أثبتت العديد من الدراسات أن التعليم والتعلم باللغة الأم يُعزز مهارات القراءة والكتابة بطلاقة، ويسهم في اكتساب المفاهيم والمهارات الأكاديمية؛ إلا أنه وفق تقرير صادر عن البنك الدولي في يونيو الماضي تبين أن أكثر من نصف أطفال بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعانون “فقر التعلم”، فهؤلاء الأطفال يفتقدون مهارات القراءة والكتابة بالرغم من تعلمهم باللغة العربية الفصحى، ويُعلل التقرير هذا الضعف نتيجة لتباين لغة التعليم عن اللغة الأمة (اللهجة المستخدمة في البيئة الحياتية)، لذا يقترح البنك الدولي مسارًا لمعالجة هذه الأزمة من خلال النهوض بتعليم اللغة العربية.
فقر التعلم
في أكتوبر 2019، قدم البنك الدولي بالاشتراك مع معهد اليونسكو مؤشر “فقر التعلم” الذي يعكس الحد الأدنى من الكفاءة في مهارات القراءة بأنظمة التعليم حول العالم، وتُقاس بقدرة الأطفال في عمر العشر سنوات على قراءة وفهم نص بسيط. سجلت الدول ذات الدخل المتوسط نسبة 53% ضمن هذا المؤشر عام 2019، مما دعا البنك الدولي إلى تبني مبادرة لخفض معدل فقر التعلم بمقدار النصف على الأقل قبل عام 2030، لكن حالت جائحة COVID-19 دون استكمال تلك المبادرة. ومع إغلاق المدارس زادت الفجوة بين الدول في مؤشر فقر التعلم، فقد احتلت دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المرتبة الثانية في معدلات فقر التعلم بنسبة وصلت إلى 59% عام 2021 وفق إحصاءات البنك الدولي.
وتضخمت هذه الفجوة على صعيد الجنس، وسجلت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكبر فجوات فقر التعلم بين الجنسين لصالح الذكور بنسبة قدرها 10% أعلى من الإناث، وانخفضت هذه النسبة إلى 8% في دول شرق آسيا والمحيط الهادئ، ثم إلى 4% في دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وإلى 3% في دول وسط وجنوب إفريقيا، بينما وصلت فجوة فقر التعلم بين الجنسين إلى أقل معدلاتها في دول أوروبا وآسيا الوسطى، حيث سجلت 2% فقط عام 2021 بحسب بيانات البنك الدولي.
يتناسب مؤشر فقر التعلم عكسيًا مع نسب الكفاءة في مهارات القراءة، فتراجع نسب إتقان القراءة يعوق جميع مهارات التعلم الأخرى في باقي المواد التعليمية، لذا ترتبط نتائج التقييمات الدولية لقياس التقدم في مهارات القراءة بمستويات الأداء في الرياضيات والعلوم بنسب متقاربة لذات الدولة، من هنا يمكن أن تعكس نسب الكفاءة في مهارات القراءة مدى جودة النظام المدرسي. من جهة أخرى، يؤكد تقرير صادر عن البنك الدولي تأثير نسب الكفاءة في مهارات القراءة وتنمية اللغات بشكل عام على تطور مهارات التنظيم الذاتي للطفل، وتعزيز بعض المهارات الاجتماعية والعاطفية.
حدد البنك الدولي مجموعتان من المهارات الأساسية للغة بمختلف أنواعها هما: القدرة على فهم الكلام المنطوق، والقدرة على تمييز الكلمات المكتوبة، وأكد على أن تنمية هذه المهارات يحتاج إلى توفير بيئة لغوية ثرية منذ سنوات الطفولة المبكرة نتيجة لتداخل وتكامل مهارات الاستماع والتحدث والكتابة. وأن ثمة تحديات تحول دون ذلك خاصة في دول الشرق الأوسط منها انخفاض نسب اقتناء كتب أدب الأطفال المنزلية، فبحسب نتائج الدراسة الدولية لقياس مدى التقدم في القراءة Progress in International Reading Literacy Study التي أجرتها الرابطة الدولية لتقييم التحصيل العلمي عام 2016، يقتني أكثر من 60% من طلاب الصف الرابع الابتدائي أقل من 10 كتب في كل من المملكة العربية السعودية والمغرب، وهذا الرقم يوضح نسبة العزوف عن القراءة، حيث أكدت الدراسة أن التلاميذ الذين لديهم 10 كتب أو أقل في منازلهم لا يحبون القراءة ولا يتمتعون بثقة مقارنة بالتلاميذ الذين لديهم أكثر من 200 كتاب في منازلهم مما أثر على مستويات الأداء في تقييمات PIRLS 2016.
من جهة أخرى، تُساهم درجة شيوع العادات والأنشطة الأسرية المرتبطة بالقراءة مثل القصة قبل النوم “الحواديت” في تنمية مهارات القراءة، خاصة إذا ما تمت ممارستها بالطريقة الصحيحة والتي تتضمن القراءة من كتب باللغة العربية الفصحى وتتناول موضوعات تتناسب مع الفئة العمرية للطفل، لكن عدم إتقان الآباء للغة العربية الفصحى يُعد تحديًا آخر يحول دون تنمية المهارات اللغوية خلال مراحل الطفولة المبكرة. وعلى صعيد متصل تعكس نسب إتاحة التعليم المبكر بمراحل رياض الأطفال، ونسب الالتحاق بهذه المراحل حجم معدلات فقر التعلم، حيث تبلغ نسب الالتحاق بمراحل رياض الأطفال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 25% فقط وفق بيانات معهد اليونسكو للإحصاء عام 2019.
وقد تراجع الدور الإعلامي الموجّه للطفل، وتحول مضمون البرامج التلفزيونية للأطفال، بالإضافة إلى ضعف إنتاج الرسوم والأفلام المتحركة خاصة المقدمة باللغة العربية الفصحى، واستبدال الدبلجة من الفصحى إلى العامية، فلكل هذه الممارسات تأثير مباشر في رفع الكفاءة في مهارات القراءة لدى الأطفال، لذا من الضروري زيادة المواد والبرامج الترفيهية للأطفال، وتطوير محتوى تلفزيوني جديد يعزز تعلم اللغة العربية الفصحى.
مسار للمعالجة
جاءت توصيات تقرير “حالة اللغة العربية ومستقبلها” الذي أعدته وزارة الثقافة والشباب بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 2020 للنهوض بتعليم وتعلم اللغة العربية في مقدمة المبادرات التي استعرضتها الورقة الفنية الصادرة عن البنك الدولي في يونيو الماضي تحت عنوان “تعليم وتعلم اللغة العربية.. مسار للحد من فقر التعلم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”. حيث رصد التقرير اتجاهات إيجابية نحو التعلم باللغة العربية، ولكنه رصد أيضًا آراء غير مواتية حول كيفية تحقيق ذلك، فقدم جملة من المقترحات على النحو التالي:
1. وضع أهداف محددة وقابلة للقياس الكمي لنتائج تعلم اللغة العربية للأطفال على المدى القصير والطويل بدعم من أعلى المستويات الحكومية، على سبيل المثال تدشين استراتيجية وطنية لمحو الأمية.
2.الترويج للأهداف على نطاق واسع وربطها بخطط عمل جميع الجهات الفاعلة وذات الصلة بتعليم وتنمية الأطفال، مع تطبيق آليات لرصد وتقييم التقدم نحو الأهداف.
3. تحديد السمات والمفردات المشتركة بين اللغة الفصحى والعامية لبناء جسر بين المعرفة المكتسبة من بيئة الطفل الاجتماعية والتعليمية.
4. تنمية سبل التعرض المبكر للغة العربية الفصحى، وخاصة المفردات والنحو من خلال تشجيع الآباء على القراءة لأطفالهم في سنٍّ مبكرة قبل الالتحاق بالمدرسة، وكذلك إشراك أدب الأطفال والرسوم المتحركة والتلفزيون لتنفيذ استراتيجيات تعزيز تطوير اللغة الشفوية الفصحى للأطفال في وقت مبكر.
5. وضع معايير مفصلة لتقدم القراءة على أساس علم تعلم القراءة باستخدام موارد تعليمية عالية الجودة بما في ذلك دمج الصوتيات، الموارد الرقمية، وأدلة المعلمين لضمان تحقق التطوير المهني، ودعم التدريس.
6. إعادة النظر في برامج تعليم معلمي اللغة العربية (قبل الخدمة)، وبرامج التطوير المهني (أثناء الخدمة).
دعم التدخل المبكر ومراقبة القراء المتعثرين، واللاجئين، وذوي الاحتياجات الخاصة، وتحديدًا في مراحل التعليم المبكرة، مع ضرورة إشراك أولياء الأمور ومقدمي الرعاية في ذلك.