لا يُمكن فصل أي حدث سياسي عن تبعاته الاقتصادية التي قد تكون أكثر تأثيرًا من الحدث ذاته، وهو ما حدث خلال الأيام الماضية مع بروز تداعيات التوترات السياسية التي تشهدها غينيا منذ الخامس من سبتمبر الجاري على الساحة الاقتصادية. ففي أعقاب تلك التوترات، شهدت أسعار الألومنيوم الأسبوع الماضي ارتفاعًا شديدًا مسجلة أعلى مستوياتها في حوالي ثلاثة عشر عامًا ليتم تداولها عند مستويات تقارب 3000 دولار للطن المتري في بورصة لندن. وهو ما أثار المخاوف حول تأثير هذه الاضطرابات على إمدادات الألومنيوم العالمية في الوقت الذي قررت فيه الصين تقليص الإنتاج لخفض الانبعاثات الكربونية.
لماذا ارتفعت الأسعار في أعقاب الانقلاب؟
يُعد قطاع التعدين من أهم القطاعات للاقتصاد في غينيا، ولهذا فإن أي تأثير ضئيل على القطاع يعتبر ضربة موجهة للاقتصاد الغيني. وما يدلل على ذلك، مساهمته بنحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي، و80% من عائدات التصدير، و25% من إجمالي الإيرادات الحكومية. كما يوظف القطاع حوالي 10 آلاف شخص ويعتبر مسئولًا عن جزء كبير من الاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد.
وتأتي أهمية القطاع بفضل البوكسيت؛ حيث تمتلك البلاد أكبر احتياطي لهذا الخام الذي يُقدر بنحو 7.4 مليارات طن، وهو ما يمثل ربع الاحتياطي العالمي. وعلاوة على ذلك، فهي تمثل 22% من الإنتاج العالمي لتحتل بذلك المرتبة الثانية بعد أستراليا، وهو ما يوضحه الشكل التالي:
الشكل (1): إنتاج غينيا من البوكسيت (مليون طن متري)
يتضح من الشكل السابق ارتفاع إنتاج غينيا من البوكسيت بوتيرة سنوية منذ عام 2015 وحتى 2019، من 17.7 مليون طن متري إلى 66.28 مليون طن متري، بما يمثل ارتفاعًا بنحو 274.4%. وإلى جانب هذا، يُنظر إلى غينيا باعتبارها أهم الموردين لخام البوكسيت حول العالم، ولهذا فإنه يُعد من أهم مصادر النقد الأجنبي في البلاد، كما يتبين من الشكل الآتي:
الشكل (2): عائدات تصدير البوكسيت (مليار دولار)
يوضح الشكل ارتفاع صادرات غينيا من خام البوكسيت بنحو 421.6% من حوالي 600 مليون دولار خلال 2015 إلى 3.13 مليارات دولار بحلول عام 2019. وبناء على ذلك تعتبر غينيا من أهم الدول المؤثرة في إنتاج الألومنيوم عالميًا الذي يعتمد بشكل أساسي على خام البوكسيت. فمع اندلاع التوترات السياسية انتشرت المخاوف بشأن تقييد المعروض من الخام، وعدم قدرة البلاد على تأمين احتياجات العالم منه، مما أدى إلى ارتفاع أسعاره بشكل مفاجئ وسريع.
مؤشرات وتداعيات
تشهد أسعار الألومنيوم ارتفاعًا مستمرًا منذ بداية العام في ضوء ما يُسمى بـ”الدورة الفائقة” نتيجة للاضطراب الناجم عن جائحة كورونا والذي ساهم في تعميق الاختلال بين الطلب المتزايد والعرض المحدود بسبب تعطل سلاسل التوريد العالمية ونقص العمال في المصانع وسائقي الشاحنات لتوصيل المعدن، بالإضافة إلى خطة بكين لمواجهة التلوث، وأخيرًا انقلاب غينيا في أوائل الشهر الجاري. وفيما يلي رسم توضيحي لأسعار المعدن منذ بداية العام الماضي وحتى الآن:
الشكل (3): أسعار خام الألومنيوم (دولار/ طن متري)
ولا تقتصر تداعيات الاضطرابات السياسية في دولة من أكبر الدول الموردة للبوكسيت على ارتفاع الأسعار فحسب؛ بل إنها تعدت ذلك، كما يتضح من النقاط الآتية:
1- توقعات باستمرار ارتفاع أسعار الألومنيوم:
يرى البنك الدولي أن سعر المعدن سيصل إلى 2000 دولار للطن المتري بحلول نهاية 2021، مقارنة مع 1703 دولارات للطن في المتوسط خلال 2020، وهو ما يمثل زيادة بنحو 17% على أساس سنوي، وبحلول عام 2035، سيسجل المعدن حوالي 2400 دولار للطن.
في حين يتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع أسعار الألومنيوم إلى 2083 دولارًا للطن في عام 2021، بزيادة تبلغ 22% على أساس سنوي، وبحلول عام 2026، من المرجح أن يسجل المعدن حوالي 2276 دولارًا للطن.
2- ارتفاع أسعار السلع المعتمدة على البوكسيت:
انطلاقًا من أهمية خام البوكسيت في إنتاج الألمونيوم المستخدم في العديد من السلع بداية من قطع غيار السيارات إلى عبوات المشروبات والأجهزة المنزلية، من المُرجح أن يتبع هذا الانقلاب وما صاحبه من ارتفاع في الأسعار حالة من عدم اليقين بشأن أسعار المواد التي تعتمد في صناعتها على هذا الخام.
ومن الجدير بالذكر أنه من المتوقع أن تستمر أسعار البوكسيت في حالة من الاضطراب خلال الفترة المقبلة؛ مما قد يزيد من تكلفة أي سلعة تحتوي على الألومنيوم، وهذا يعني ارتفاع التضخم وتحمل المستهلك المزيد من الأعباء.
3- مخاوف صينية:
تحتل الصين المرتبة الأولى في قائمة الدول المنتجة للألومنيوم؛ ولذلك فهي تعتمد على غينيا بشكل شبه كلي في استيراد خام البوكسيت، كما يتبين من الشكل التالي:
الشكل (4): التوزيع النسبي لموردي البوكسيت للصين (%)
يتبين من الشكل السابق أن الصين تعتمد بشكل رئيسي على غينيا في إمدادات البوكسيت بنحو 55%، تليها أستراليا بنحو 31%، لتأتي باقي دول العالم في المرتبة الأخيرة بنحو 14% فقط.
4- تهديدات روسية:
ترتكز علاقة روسيا بغينيا على قطاع المعادن بشكل أساسي، حيث تستحوذ شركة “روسال” -التي تنتج نصف إنتاجها من البوكسيت في الدولة الإفريقية- على 3 مناجم للبوكسيت ومصفاة للأمونيا في البلاد، كما تقوم شركة “نورد جولد” بتشغيل منجم “ليفا” للذهب في غينيا، والذي يمثل 17% من إجمالي إنتاج الشركة خلال عام 2020. وعقب الانقلاب، هددت “روسال” بإجلاء الموظفين المقيمين في غينيا وهو ما ينذر بتعطل الإنتاج ونقص إمدادات الخام لدول العالم.
هل مصر بمعزل عن تلك التطورات؟
من الممكن أن يتأثر الاقتصاد المصري بارتفاع أسعار الألومنيوم عالميًا؛ إذ يرتبط سعر المعدن في مصر بالبورصات العالمية. وعلى هذا الأساس، لا يُمكن اعتبار أن مصر بمعزل عن هذه التغييرات بناء على النقطتين التاليتين:
1- ارتفاع الأسعار محليًا:
تستورد مصر إجمالي ما تستهلكه من الخامات لتصنيع الألومنيوم من الخارج، وفقًا لتصريحات رئيس غرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات، ولهذا سينعكس ارتفاع الأسعار عالميًا على أسعار المعدن في مصر مما سيلقي بظلاله على أسعار السلع التي يدخل في صناعتها الألومنيوم حتى إن لم تظهر النتيجة خلال الأمد القصير. وفي النهاية، لن يتحمل المنتج تلك الزيادات المستمرة في سعر المعدن، بل سينقلها تدريجيًا إلى سعر المنتج النهائي في السوق.
ويأتي كل ذلك عقب قرار شركة مصر للألومنيوم، إحدى شركات قطاع الأعمال العام، بزيادة أسعار بيع خامات الألومنيوم بالتوازي مع قرارات حكومية بفرض رسوم وقائية على واردات الألومنيوم من الخارج.
2- تعزيز الصادرات:
تتفوق صادرات مصر من الألومنيوم على ما تقوم باستيراده من المعدن، ولذا فمن المرجح أن يعزز ارتفاع أسعار الخام من الصادرات المصرية للخارج لا سيما في ظل زيادة الطلب على الخام المصري نظرًا لتمتعه بجودة عالية تمكنه من المنافسة القوية بالأسواق الخارجية.
وبناء عليه، ارتفعت صادرات الألومنيوم ومصنوعاته بنحو 56% على أساس سنوي مسجلة 379 مليون دولار خلال الفترة من يناير إلى يونيو 2021 مقارنة مع 243 مليونًا خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
وفي الختام، ينبغي الإشارة إلى مدى قوة تأثير الاضطرابات السياسية في الدولة الواقعة بغرب إفريقيا والتي تمتلك أكبر احتياطيات للبوكسيت في العالم على أحد أهم أسواق السلع، مما أدى إلى تعقيد عملية تأمين إمدادات الألومنيوم في ظل مواجهة أسعار غير مسبوقة وسياسات حماية البيئة من قبل الصين أكبر منتج للألومنيوم حول العالم.