أكدت العديد من الدراسات والأبحاث أن التعلم باستخدام اللغات الوطنية الأم أحد مؤشرات جودة التعليم، لكن تحقيق ذلك في ظل تسارع تطور العلوم يفرض تنفيذ مشاريع ترجمة مستدامة في كافة التخصصات لمواكبة الانفجار المعرفي. وعلى الرغم من قِدم حركة الترجمة في الوطن العربي، فإن محاولات تعريب العلوم ما زالت تواجه بعض التحديات التي تعوق تنامي التعريب والترجمة.
تطور تعريب العلوم
التعريب، عملية تخطيط لغوي تدرس العلاقة بين اللغة والمجتمع وطرق تفاعلهما وتأثرهما ببعضهما بعضًا، وتستهدف حفظ اللغة العربية وصيانتها كمصدر رئيسي لحفظ الهوية والحضارة العربية، ويتحقق ذلك بتعريب التعليم، الذي يرتبط بتنفيذ السياسات اللغوية على الأنظمة التعليمية ومؤسساتها من خلال التعليم باللغة العربية، بما يشمل جميع المناهج العلمية والأكاديمية الأخرى.
ويرتبط التعريب بحركة الترجمة، لكن ثمة اختلاف بين الترجمة والتعريب، فالترجمة تنطوي على جميع الممارسات والإجراءات من لغة إلى أخرى بما في ذلك ترجمة العلوم ومصطلحاتها، بينما التعريب يقتصر على توظيف اللغة العربية في فهم العلوم، لذا يُعد التعريب جزءًا من الترجمة كمجال للمعرفة، مثال على ذلك مصطلح “تكنولوجيا” و”تقنيات” الأول هو ترجمة اعتمدت على النقل من خلال كتابة المصطلح الأجنبي بحروف عربية من جنس المصطلح الأجنبي، أما الثاني فهو تعريب للمصطلح الأجنبي، ويسري عليه قواعد الصرف أو النحو أو خلافه المعمول بها في قواميس اللغة العربية.
وقد أوضحت دراسة بعنوان “مراجعة التعريب في الألفية الثالثة” أن هناك ثلاثة نطاقات للتعريب في الألفية الثالثة تحتاج إلى مراجعة وإعادة النظر في تطويرها: الأول يتضمن أنواع المصطلحات المعربة، حيث يوضح أن تعريب المصطلحات انصب بشكل كبير على المصطلحات العلمية في مجالات التكنولوجيا وعلوم الكمبيوتر، والطب، والهندسة، والرياضيات، والجيولوجيا، والأحياء، والكيمياء، والعلوم الطبيعية، والعلوم التطبيقية، والعلوم الدقيقة، والاقتصاد، والزراعة، وأغفل الاهتمام بتعريب المصطلحات الأدبية، والسياسية، والصحفية، والقانونية، والدينية والإدارية، والمؤسسية. لذلك، يجب الاهتمام بجميع أنواع النصوص والمصطلحات خاصة السياسية والإعلامية في ظل تطور وسائل التواصل الاجتماعية.
أما النطاق الثاني للتعريب فيتضمن حجم المصطلحات المعربة “المجنس أو المنقولة” -كما في كلمتي (تكنولوجيا وتقنيات) فالأولى مجنسة والثانية منقولة- مقابل المصطلحات العربية، وفي هذا الشأن يوجد نوعان من وجهات النظر المضادة، حيث تقترح الجدلية الأولى تبني التعريب المجنس مع الاحتفاظ بأصل اللفظ الأجنبي وتعريب كتابته فقط إما جزئيًا أو كليًا، معللين ذلك بعدم تضرر مفردات اللغة العربية بالمصطلحات المعربة، وتدلل على ذلك باستعارة بعض اللغات الأجنبية لبعض المصطلحات العربية واستخدامها كما هي، وعلى اعتبار أن اقتراض اللغة ظاهرة متواجدة ومنتشرة عبر تاريخ البشرية، كذلك أن المصطلحات المعربة “المجنسة/ المنقولة” توحد المصطلحات التقنية / العلمية الشائعة بين الباحثين والمتخصصين في جميع أنحاء العالم، وتعارض الجدلية الثانية هذه الفرضية ويعكسها أصحاب المذهب الفكري المحافظ عن اللغة العربية، حيث يؤيدون تعريب المصطلحات الاجنبية بمعناها إلى مصطلح عربي له أصل معجمي.
يتعلق النطاق الثالث بالبعد الدلالي للمصطلحات المعربة، يقصد به تعريب معنى المصطلح الأجنبي بغض النظر عن دلالاته، فهناك بعض المصطلحات الأجنبية التي تم نقلها بشكل لا يقبل الجدل كأسماء العلامات التجارية، أو أسماء الأدوية والعقاقير، والمركبات والعناصر الكيميائية، وأسماء العديد من النباتات؛ مثل كلمة باراسيتامول تستخدم للتعبير الدلالي عن دواء خافض للحرارة أو مادة فعالة في الأدوية. إجمالًا فإن أساس عملية التعريب هي النطاق الدلالي للمصطلحات الأجنبية، فالتعريب عملية دلالية ترصد المعاني الدقيقة من المصطلحات الأجنبية.
محاولات وتحديات
دحضت التجربة السورية الخاصة بتعريب العلوم، وخاصة “الطب”، المُسَلّمة القائلة بأن “المصطلح وثيق الصلة بالعلم الذي ينتمي إلى موضوعه، فالعلاقة بينهما كالعلاقة بين الدال والمدلول، فكل حديث عن الدال منفصلًا عن مدلوله إنما ينطوي على فصل بين المتلاحمات”. فرغم اختلاف لغة التخصص “العلوم” عن اللغة العامة إلا أن نتائج التجربة السورية في تعريب العلم كانت إيجابية حتى وقت قريب. بدأ تعريب الطب في سوريا في جامعة دمشق منذ عام 1919، حيث انتعشت حركة الترجمات والمؤلفات الطبية العربية، فتم إصدار المجلة الطبية العربية عام 1924، إلا أن الفجوة الناتجة عن تراجع جهود ترجمة العلوم، وتسارع تطور العلم أثرت على تطور المراجع العلمية العربية، فأصبحت عاجزة عن استيعاب هذا الازدهار السريع والهائل.
أما عن تجربة تونس، فقد بدأت خطة تعريب التعليم عام 1958 من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية، بيد أنها لم تستمر طويلًا، فما لبث أن ارتكس التعريب عام 1964، وتحول إلى اللغة الفرنسية. وفي عام 1976 عادت محاولات تعريب التعليم من جديد، ولكنه واجه مقاومة شعبية شرسة، فظلت السياسة اللغوية في المدارس التونسية حتى عام 2000 باللغة الفرنسية بما في ذلك تدريس المواد المتعلقة بالدين الإسلامي، وحتى اليوم ما زالت محاولات تعريب التعليم لا تحقق أي تقدم يذكر.
من جهة أخرى، تواجه حركة التعريب تحديات مختلفة، فاللغة العربية في حد ذاتها تمثل تحديًا لتوظيفها في تعريب التعليم، ويتمثل هذا التحدي في إدراك الفهم الشفهي للغة، حيث إن لغة الأطفال قبل الالتحاق بالمدارس تختلف عن اللغة العربية الفصحى المستخدمة في التعليم، فثنائية اللغة العربية تختلف في النطق باختلاف الدول العربية، بل وداخل الدولة الواحدة، ويمكن التمييز بين اللغة العربية الفصحى التي تستخدم مكتوبة دائمًا ومنطوقة أحيانًا في التعليم، ومنابر الإعلام، والعمل، وما بين اللغة العربية العامية، والتي يتم التحدث بها كوسائط شفهية في الاتصال اليومي الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك هناك تداخل كبير بين الأشكال العامية (اللهجات) للغة العربية وبين اللغة العربية الفصحى في بعض الدول مثل دول الخليج أو الشام، لذا قد يسهل استغلال هذا التداخل في التدريس والتعلم لهذه الدول مقارنة بالدول التي تقل فيها نسب التداخل ما بين العامية والفصحى.
هذا بالإضافة إلى أن معظم معلمي اللغة العربية لا يتقنون استخدام اللغة العربية إتقانًا كافيًا، كما أنه من المرجح أن يفتقر معلمو المواد الدراسية الأخرى إلى التدريب والثقة في التدريس باللغة الفصحى، وربما لا يرون استعمالها جزءًا من دورهم، لذا من الضروري أن تعالج برامج إعداد المعلمين هذا القصور، فتحدد الاحتياجات اللغوية في كل مادة دراسية بما يدعم تطور مهارة القراءة لدى الطلاب، فكل معلم هو معلم للقراءة بالإضافة إلى مادة التدريس الأكاديمية وفق ما جاء بدراسة صادرة عن اليونسكو عام 2020.
كذلك، تحدد أعداد كليات التربية وتخصصات اللغة العربية فيها درجة تطور البحوث والأدبيات في اللغة العربية، كما يساهم نمو أدب الطفل وخاصة القصص في بناء الخبرات والمهارات اللغوية المبكرة لدى الأطفال. أخيرًا يأتي الحاجز النفسي والاتجاه السلبي نحو تعريب التعليم في مقدمة العقبات والتحديات، حيث يصل إلى حد الرفض الشعبي بسبب تنامي التأثير الاجتماعي والاقتصادي القوي لبعض اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية، والفرنسية، وحديثًا الصينية.
نحو تكامل المجامع اللغوية والعلمية
تلعب المجامع اللغوية دورًا رئيسًا في صيانة اللغة وتطويرها بما يتناسب وخصائص العصر الحديث، لكن هذا الدور قد تقهقر لأسباب متعددة منها ما هو سياسي وخاصة ما خلفته ثورات الربيع العربي، ومنها ما هو صحي على الصعيد العالمي، حيث جمدت جائحة كورونا أنشطة المجامع اللغوية لمدة تخطت العامين، ومن الأسباب ما هو اجتماعي وثقافي وهو ما يمثل أزمة حقيقية، فقد استحوذت المصطلحات الأجنبية على مساحات أكبر للتداول الاجتماعي على الرغم من وجود بدائل عربية لها، بل واستحدثت مصطلحات أجنبية لمفردات ذات هوية عربية أصيلة وخاصة تلك التي ترتبط بالأطعمة كنوع من إثبات الحداثة والتعبير عن الطبقة الاجتماعية ذات المستوى الرفيع.
وفي محاولة لإحياء دور المجامع اللغوية، أقام مجمع اللغة العربية في مصر في مايو الماضي مؤتمرًا يناقش “تعريب العلوم التجارب والمشكلات والحلول”، وجاءت توصيات المؤتمر تؤكد على أزمة اللغة العربية وتعريب العلم، فقد ناقشت جلسات المؤتمر سبل ملاحقة ترجمة وتعريب الأبحاث العلمية والإنسانية في العصر الرقمي، كذلك أوضحت المخاطر والأضرار التي تتعرض لها اللغة العربية في المدرسة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بل وفي المجتمع ككل. كانت هذه التوصيات بمثابة حراك حقيقي نحو بحث قضية التعريب لكن ثمة أدوار لا تزال غائبة هي السبيل نحو تحقيق توصيات هذا المؤتمر، فالتكامل فيما بين مجامع اللغة العربية على مستوى الوطن العربي أمر ضروري وهام، كذلك تفعيل دور اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية التابع للإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية.
يضم اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية اثني عشر مجمعًا، منهم أحد عشر مجمعًا للغة العربية فقط من (مصر، والإمارات، وموريتانيا، وسوريا، والأردن، والعراق، والمغرب، وفلسطين، والسودان، وليبيا، والجزائر) ومجمع واحد فقط للعلوم والآداب والفنون من دولة تونس. ينتج الاتحاد معاجم لغوية وتاريخية وبنوك للمصطلحات العلمية واللغوية، في المقابل يناقش المجمع العلمي المصري العلوم والآداب والفنون الجميلة والآثار، والدراسات الإنسانية والاجتماعية، والعلوم الرياضية والفيزيقية وتطبيقاتها، والعلوم البيولوجية وتطبيقاتها، ولا يوجد ما يثبت تلاقي المجامع اللغوية والعلمية على مستوى الوطن العربي فيما عدا هذا الاتحاد، الأمر الذي يثير تساؤلًا عن كيف يمكن أن نضمن عدم تعارض المصطلحات العلمية المعربة التي يتم إنتاجها في المجامع العلمية مع نظائرها المنشأة في المجامع اللغوية؟.
إن الاجابة على هذا السؤال يستدعي مزيد من التكامل بين المجامع اللغوية والعلمية لبحث استراتيجيات ومناهج تعريب المصطلحات العلمية، وعلى صعيد آخر يفرض التطور التكنولوجي استحداث شعبة للعلوم التكنولوجية بالمجمع العلمي المصري لبحث المصطلحات التكنولوجية وسبل تعريبها، كذلك يجب التوسع في إنتاج القواميس والمعاجم اللغوية التكنولوجية ضمن مشروع عربي شامل يستهدف تعميم المصطلحات على كافة الأصعدة والقطاعات الإعلامية والثقافية والتعليمية والسياسية.