لم تكن تحركات الرئيس التونسي “قيس سعيد” في الـ25 من يوليو 2021، باللجوء للفصل 80 من الدستور التونسي مفاجئة للمتابعين لتطور الأحداث والمشهد العام في تونس، إذ إن تلك الإجراءات لها ما يبررها خاصة في ظل تفاقم الأوضاع على مختلف الأصعدة. وعلى الرغم من حالة التأييد لتلك القرارات من جانب عدد من القوى والأحزاب السياسية التونسية، إلا أنها أثارت عددًا من التساؤلات يأتي في مقدمتها مستقبل حركة النهضة الذراع السياسي لجماعة الإخوان في تونس.
ولا يغيب عن أحد مستوى الاحتقان المجتمعي والمؤسسي ضد حركة النهضة وسياساتها التي تسببت في دخول تونس في حالة من الضبابية والارتباك سواء فيما يرتبط بالأوضاع الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية. وفي هذا السياق، ومع تباين ردود الفعل على الصعيدين الداخلي والخارجي، يمكننا الوقوف على موقف أنقرة من تلك الأحداث، في ظل العلاقة الترابطية بين تركيا وحركة النهضة التونسية والتي تأتي في سياق رعاية تركيا لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة.
انحياز مبرر
المتابع لردود الفعل الدولية المعلنة حتى الآن، يلاحظ أنها تتسم بالاتزان والتأكيد على أهمية الحوار، إلا أن الموقف التركي بدا مُنحازًا، إذ نظر عدد من المؤسسات داخل أنقرة لقرارات “قيس سعيد” على أساس أنها انقلاب على الدستور، ويكاد موقف أنقرة أن يكون الوحيد على مستوى ردود الفعل الدولية الذي وصف ما جرى في تونس بالانقلاب الدستوري.
بالرغم من تبني بعض القوى والكيانات الخارجية ذات الرواية التركية، وهو ما ظهر في تصريحات “خالد المشري” القيادي الإخواني ورئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، علاوة على رئيس حركة مجتمع السلم ” عبد الرزاق مقري” –أكبر حركة إسلامية في الجزائر- ومع ذلك يظل موقف “المشري” و”المقري” معبرًا عن توجه فردي لا يمثل الدولة الليبية أو الجزائرية؛ فالحكومة الليبية الموحدة لم يصدر عنها أي موقف بخصوص التطورات في تونس، وتبنت الجزائر موقفًا يتسم بالحياد وعدم الانحياز، خاصة أن الجزائر تستهدف الحفاظ على استقرار تونس والحيلولة دون وقوعها في حالة من الفوضى التي قد تؤثر عليها بشكل مباشر، في ظل حالة السيولة والتوترات الحدودية لدول الجوار الجزائري (مالي، النيجر، ليبيا) ومن هنا تتخذ الجزائر موقفًا مساندًا للاستقرار وداعمًا لتثبيت ركائز الدولة؛ خوفًا من اشتعال جبهة جديدة على حدودها يمكن أن تؤثر على أمنها القومي.
ترتيبًا على ما سبق يمكننا تفسير موقف تركيا الرافض لإجراءات الرئيس التونسي في ضوء عدد من الأسباب والدوافع والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
أولًا: التقارب الأيديولوجي، يتشكل الموقف التركي الداعم لإخوان تونس من خلال التقارب الأيديولوجي والتوافق بين حزب العدالة والتنمية وحركة النهضة، في ظل التناغم الفكري بينهما حيث يرى “الغنوشي” أن تجربة العدالة والتنمية نموذج يمكن الاقتداء به وتطبيقه في الحالة التونسية، علاوة على التقارب على المستوى الشخصي بين “أردوغان” و “الغنوشي” والتي عبرت عنها زيارة الأخير إلى أنقرة في يناير 2020، وذلك في أعقاب فشل حركة النهضة في تمرير حكومة “الحبيب الجملي”. وقد أثارت تلك العلاقة ردود فعل غاضبة في الأوساط التونسية، وصلت إلى حد المطالبة بسحب الثقة من الغنوشي؛ إذ رأى عدد من القوى أن “الغنوشي” يخلط الأوراق ويمارس تحركات خارجية وصلاحيات تتجاوز صلاحيات منصبة، ورأى البعض أن تحركات “الغنوشي” تقود إلى وضع تونس في المحور التركي في عدد من الملفات الحيوية وعلى رأسها الملف الليبي، وهو ما ترفضه التيارات والقوى المناهضة للنهضة في الداخل التونسي والتي عبرت عن غضبها من تهنئة “الغنوشي” لرئيس حكومة الوفاق السابق ” فايز السراج” في أعقاب نجاح ميلشياته المدعومة من تركيا في السيطرة على قاعدة الوطية في مايو 2020. وعليه يمكن أن يفسر التقارب الأيديولوجي بين العدالة والتنمية وحركة النهضة، وكذا التناغم بين شخصية الرئيس التركي وزعيم النهضة، الموقف التركي الأخير بشأن التطورات الجارية.
ثانيًا: الرغبة في الحفاظ على الوكيل الأخير، سعت أنقرة إلى استغلال أحداث 2011 لتوسيع نفوذها وتعزيز طموحها الإقليمي في الدول التي شهدت حراكًا شعبيًا، وقد ارتكزت في إطار تحقيق أهدافها على رعاية جماعة الإخوان المسلمين والعمل على توظيف تيارات الإسلام السياسي كأداة لتحقيق استراتيجيتها، إلا أن التطورات اللاحقة فرضت قيودًا على تلك الاستراتيجية، خاصة بعد أن تعرضت جماعة الإخوان لعدد من الضربات الموجعة التي أفقدتها نفوذها على مدار السنوات الماضية، على غرار ما حدث في مصر في ثورة 30 يونيو، أو من خلال سقوط نظام الإخوان في السودان، وتراجعه في ليبيا. ومن هنا تحاول تركيا الإبقاء عل الورقة الأخيرة في مشروعها للتمدد في المنطقة؛ إذ إن إقصاء النهضة وخروجها من المشهد يعني ضرب المشروع التركي في مقتل.
ثالثًا: ضمان النفاذ في الساحات الاستراتيجية، ترى أنقرة في تمكين إخوان تونس وحركة النهضة فرصة جيدة لاستعادة نفوذها وتوسيعه في شمال إفريقيا؛ إذ تظل رغبة تركيا في إحياء العثمانية وعدم قناعتها بحدودها الحالية وفقًا لاستراتيجية “تركيا الكبرى” محركًا أساسيًا ودافعًا للرهان على إخوان تونس وذلك لعدد من الاعتبارات من بينها أن العلاقة الترابطية بين الطرفين تسمح لتركيا بالتغلغل الناعم في تونس ومن ثم النفاذ لأفريقيا، وكذا فإن الحضور الإخواني في تونس يُسهل من مهمة وتحركات تركيا تجاه ليبيا، فقد أشار عدد من التقارير إلى التسهيلات التي قدمتها حركة النهضة لأنقرة فيما يرتبط بنقل التمويل والتسليح للعناصر الإخوانية غرب ليبيا، فضلًا عن أن محورية تونس وموقعها بالنسبة للبحر المتوسط تدفع أنقرة لتعزيز نفوذها في تونس من أجل ضمان الوصول للثروات الهيدروكربونية في منطقة شرق المتوسط
أدوات غير مجدية
ثمة أدوات تمتلكها أنقرة يمكن أن توظفها لمساندة حركة النهضة والحيلولة دون إخراجها من المشهد، والعمل على الإبقاء على حظوظها، ومن بين تلك الأدوات ما يمكن تفعيله في الوقت الراهن وما يمكن تأجيله واللجوء إليه في مراحل قادمة، ومع ذلك يوجد عدد من التحديات والعقبات أمام تفعيل أنقرة لتلك الأدوات أو توظيفها بصورة فاعلة ما يمكن الوقوف عليها فيما يلي:
أولًا: اللجوء للأدوات الخشنة، يمكن أن توظف حركة النهضة مدعومة بالميليشيات التركية في ليبيا والعناصر الإرهابية الأداة العسكرية والعنف في التعاطي مع التطورات الراهنة، وذلك من خلال عدة طرق أولها) عن طريق تبني العنف المسلح ومحاولة نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار عبر جهازها السري والدخول في موجة من الاغتيالات والتفجيرات على غرار استهداف “شكري بلعيد” و “محمد البراهمي”، ثانيًا) يمكن لحركة النهضة بمساعدة تركيا أن تطلق يد الميليشيات والمرتزقة من غرب ليبيا تجاه تونس بهدف إرباك المشهد. ثالثًا) يمكن أن يصبح العائدون من سوريا والعراق والتي تقدرهم التقارير الدولية بنحو 2000 عنصرًا في يد أنقرة وحركة النهضة.
ومع ذلك يصعب تفعيل تلك الأداة لعدة اعتبارات من بينها أن فاتورة العنف واللجوء إليه قد يُعجل من كتابة النهاية لحركة النهضة كما حدث في حالة إخوان مصر، وكذا أن موقف الجيش التونسي والمؤسسات الأمنية وتصريحات الرئيس “قيس سعيد” واحتفاظه بالحق في استخدام سلاح وقوة الدولة ضد أية تهديدات أو محاولات لانتهاج العنف قد تقف عائقًا أمام هذا المسار، خاصة بعد تأكيده بأن من يطلق رصاصة سيواجه بوابل من الرصاص.
ثانيًا: تسخير الأذرع الإعلامية والدينية، يمكن لتركيا أن تُسخّر أذرعها وأدواتها الإعلامية للترويج لعدم مشروعية قرارات الرئيس التونسي، وهو ما حدث بالفعل، ومحاولة التأكيد على الرواية الرامية لوصف ما حدث بالانقلاب الدستوري، إلا أن تلك الآلية قد لا تُجدي نفعًا، خاصة في ظل التأييد الداخلي لتلك القرارات على مستوى القوى والتيارات السياسية، علاوة على أن التأييد الدولي والإقليمي وردود الفعل الخارجية المتزنة- حتى الآن- قد أفقدت حركة النهضة والمنابر الإعلامية التركية ورقة يمكن المناورة بها ومحاولة استغلالها في النيل من تلك الإجراءات، فضلًا عن أن ارتكاز ” قيس سعيد” للنصوص الدستورية التي وضعتها جماعة الإخوان وإيجاد سند دستوري لتلك التحركات وقف حائلًا أمام حركة النهضة للترويج لعدم دستورية القرارات.
من ناحية أخرى، يدخل موقف “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” والذي رعت تأسيسه أنقره، وإصداره لفتوى تُحرم الإجراءات التي لجأ إليها الرئيس التونسي ضمن أدوات أنقرة في دفع الكيانات الموالية لها للعمل على دعم موقف حركة النهضة، حيث تجيد تلك الكيانات توظيف الفتاوى الدينية سياسيًا من أجل دعم المحور التركي، وذلك على غرار موقف الاتحاد من ثورة 30 يونيو في مصر ضد جماعة الإخوان.
في الأخير، يبدو أن الساحة التونسية تشهد تحولًا كبيرًا؛ إذ وصلت العلاقة بين رئيس الجمهورية وحركة النهضة لطريق مسدود، وعلى الرغم من أن تلك القرارات قد لا تُخرج الإخوان وحركة النهضة التونسية بشكل تام من المشهد، إلا أنها قد تصيبها بنوع من الارتباك والتخبط الشديد، وستؤثر بشكل كبير في شعبية الحركة ونفوذها في الداخل التونسي، خاصة في ذلك التراجع التدريجي لها، وعليه يمكن القول أن ورقة أنقرة في المنطقة أُصيبت بهزة عنيفة قد لا تقضي عليها في المدى القريب، إلا أنها تجعل مستقبلها على المحك.