلى الحوثيون عن المكاسب التي حققوها. وقد يترتب على هذا السيناريو دخول الأزمة اليمنية إلى حالة من الصراع السياسي الممتد.وباستعراض السيناريوهات الأربعة السابقة، يبدو أن فرص الوصول لتسوية سياسية سلمية طويلة الأمد للأزمة اليمنية لا تزال ضئيلة جدًّا أيًّا كان السيناريو الذي سيتحقق بالفعل. لذا فإن إيجاد حل للأزمة اليمنية يتطلب دبلوماسية نشطة من دول التحالف العربي على مستوى العلاقات الثنائية، أو داخل المحافل الدولية لتعزيز الرؤية العربية بشأن اليمن، وإيجاد حل يضمن وحدة اليمن وسلامة أراضيه. فضلًا عن استمرار تشكيل قوات التحالف العربي وتقويتها ووضعها في حالة استعداد دائم. بجانب العمل على بناء ممرات إنسانية، والشروع في إعادة إعمار المناطق المحررة. وأخيرًا، ضرورة تعزيز دور “تكتل دول البحر الأحمر وخليج عدن” للحيلولة دون حدوث أي تأثير سلبي للمناوشات والاشتباكات على هذا الممر المهم.